راقب الصياد سطح البحيرة فإذا هي ساكنة كصفحة الكتاب، ونظر إلى السماء فإذا هي مرآة للماء. سرح لحظة فخطر له أن يُلقي الشبكة فلا يعرف إن كانت ستختفي في الماء أم في السماء. بدا كل شيء مثالياً باستثناء السكون البالغ، فهذا يعني أنه لا توجد سمكات ترعى ولا رزق يحوم. أفضلُ الأيام ما كان فيها الجو صحواً مع مقدار ضئيل من الريح، والأمواج تلعب مع قليل من الصخب. التفكير في حياته يخنقه. ماذا كان يضير الدنيا لو اختارت لروحه أن تسكن ابن تاجر كبير، أو وزير، أو أمير.

حينما يحضر أفراحهم يشاهد الطعام والفاكهة أشكالاً وألواناً. يرى أُبَّهة البيوت والقصور. تحفها وأثاثها. نمارقها وزخارفها. لوحاتها وزاربيّها. زوجاتهم يرتدين الحرير ويغتسلن بالعطر وماء الورد. التاجر ينوب عنه الرجال في حمل البضائع فلا يشقى، ولا يعض الألم عظامه. الوزير تُفرشُ الأرضُ أمامه بالورد، يخطو خطو عزيز مقتدر. وجنتاه تبظَّان بالصحة. أنفه في السحاب. قدماه لا تكادان تلمسان الأرض من فرط سروره. لا يبادر مخلوقاً من العامة بالتحية، يرد السلام بالكاد دون أن يُعنى بصاحبه، ويمقت الشكاوى، إن ألحَّ أحدهم بطلبٍ يُشير بيده فيسارع حرسُه بمنعه من الاقتراب. أما الأمير فيمد يده في قفص الحريم، كأنه تاجر الدجاج، يجسُّها واحدة واحدة، يتحسَّس البضَّة، يرى ذات العينين النجلاوين، والجسد الطري، والرائحة المخصوصة، يتقاسم مع أبيه الملك أجمل نساء المملكة والممالك المجاورة.

كلهم لا يعرفون الخوف من شُحِّ الطعام، ولا المال، ولا الترياق، ولا غوائل الدهر، ولا بكاء الأطفال جوعاً، ولا ثرثرة الزوجات النكديات، ولا روائح العرق في القيظ بعد الأشغال المُنهِكة. إن شعروا بالملل خرجوا إلى صيد الغزلان والسباع في الجبل، أو حملتْهم المحفاتُ والهوادجُ إلى أصدقائهم في البلدان البعيدة، أو جاؤوا بالسحرة ليقرأوا طالعهم. إذا ضمنوا الرزق والسلطان ناموا ملء جفونهم وانقشع عنهم الأرق.

لو كان منهم لما اختار زوجته الكئيبة، ولما أنجب هؤلاء الفتية الجربانين كالحي الوجوه. إن تزوج من أميرة مملكة بعيدة سيختار ذات العينين الملوَّنتين، ويُنجب منها ذرية تُشرِقُ وجوهُها بالنعمة والطمأنينة والجمال. لن يقضي يومه في طرح الشبكة فقط واستجداء الأمل في كومة سمكات. لن يشعر بالضيق وخيبة الرجاء حين يُخرِجُ الشبكة محملةً بما يلقيه الناس عادة من أحذية أو قباقيب أو ملابس قديمة أو قطع أثاث متهالكة أو أخشاب أو صاري مركبٍ غارقةٍ أو أصداف رخيصة. لكنه في هذه اللحظة يدرك أن الحياة لا تصبح جميلة بالأمنيات، وأن الواقع لا يتغير إلا في أحلام اليقظة، وأن أحلام اليقظة كموج البحر قد ترفعك عالياً لتلقيك في اللحظة التالية إلى العمق أو تلفظك إلى البرِّ.

وبينما هو يصارع فيض أفكاره، انتبه إلى أن الشبكة تشد يده فاستبشر. انتظر دقائق، ثم سحبها، فإذا هي ثقيلة كأن هناك جباراً يشدها من الطرف الآخر. استجمع نفسه وعزم عزمته، ووضع قوته في قبضتيه، ودهش حين خرجت الشبكة شبه فارغة. قلَّبها من جوانبها. أخرج منها جسماً ظنه غريباً في البداية، قبل أن ينتبه إلى أنه قمقم نحاس. رفعه بيد واحدة إلا أنه كان ثقيلاً كأنه حائط من آجر، فاستخدم يده الثانية. نظر فوجد سدادة من رصاص، مختومة بختم مدموغ بشعار وكلمات لم يفهمها.

قال لنفسه إن النحاس ثمنه فيه، والقمقم يساوي عدة دنانير في سوق المدينة، ثم تنبه إلى أن هناك ما يشبه الحركة داخل القمقم، فثبَّته على مقدمة القارب. جلس قبالته. قرَّبَ أذنه منه كأنه يتوقع سماع شيء. ولما لم يسمع نزع السدادة ليرى ما بداخل القمقم. ربما تستقر به لؤلؤة، تقفز به من دَرَك الجرابيع إلى مراتب النبلاء. لكنه سمع صوت عاصفة عظيمة داخل القمقم. خمَّن بفطرته أن هنالك أمراً جللاً في الأفق. أبعد عينه عن فوهة القمقم، وما كاد يفعل حتى انفجر منها خيط دخان. بدأ يتعاظم، بينما فزَّ من مكانه حذراً خائفاً مذهولاً، وهو يراقب تكثُّفَ الدخان، وتشكله رويداً رويداً على صورة جسدٍ هائل. لم يكن قادراً على الإحاطة بطوله، حتى انثنى طرف الجسد العلوي، وبان فوقه رأس هائل. فهم فوراً أنه أمام جني، فوقف شَعرُ رأسه، وتخبطت ركبتاه وأسنانه، وظن أنها النهاية بلا ريب. استجمع نفسه حتى لا يسقط مغشياً عليه فيلتهم الجني لحمه، لكنه نفض الهاجس فما سمع أبداً عن جني يأكل لحم الإنسان. ثم أخرجه الجني من قمقم أفكاره حين نطق بصوت كأنه سقوط الصخر من الجبل:

-أين يعيش النبي سليمان؟!

فقال الصياد بدهشة:

-مات عليه السلام منذ ألفي عام.

انثنى الجني حتى لامس رأسه المركب، وأمسك بسدادة القمقم. قال:

-هذا ختم النبي سليمان. أقوى من سد يأجوج ومأجوج. يقف كالطلسم، لا يمكن لجني اجتيازه ولا حتى خدشه.

انتصب من جديد حتى لامس السحاب وقال:

-هذا يوم سعدك، لك طلب واحد عندي مجاب.

تشجع الصياد وسيطر على رجفات جسده وسأل بفرح ظاهر:

-أياً كان الطلب؟!

قال الجني وهو يفرد يديه:

-أياً كان الطلب. لقد مرت ألف عام كنت أقول فيها إن حررني أحدهم أجعله ملكاً على قومه، ثم مرت مائتا عام أخرى فقلت إن حررني أهبه ثلاث أمنيات، ثم مرت ثمانمائة عام فغضبت وقلت إن حررني أحدهم آخذ روحه وأقتله شرَّ قتلة.

فزع الصياد وسأل:

-فمتى إذن قررت أن تحقق أمنية لمن يفض خاتم سليمان من القمقم؟!

خُيل إليه أن الجني ابتسم قبل أن يقول:

-في اللحظة التي سحبتني فيها من القاع، راجعت نفسي وقلت إن حررني فلماذا أقتله؟ إن كان رجلاً بسيطاً أسعده وأجب طلبه.

عاد السرور والاطمئنان إلى وجه الصياد. قال:

-فلماذا لم تجعلها ثلاث أمنيات كما كانت في البدء؟!

قال الجني بغضب:

-أنت طماع. إن أخبرتك بأنني سأخسف بك الأرض، هل كنت ستقف أمامي على هذا الحال وتسألني نفس السؤال؟

تلطَّف الصياد قليلاً وقال:

-لا تؤاخذني إن عبَّرت أمامك عن مكنون ذاتي. إن أنا إلا رجل فقير وجد الفرصة سانحة أمامه. لا تنس أنني خلصتك بعد ألفي عام من بلواك. ومن يدري ربما كنت ستلبث في قرار البحر حتى يوم القيامة.

قال الجني ولم يزايله الغضب:

-قل طلبك في الحال.

قال الصياد وهو يحاول أن يخفف حدَّة الجني:

-إن قلت طلبي في الحال فقد أندم. هل أطلب أن أصبح ملكاً على قومي أم أختار قوماً آخرين؟ هل أجمع في يدي خزائن الأرض، أم أجد الحب؟ هل أغيِّر خلقة أولادي أم أستبدلهم بأولاد آخرين؟ هل أختار الوسامة أم الذهب؟ إنني محتار والأفكار تنهمر على رأسي كزخات المطر.

هدأ الجني قليلاً وبدا كأنه يتفحص الصياد ثم قال:

-أنت صياد بسيط تخيلتُ أن تقتصر أمنيتك على الخير لنفسك وزوجتك وأولادك، لكنك كعهدي دائماً بالإنسان. ينسى المعروف في أول منعطف في الطريق.

ولما رأى الصياد يفكر عاد إلى غضبه وقال:

-قل طلبك في الحال.

استمهله الصياد بذكاء. قال:

-ولماذا حبسك سيدنا سليمان؟!

فقال الجني وهو ينتصب من جديد:

- اسمي صخر، اسمع حكايتي، لكن بمجرد أن أنهيها قل طلبك في الحال.

كان صخر خادماً في قصر آصف بن برخيا وزير سليمان. وقع في هوى زوجته. ظلَّ سنوات يخبئ ما تنوء الأمم بحمله. يشاهدها فيطيل النظر إليها. يسأل نفسه حين تصطدم نظرتها بنظرته: هل تشعر به؟ هل تبادله حباً بحب؟ هل تعرف بما يكنُّه لها؟ إن كانت تشعر أفلا تنبه زوجها؟! هل صمتُها دعوة أم أنها لا تنشغل بنظراتٍ تظنُّها عابرة؟ ابتسمتْ ذات يوم. تشجَّع وكاد يناديها باسمها، لكنه ذكَّر نفسه بالعقاب. يا ويله من ذكاء آصف وقدراته المهولة، يا ويله من قوة سليمان العظيم. ثم تحيَّن الفرصة حين خرجا على رأس جيشهما الجبَّار لإخضاع مملكة لا تؤمن بالواحد القهار وبأن نبيَّه سليمانُ. تجاسرَ صخر على الحديث معها. قال لها: «أنا معجب بك مهما تكن العواقب. لو شئتِ لسلبتني روحي. لصفَّدتِني، لقتلتنِي، أو لسلَّمتِني إلى سليمان يحشرني في قمقم». وكم طرب حين ضحكتْ فبان صف أسنانها البيض، وفارت وجنتاها بالحُمرة فازدادت جمالاً على جمالها.

مضت إلى الطابق العلوي دون أن تنظر خلفها. طار وراءها كأنه سحابة، يكاد يقفز إلى رقبتها ليلثمها، أو يشم شذاها. إن ضحكت وسارت إلى مخدعها أفليس لأنها تدعوه؟ إن تسلَّمت رسالته عبر النظر فلماذا حجبت نفسَها عنه آماداً طوالاً؟ ماذا يخيفه إن كان مستعداً ليفديها بعمره؟ لا يريد أكثر من لحظة ليستقر في أعماقها، يذوب فيها، يصير جلدُها حدوداً لجسمه. لا يهمه أن يعود آصف، ويراهما متلبسيْن بالفضيحة. ما أجمل الفضيحة إن كانت دفاعاً عن حبه. ما أجملها حتى إن انتهت بفنائه.

انحرفتْ إلى مخدعها فانحرف وراءها. كانت الستائر المظلمة تحجز الضوء إلا قليلاً ففرح بالعتمة. وقفتْ أمام النافذةِ. سحبت الستائر بسرعة فانسكب شلال من الشمس غشَّى عينيه. للحظة خُيِّل إليه أنها تستدير لتطالعه، لكنه لم ير منها سوى جسد أسود كأنه الظل، ثم بدت له تخلع ثيابها، فانتابه السرور، غير أنه سمع صوتاً كأنه سَلُّ السيف من غِمْده، ثم صعقه صوتٌ آخر صادرٌ من خلفه.

-نعرف ما في ضميرك منذ دهرٍ، لكننا لا نحاسب أحداً على ما لم يبح به أو ما لم يجنه.

نظر خلفه. شعر بالفزع والضآلة حين شاهد الوزير آصف ممسكاً بسيفه. كيف جاء بهذه السرعة من المملكة البعيدة؟ ثم تذكَّر أن آصف جاء بعرش بلقيس للنبي سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه. عرف آصف وزوجته بما يدور في رأسه، وربما بنيِّته في مفاتحتها بالأمر حين يخرج آصف إلى حربه. أنهى الحرب في غمضة عين بجيش عرمرم من المردة والحيوانات والطيور لا قبل لأحد به، ثم جاء إلى قصره في غمضة عين أخرى. سلمه آصف لسليمان، فنهره وضربه ووضعه في قمقم ختم عليه بخاتمه.

ما كاد صخر ينهي حكايته حتى حدث الصياد نفسه:

-آه يا ملعون.. تصفني بأنني «ناكر المعروف» وأنت أكبر الخائنين؟!

ثم رفع صوته قائلاً:

-لقد تحملت الكثير يا مسكين!

لم يلتفت الجني إلى ريائه وقال بنفاد صبر:

- قل طلبك في الحال.

فقال الصياد وعيناه تلمعان:

-أطلب أن أستبدل جسدي مع جسدك لمدة عام. أرى ما ترى. أستخدم قدراتك. أسافر إلى آخر الدنيا. أمر مرَّ السحاب. أجمع كنوز الممالك، حتى لا أُبقي لأحد من بعدي شيئاً.

فزع الجني وقال:

-ألن تفتقد أولادك؟ ثم ماذا تفعل بجسد ملعون يكرهه الجن؟!

فقال الصياد:

-أولادي؟! عندك تصرف فيهم كما شئت، ما يهمني أن تعيد إليَّ جسدي في نفس الساعة، في نفس اليوم، من العام القادم.

انطبقت ملامح الجني على بعضها بغضب هائل لكنه كان عند كلمته. رفع يديه، ونطق بكلمات لم يفهمها الصياد، ثم فجأة انتهى كل شيء وتحققت الرغبة.

***

بعد عام التقيا. وقف الصياد في جسد الجني أمام الجني في جسد الصياد. نظر الصياد إلى وجهه البشري الماثل أمامه وهاله أن ملامحه شاخت. بدا شيخاً طاعناً في السن. ماذا حدث لجسده في عام؟ كيف قفز به العُمر فجأة، وماذا يفعل إذا عاد ليسكن جسداً يناديه القبرُ؟

قال الجني بحذر:

-كن عند وعدك، ردني إلى جسدي.

قال الصياد بقلق وهو يتمعَّن خطوط الزمن التي بدت أشبه ببيت عنكبوت استعمر وجهه:

-سلَّمتُ لك جسدي شاباً فأعدته خرقة بالية!

قال الجني بغضب:

-أنت لم تضع حساباً للزمن. اليومُ في عمر الجني بأعوام من عمر الإنسان. وقد عشت في جسدك خمسين عاماً، حتى بلغت الثانية والثمانين.

بُهت الصياد وتساءل:

-وأين امرأتي وأولادي؟

قال الجني بسرعة:

-امرأتك لم تفهم كيف تبدَّل حالي، ولماذا تعافها نفسي. ولماذا لا أتحدث مع الأولاد، ولماذا لا تقرب يدي الزاد؟ ظنت أنني تزوجت في السر، أو لي عشيقة من الجن. صارت تبكي كلما حلَّ المساء، حتى خنقها البكاء واعتراها الداء. مرضت بالحمَّى وزارها الموت، إلا أنها صمدت وشُفيت من علَّتها. استيقظتُ ذات صباح فلم أجدها لا هي ولا الأولاد. بحثتُ عنهم في كل مكان، لكنهم تبخروا. لم يعد ثمة دليل على وجودهم لا في مدينتك ولا في المدن القريبة، كأنهم أضغاث أحلام، أو هذيانات قيلولة. إن رددت لي جسدي أبحث عنهم وأعُد إليك بأخبارهم إن كانت في أعمارهم بقية.

صاح الصياد بضيق:

-لا أرغب في رؤيتهم وما سألتك إلا من باب العلم بالشيء، لكنني أفكر في أن أعيش للأبد.

قال الجني:

-إن لم ترد أمانتي تحِقْ بك تعويذة تنام على إثرها ألف عام.

بُهت الصياد وقال فزعاً:

-ماذا أفعل وقد صرت أغنى من ملوك الأرض مجتمعين بجسدٍ في الثانية والثمانين؟!

قال الجني متفكراً:

-تدبر في أمر الحياة والموت. أحسن إلى الناس تعش أبد الدهر. يومٌ تحياه بالمحبة أكبر من ألف عام. والملوك لم تعمِّر بكنز المال ولا بضخامة السلطان، ولكن بالإحسان.

فقال الصياد ساخراً:

-ما بال الجني المارق ينطق بالحكمة؟!

قال الجني بصدق:

-إن كنت تتحدث عن الجني الذي فارقته منذ خمسين عاماً فلك الحق. الحياة في جسد إنسان علمتني الصبر. كنت في ضخامة الفيل وقوة السبع ودهاء الذئب وسرعة النسر، وأصبحت نملة. ماذا تفعل النملة الواهنة لتستعين على حياتها الشاقة سوى بالتحمل وتقسيم الوقت والجهد والرضا بالقليل؟

قال الصياد بنفس سخريته:

-نطقت بالحق فأجبرتني أن لا أعيد إليك جسدك!

قال الجني وقد بدأ الغضب يتلبَّسُه:

-يبدو أن خمسين عاماً لم تزدك إلا شهوة في الامتلاك ورغبة في الاكتناز وحماسة للعناد ونقضاً للوعود وإساءة للمحسن كما أسأت إلى امرأتك وأولادك أمامي، أنا الغريب الذي لم يجمعك به الدهر سوى صدفة. أنت تتحيَّن الفرصة لتنفث سمومك وتبدي حقدك وتسطو على ما لغيرك، أما أنا فقد تغيرتُ ولا يهمُّني أن تبلى روحي في جسدِك البالي. أخبرْني لماذا تبحث عن زوجتك وقد أصبحتْ جميلاتُ الأرض طوع بنانك؟!

قال الصياد بلا اكتراث:

-لا أريد منها ولا من أولادي شيئاً، إن كانوا يعيشون ألقيت إليهم بالفتات وغادرتهم.

قال الجني بنفاد صبر:

-وهل اخترت جسدي أم جسدك لتغادر به؟!

قال الصياد بجشع:

-إن عدت إلى جسدي مت خلال بضعة أيام أو شهور، أما بجسدك فبإمكاني أن أحيا مئات الأعوام.

توعده الجني:

-ستنام ألف عام!

قال الصياد بسخرية:

-ستبدو يوماً أو بعض يوم.

صاح الجني:

-لقد كذبتُ عليك، وما كذبتُ إلا لتظهرَ حقيقتُك، وما أظنك ستعيدُ التفكير في قرارك حتى لو أخبرتك صادقاً بما كان. لقد أحببتُ زوجتك، لا لأني خائن، ولكن لأني ما رأيتُ منها إلا حسن معاملة، وطيب معاشرة، وصبر على البلاء. حكيت لها قصتي معك، وأقسمت لها أنني أنت وأنك أنا، لكنها لم تصدق، غير أنها راجعت نفسها بعد سنين، فقد وجدت مني - خلافاً لك - الكلمة الطيبة، وتيقنتْ أنني أوصلت أولادها إلى حياة الرجال وقد أصبحوا تجَّاراً مشهورين، يذهبون محملين بالبضائع إلى بلاد الهند والسند ويعودون منها بالتوابل والبخور واللبان والمُر والماهوجني والطواويس والنسانيس. كنت أستيقظ لسنوات كل يوم، أذهب إلى البحر، أطرح الشبكة، وأعود بالرزق الوفير. وكانت تستقبلني ضاحكة مستبشرة.

فقال الصياد بسخرية:

-أراك بعد ألف عام، أو بالأحرى أرى عظامك وهي كالرميم. لتفرح بالذكريات.

فقال الجني وهو يضحك:

-عاشت زوجتك حتى رحيلها تذكُرُني أنا الغريب لا تذكُرُك أنت. فقدتُ أهلي لكنني كسبتُ أهلاً آخرين، وإن مت بعد يوم أو يومين سيذكرني أبناؤك وقومك إلى يوم الدين..

فقال الصياد وهو يدور دورة في الهواء مستعداً للرحيل:

-لكنهم يعتقدون أنك أنا!

تساءل الجني:

-وماذا يهمك؟!

فقال الصياد بسرعة:

-وهبْتني كل شيء، قوى الجان، والسيرة الحسنة، وكنوز الأرض، والخلود، ماذا أرغب أكثر من ذلك؟!

فقال الجني بأسى وهو يراقب آخر نقطة دخان من جسد الصياد تختفي:

-تخليتَ طوعاً عن حياة قصيرة جميلة، ومنحتني فرصة أن أجد لنفسي مستقراً وملاذاً، أخذتَ جسدي لكنني أمتلك قوة روحي، أخذتَ مني السلطان لكنك منحتني الأهل، نزعتَ مني الحقد ومنحتني نعمة الحب.

حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري