جرت عادة الملوك والحكام القيام بجولات تفقدية في أوطانهم للاطلاع على أحوال مواطنيهم والوقوف عن كثب على أوضاع البلاد والعباد، وقد ذكر لنا التاريخ العُماني اتّباع الحكام العُمانيين لهذا النهج الحميد، الذي قرأناه في سيرة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي وخلفائه من الأئمة والسلاطين الذين تعاقبوا على سدة الحكم في عُمان، ولعل أبرز نموذج هنا هو الجولات السامية التي كان يقوم بها المغفور له بإذن الله، السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- وقد تجلى هذا النهج في سيرة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- الذي اتبع سيرة سلفه الكريم في إحياء الخصال الحميدة، التي تقرب الحاكم من المحكوم وتعزز قيم اللحمة الوطنية ومحبة القائد في قلوب أبناء شعبه.

من القصص الشيقة والطريفة ما أوردته كتب الأدب العُماني في هذا الشأن رحلة السلطان فيصل بن تركي إلى ظفار عام 1907م، على متن اليخت السلطاني «نور البحر»، وقد كان برفقة السلطان ابنه تيمور بن فيصل، والشاعران المعروفان محمد بن شيخان السالمي وأبو الصوفي سعيد بن مسلم المجيزي، إلى جانب بقية طاقم السفينة من الملاحين والجند والعاملين.

ويشير النصان اللذان كتبهما الشاعران المذكوران إلى أن الرحلة كانت هادئة ومضت أحوالها على خير ما يرام، حتى بلغت في طريق عودتها بمحاذاة سواحل الأشخرة، في ولاية جعلان بني بوعلي بمحافظة جنوب الشرقية حاليًا، إذ حدث ما لم يكن في الحسبان؛ حيث داهم اليخت إعصار عظيم في عرض البحر، بتاريخ 4 ذي الحجة 1324 هـ (19 يناير 1907م)، فعمَّ الرعب والهلع وبلغت القلوب الحناجر، وكادت أن تقع كارثة إنسانية ووطنية كبرى؛ ولكن الربابنة المهرة تمكنوا من قيادة اليخت ليرسو بأمان في خور جراما، حتى هدأت ثورة الإعصار وواصل المركب مسيره إلى مسقط.

على إثر هذه الرحلة الخيالية، قام كل من الشاعرين ابن شيخان وأبي الصوفي بكتابة قصيدة يؤرخ فيها للحدث، كل وفق رؤيته وعلى طريقته الخاصة. القصيدتان التاريخيتان تنتميان إلى أدب الرحلات، نظرًا لكونهما توثقان رحلة سياحية وتفقدية قام بها السلطان ومرافقوه، وتشتملان على الكثير من أغراض الوصف والمديح والغزل أيضًا، جريًا على عادة الأقدمين.

قصيدة ابن شيخان

تقع قصيدة ابن شيخان في خمسة وخمسين بيتًا، يستهلها بمقدمة غزلية، دون أن يذكر تفاصيل الرحلة وأسبابها ومشاهداتها، وتنتقل القصيدة مباشرة إلى مشهد الإعصار العاصف الذي فاجأ ركاب اليخت بعد أن كان البحر هادئًا وساكنًا في بداية رحلة العودة، ويصف منظر السلطان معتليًا كرسيه، وكأن البحر في هدوئه قد سكن متذللًا للركب؛ لأنه يعلم من الذي يحمله على ظهره، فيقول:

ركبوا بـ(نور البحر) والسلطان في

كرسيه كالشمس في برج الحمل

والبحر أوطأ ظهر متذللا

بسكينة للركب يعرف من حمل

بينا يسير عليه وهو برقدة

حتى تنبه بالأشاخر واختبل

ويطرح ابن شيخان عدة أسئلة لتفسير هذه الظاهرة المفاجئة، وهذا الهياج الذي أثار البحر بعد هدوئه وخشوعه وسكينته، ويفترض ابن شيخان أن البحر ربما اهتز غيظًا وغيرة من هذا السلطان المهيب، الذي يشاركه في هيبته وعظمته؛ فالسلطان يجلس في سرير هيبته على ظهر البحر الذي كان في منزلة سفلى، فاستشاط البحر غضبًا ورفضًا، وثارت ثائرته، ولا شك أن ابن شيخان لا يطرح هذه الأسئلة كأسئلة استفهامية، وإنما جاء ذلك من باب المديح، تعبيرًا عن هيبة السلطان ومكانته وشموخه، إذ يستدرك ابن شيخان مؤكدًا أن ما جرى إنما هو بمشيئة الله تعالى وقدرته، فيقول:

فكأنما عرف الشريك فهزه

غيظ، كذلك من يشارك في العمل

أوَقد درى هذا عليه مستوٍ

بسرير هامته، وهذا قد سفل

ولعل ذلك منه رفض إذ رأى الـ

ــملك المعظم فاستخف به الجذل

أم ذاك خوف منه حين علا على

صهواته ارتعدت فرائصه وجل

بل ذاك أمر ساقه المولى على

من لم يخفه، فصار وعظا كالمثل

ثم يبدأ في وصف مشاهد الهول والفزع، وهذه المشاهد تستغرق جزءًا كبيرًا من القصيدة، التي صوَّرت مقدار الكرب والخوف الذي نال طاقم المركب، وتعكس البسالة التي تحلوا بها، بما فيهم السلطان الذي كان يقف بين الجميع واثقًا كالطود الأشم، فيقول الشاعر:

غشيتهم الظلمات فوقهم وتحـ

ــتهم، فكانت فيهم سودَ الحلل

فإذا أتتهم موجة من وجهة

ولوا وجوههم إليها كالقِبل

لم يلتفت أحد إلى أحد ففي

كل له عن غيره أمر شمل

ويصف ابن شيخان مشهد ارتطام المركب المترنح بالأمواج في معترك الرياح العاتية، وهي تعلو وتهوي به في ظلمات الليل المدلهمة، حتى استبدت مشاعر اليأس في النفوس وانقطع حبل الأمل:

يا نعم نور البحر كم من صدمة

في البحر زاحمها بصَدْرٍ لا يُفَل

كم ظلمة فيه استقلت فانجلت

عن راكبيه بنوره يوم استقل

يهوى فيُوشِك أن يقبّل قعَره

طورًا، ويعلو تارة يبغى زُحَلْ

والأمر ضاق وشمرت أحوالهم

عن ساقها بالرعب وانقطع الأملْ

ويصور ابن شيخان مشاعر الرعب والخوف التي دبت في القلوب، ولجوء الناس إلى الدعاء، متضرعين وجلين مبتهلين إلى الله أن ينجيهم مما هم فيه، مثلما أنجى ذا النون من بطن الحوت، قائلًا:

وعلا الصريخُ وآل أمرهمُ إلى

ملك الورى رب الأواخر والأوَلْ

يا سامعًا ذا النون في الظلمات إذ

ناداهُ فاكشف عن عبيدك ما نزلْ

وتتجلى الرحمة الإلهية، بعد أن تبين عجز البشر وأوشكوا على الهلاك؛ فتداركتهم عناية الرحمن وشملهم لطفه الواسع، وكتب لهم النجاة بعد أن تقطعت بهم الحيل وتعطلت الأسباب، فيقول:

وتخالفت آراؤهم حتى بدا

تدبير نور البحر بالخور احتملْ

علم الإله العجز منهم ظاهرًا

والأمر مرجعه إليه إذْ عضَلْ

فتداركتْهم رحمة منه عَلى

إنقاذهم لمَّا تقطعت الحِيلْ

وفي المشهد الختامي، ترسم القصيدة الدرامية صورة عودة الحياة إلى طبيعتها، بعد أن هدأت ثورة الإعصار، واستوى الماء، واستقر المركب، ودبت في النفوس الطمأنينة ومشاعر الفرج والفرحة بالنجاة، وبدأ الجميع يتنفسون الصعداء بعد أن كانوا قد أيقنوا الهلاك المحتم، ويعود الشاعر إلى المديح والثناء على السلطان، تعبيرًا عن الفرح بنجاته هو ونجله تيمور، فيقول في ختام القصيدة:

بركاتُ سيدنا المعظم فيصل

طارت بهم في ساحل الأمن الأدلّ

يا خور، خور كرامة، ما أنت خورُ جــ

ـــرامةٍ، بل أنت متَّسع الأجلْ

حصّنتَ أعمارًا ومنها عمر من

لو توزن الدنيا بقيمته عَدَلْ

زهرت به الدنيا كعارض مُجْدِبٍ

بكر النعيم به فأشرق واستهلّ

سفَرَت مكارمه بأجياد الورى

دُررا، فهل لنوال راحته خَوَل؟

والشهم تيمور بصحبته أتى

صعبَ الشكيمة واردَ الأمر الجلل

قصيدة أبي الصوفي

أما قصيدة أبي الصوفي فإن أقل ما يقال عنها إنها تحفة فنية بحق، وظف فيها الشاعر مهاراته اللغوية والإبداعية ليشكل منها نصًا وصفيًا في 149 بيتًا، رصد من خلاله التفاصيل الدقيقة لكل ما تقع عليه عينه من مشاهدات عبر تجواله ذهابًا وإيابًا، ويقول الدكتور السعيد الباز: «والشاعر في هذه الرحلة -أو السياحة- يذكر أسباب الارتحال، وزمنه، وبداية الانطلاق في هذه السياحة، والأماكن التي نزلوا بها كمصيرة ومرباط، ثم وصولهم إلى ظفار، واستقبال أهل ظفار لهم، ويمثل هذا الجزء رحلة الذهاب، يليه رحلة العودة، وما واجهوه من متاعب وأخطار، وهو يصور في كل رحلة ما تقع عليه عينه، وما تشعر به نفسه، فيصوِّر البحر هدوءه أو هياجه، حيتانه، وطيره، ويصوِّر ما تحفل به بيئة ظفار من طبيعة خلابة ساحرة، وإذا كان الشاعر قد صور لنا حالات السعادة في هذه الرحلة -وهي كثيرة- فإنه لم ينس أيضًا أن يصوِّر لنا حالات الهلع والفزع، وما أصابهم في البحر في رحلة العودة».القصيدة تبدأ بمقدمة غزلية باذخة تفضي إلى فضاء القصيدة المشحون بالمشاهد والصور، وينقل من خلالها القارئ عبر شريط مرئي من الأحداث والصور والمواضيع، إلى أن ينتهي بالمديح، ونحن هنا سنتوقف فقط عند حادثة الإعصار وكيف وصفها أبو الصوفي، إذ يبدأ مصورًا رحلة العودة التي بدأت لطيفة وماتعة، حتى وصلوا إلى الأشخرة، حين داهمهم الإعصار وقلب موازين الأشياء، فيقول:

فسِرْنا ونور البحر يكتب فِي الهوا

بدُخّانه خطا كما يُكتب السَّطْرُ

إِلَى أن حَذَوْنا بالأشاخر إذ بدا

عمودًا بناه الريح أَوْ شاده العَفرُ

بحادي هوَّاع هَبَّت الريحُ ضَحْوَةً

وهاج عُباب الماءِ إِذ زَمْجَرَ البحر

كَأَنَّ عباب البحر رَضْوَى إذَا بدتْ

عَلَى صدره الأمواجُ وارتفع الصدر

كَأَنَّ السما سقفٌ عَلَى البحر نازلٌ

أَو البحر شالتْه السموات والزُّهر

كَأَنَّ زَفير البحر زَجْراتُ مالكٍ

إذَا سَمَّر النيرانَ أَوْ سِيقتِ الكُفْر

ويستمر أبو الصوفي في وصف مناظر الهول والفزع، حاشدًا كل ما تختزنه ذاكرته من تراث معرفي كبير، يتمثل في أهوال يوم القيامة، التي وصفها بأنها أقل رعبًا وهلعًا مما وقع عليهم في تلك الحادثة المروعة، ويصف جانبًا من حال القوم قائلًا:

ترى القومَ صَرْعَى يَنْزِعون كَأَنَّهم

قَرابينُ يومِ العَشْر أَرداهُم النَّحْر

ومنهم قيامٌ ينظرون كَأَنَّهم

يُنادَون بالوَيْلات ألوانُهم صُفْر

ومنهم قعودٌ رافعون أكفَّهم

يَضِجّون بالتهليل رُحْماك يَا بَر

فيومٌ ولا يومُ الأَشاخِر إنها

يهون لذِكراها القيامة والحَشرُ

ويتابع أبو الصوفي تصوير المشهد الذي بلغ ذروته، والمركب يصارع الأمواج وسط الهول العظيم، إلى أن لاح ضوء الفجر وبدأت تظهر أمامهم ملامح شواطئ صور، وشعروا بقرب النجاة، ودخلوا خور جراما حيث رسا اليخت وخرج من منطقة الخطر، وتنفس الجميع نسائم البشرى بارتفاع الضر وزوال الخطر، فيقول:

فأَسْفَر ضوءُ الفجرِ والبحرُ مُزْبِدٌ

وَقَدْ غاب عنا الجاه والنَّعسُ والغفر

فجُسْنا خلالَ البحرِ نَنتشِق الصَّبا

فبعد ارتفاعِ الشمس بان لنا البَر

نَشَقنا نسيمَ الروح لما تَبينتْ

لمنظرِنا صورٌ ولاح لنا البِشر

طَفِقنا نجارى البر كَيما تَلمًّنا

عن البحرِ أكنافٌ يهون بِهَا الأمر

إِلَى أن دخلنا الخَورَ خور جرامة

فقَرَّت به العينان وارتفع الضُّرُّ

فبُورِكْتَ من خورٍ وبورك ساعةٌ

دخلْناك فِيهَا واستُرِد بِهَا العمر

وبعد أن يعم السكون وتهدأ ثورة الطبيعة ويشعر الجميع بالفرج، يلتفت أبو الصوفي إلى البحر مناجيًا ومعاتبًا له، كيف يظهر الود ويخفي العداوة؟ وكيف يخون العهود ويبدل المواثيق؟ متسائلًا عن أسرار هول ما جرى، وكأنه يصور مشاعر الدهشة والصدمة التي أفاق منها، باحثًا عن تفسير منطقي لهذه العداوة والغدر الذي بدا من البحر، الذي كانوا على ظهره مطمئنين هانئين، وما لبث أن هاج وزمجر وكاد يطويهم في أحشائه لولا أن تداركتهم عناية الله، ولا ينسى أبو الصوفي، وهو يعاتب البحر، أن يتساءل مستغربًا، ألست ترى أن على ظهرك ملوكًا سادة؟ وهم غرر زاهرة في جبين الدهر:

ألا شُلَّتا كفاك يَا بحر إن تكن

دعتْك حَزاراتُ الفؤادِ أَو الأشْر

ألستَ ترى الأَملاك فَوْقَك إنهم

ملوك بني سلطانَ والسادةُ الغُر

أبو نادرٍ فخرُ الوجودِ وتاجُه

وغرَّة وجهِ الدهر أبناؤه الطُّهْر

لقد كتب كل من ابن شيخان وأبي الصوفي عن الرحلة التي قام بها السلطان فيصل بن تركي، وأسهم كل منهما في توثيقها ووصف تفاصيلها بحس الشاعر، الذي كان يعايش الحدث بروحه وقلبه ومشاعره، ويترجمه إبداعًا وشعرًا عاليًا، وحين جاءت اللحظة الحاسمة، عندما داهم الإعصار المركب، كان ابن شيخان وأبو الصوفي يرصدان المشهد ويسجِّلان الوقائع ويعيشان في قلب الحدث، فصوراه ووثقاه عبر قصيدتيهما اللتين نقرأهما الآن بعد كل هذه السنوات، فنستعيد المشهد عبر أبياتهما، فنلمح الإعصار ببروقه وصواعقه، ونسمع هدير الرياح، ونصغي إلى استغاثات الخوف والهلع، وسط تلاطم الأمواج وهياج البحر، ثم ما نلبث أن تهدأ أنفسنا، فنشعر بنجاة سلطان البلاد ومن معه في الرحلة والشاعرين اللذين تركا خلفهما هاتين القصيدتين البديعتين، كوثيقتي نجاة خالدتين.

حسن المطروشي شاعر عماني