منذ قرون وحتّى اليوم ويد «سيدي بو مدين الغوثشعيب» المدفونة في القدس تلوّح للجزائريين، فنجد أنظارهم مشدودةً نحو الأقصى طوال الوقت.

منذ تلك الفترة بدأت العلاقة بين الجزائر وبلاد الشّام أي خلال الحروب الصّليبية التي شارك فيها سيدي بو مدين مع فصيلٍ من الجزائريين للقتال بجانب صلاح الدّين الأيوبي الذي كافأهم لاحقًا بحيٍّ في القدس سمي حيّ المغاربة (أي القادمين من جهة الغرب)، جاء ذاك ص 24 في الجزء الأول من كتاب «الأمير عبد القادر الجزائري وجزائريو بلاد الشام» للدكتور كمال بوشامة الصّادر عن اتحاد الكتّاب العرب في سوريا عام 2024، بتقديم من رئيس الاتحاد د.محمد الحوراني، يذكر فيه الكاتب بالتّفصيل تاريخ الوجود الجزائري في الشّام، الذي بدأ منذ الحروب الصّليبيّة كما ذكرنا لينتهي بآخر هجرة منظّمة كانت عام 1911م بإشراف العلّامة محمد بن يلس التّلمساني الذي أتى للشّام مع ثلاثمائة عائلة تلمسانيّة، كما يستعرض محطات من حياة الأمير وحياة سلالته ووجهاء الجزائريين في دمشق.

من بين كلّ الجزائريين الذين قدموا للشّام، يعتبر الأكثر شهرةً هم الذين رافقوا الأمير عبد القادر الجزائري في قدومه إليها بعد أن قضى فترة نفيه في مقاطعة «إندر إيه لورا» بعدما أخلّ الفرنسيون بالاتفاق الذي وقّعه معهم فبدل نفيه لعكا أو الإسكندرية كما اشترط، نقل لقصر إمبواز –أي أنه خطف في عملية قرصنة بحرية- وبقي هناك حتى 1852، وكان السّبب الرّئيس وراء هذا الاتفاق قراره بضرورة إيقاف الحرب خوفًا من إبادة شعبه، حيث كانت فرنسا تسعى لقتل كلّ الجزائريين كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر ـ فقد قامت فرنسا حقيقةً بحرق قبائل بأكملها في مغارات عديدة ـ وهذا مذكور في ص31 - وقد كان الأمير بذلك مسلّمًا لقضاء الله وليس مسلّمًا للفرنسيين وهذه العبارة موثّقة في كتابه المشهور «تحفة الزّائر» في الصفحة 323 من الجزء الأول منه، ومن خلال هذا الموقف نستشفّ كمّ الحكمة التي ملكها الأمير ومقدار الثّقة التي دفعته لهذا الاتفاق دون أن يلقي بالًا للومة لائم، فقد أحسّ بأنّه محاصر خاصة بعد معاهدة طنجة التي وقعت من طرف السّلطان مولاي عبد الرحمن المغربي 1844، والتي اعترفت بالوجود الفرنسي على أرض الجزائر واعتبار عبد القادر خارجًا عن القانون (الجزء الثاني ص32)، ويقال: إنّ الأمير تعرّض للخيانة أيضًا من بعض القبائل التي وقفت بصف فرنسا ليس حبًّا لها ولكن خوفًا من بطشها.

بعد أن أنهى الأمير فترة النّفي سمح له بالمغادرة وزار متحف اللّوفر وكاتدرائية سيدة باريس (ويقال إنه مدّ عباءته وأقام الصلاة هناك)، يكشف هذا جانبا مهما من شخصية المناضل وانفتاحه على الأديان ومنحه أهميةً للثقافة ـ ويحسب لمناضلي الجزائر هذه الخصلة، فللمناضل محمد بودية الكثير من الآثار الأدبية ويحسب له أنّه أسّس فرقةً مسرحية في سجنه، وكذلك مفدي زكريا الذي كتب النّشيد الوطني الجزائري في زنزانته رقم 69 وغيرهم الكثير ـ نعود لعبد القادر الذي قصد بورصة وبقي عند العثمانيين فترةً قضاها في النّشاط الثّقافي والرّوحي، ليقرّر بعدها الذّهاب لدمشق، وربما يعود السبب لكثرة الزّلازل هناك في تلك الفترة.

في عام 1855م وصل دمشق وعن ذلك تقول الأميرة بديعة حفيدة الأمير عبد القادر: «أخذ موكب العربات يعبر الوادي الأخضر، ولمّا اقترب من دمشق نزل الوالي من العربة وكذا الأمير الذي كان يجلس إلى يمينه، وامتطى حصانًا عربيًا كميتًا ولم يستطع أحد المستقبلين إخفاء دهشته من هذا التّكريم من السّلطان، أي نائب خليفة المسلمين، للأمير، فهمس أحد الرّجال لا يعرف الفضل إلا ذووه».

ولن نستغرب هذا إذا عرفنا أنّه قبل صعود الأمير البارجة العسكرية التي أبحرت به من مرسيليا لبلاد المسلمين، أطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة.

دخل الأمير دمشق دخول الفاتحين تتقدم موكبه فرق المشاة والخيالة وفرقة موسيقيّة تعزف الألحان العسكريّة، والأهالي كانوا يهتفون لحامي العروبة الذي حارب أكبر امبراطورية بريّة استعماريّة قرابة عشرين عامًا، ويقال: إنه لم يدخل أيّ أميرٍ عربيٍّ عاصمة الأمويين، كما دخلها عبد القادر.

التمّ جزائريو الشّام القدماء حول أميرهم، وصار مسؤولًا عن الجالية الجزائرية في دمشق التي كانت ذات أثرٍ طيب، نسبة كبيرة كانت من المثقفين والعلماء الذين سيتم ذكرهم لاحقا، أما بقية أفراد الجالية فنجد فيها جنودًا سابقين، مزارعين، وحرفيين استقروا في باب السّويقة، استثمروا في المجال الاقتصادي، حيث كان أغلبهم نسّاجين أصلهم من منطقة القبائل، وآخرون خيّاطون، وحذّاؤون وعدد لا يستهان به يعمل في الطّب التّقليدي وطب الأعشاب (49 الجزء الرابع).

أما أكثر ما عرف به الأمير في دمشق هي قصة إنقاذه لمسيحيي الشّام 1860، حيث أنقذ ما يقارب 15000 نسمة وضعهم تحت حمايته في قصري «دمر» المطل على وادي بردى، وقصر «العمارة» القريب من الجامع الأموي، وأجلّ بذلك احتلال فرنسا لسوريا عشرات السنين، إذ أنهم أجّجوا الفتنة ليصير هذا الاقتتال الطّائفي ويكون ذريعةً لهم لاحتلال سوريا، فقد نشبت الحروب الصليبية 1095 تحت الذّريعة ذاتها.

ومما قرأتُه عن هذا الموضوع من مصادر منوّعة: قول المؤرخ شارل هنري تشرشل (يا له من قدر عجيب وفريد من نوعه، عربي من سلالة النبي محمد يحمي ويصون عروش المسيح ويخمد هياج أوروبا المسيحية وغضبها)، وأنّ من بين الذين أنقذهم الأمير أعضاء القنصلية الفرنسية، والقنصلية الرّوسية، لذا كرمته روسيا بوسام حينها ليستطيع لاحقًا عام 1869 التّوسط لدى القيصر الرّوسي لإطلاق سراح (أسد القوقاز) ـ أشهر مقاومي الوجود الرّوسي في القوقاز ـ بعد عشر سنوات من سجنه، ذهب بعدها إلى الحج ومات في المدينة المنورة بعد عامين ودفن في البقيع.

بعد حادثة إنقاذ المسيحيين أرسل الأسقف الجزائري بافي رسالةً للأمير عبد القادر من ضمن من أرسلوا له الرسائل والأوسمة والنياشين، فردّ عليها برسالة طويلة وهنا جزء يسير منها: «ما قمنا به مع إخوتنا المسيحيين كان لزاما علينا أن نقوم به وفاءً للشّريعة الإسلاميّة واحتراما لحقوق الإنسانية».

أما قصة استفزاز المسلمين في دمشق من قبل الفرنسيين فهي كالآتي -كما ذكر في الجزء الخامس من الكتاب ص63-: عيّن الفرنسيون كاهنًا مارونيًا وكان قد انتظر خروجهم من صلاة الجمعة من الجامع الأموي، وانطلق صارخًا بالسباب على سيدنا محمد، فلم يتحملوا ذلك بالطبع، وكان ذلك بعد اندلاع الفتنة ما بين المسيحيين الموارنة والدّروز في جبل لبنان وهرب المسيحيون إلى دمشق.

وقد حمى الأمير المسيحيين بصحبة جنودٍ جزائريين لا يُستهان بهم عددًا وعتادًا وقفوا معه، وقد فتح الدّمشقيون أيضًا بيوتهم في حي العمارة لإخوانهم المسيحيين، ويحكى أن الأمير خرج أمام الجموع الغاضبة التي وصلت لقصره شاهرًا سيفه، صائحًا «أهكذا ترضون نبيكم محمد؟ لن تنالوا من مسيحيٍّ واحدٍ هنا فجميعهم إخوتي».

ولكثرة محبي الأمير الذي اكتسب شعبية واسعة بمواقفه التي تؤكد رجاحة عقله عرض عليه الفرنسيون أن ينصّب ملكًا لبلاد الشّام فلم يقبل ووجّه للجنرال «شارل دي بوفوار» ردًا لم يعجبه، وهذا في الجزء السادس ص72:« مملكتي ليست في هذا العالم إن الحق وإجفاءً، ما يعطيه الله، مالك الملك، لعباده الصالحين، لا يمكن له العيش مع مملكة دنيوية» فهو لم يتقبّل أن يعاني أهله من المستعمر الفرنسي الذي سينصبه هو ذاته ملكًا على بلادٍ أخرى.

وقد اقترح عليه السّوريون لاحقًا هذه المهمة أيضًا فأجاب: «لا يمكنني قبول أية مهمة على حين إن بلدي الجزائر لا يزال تحت نير الاستعمار».

ومما لفت نظري في مسيرة الأمير في دمشقنا قصةٌ تحكي عن إحدى عشرة حانة مقامة بالقرب من الجامع الأموي، رفض المسيحيون بيعها لتجّار دمشق الذين أرادوا شراءها بأغلى الأثمان لإبعادها عن الأموي، ولما سمع عبد القادر بالقصة فاستدعى أصحابها واستطاع إقناعهم ببيع الحانات، وعيّن الحسني على رأس دار الحديث بعد أن أعادها للمسلمين.

ومن الأمور التي كانت غائبة عنّي قبل أن يزيح هذا الكتاب المهم السّتر عنها، الدّور الكبير الذي لعبه الأمير عبد القادر في بناء قناة السّويس، حيث قدم إليه المهندس فرنارد دولسبس طالبًا مساعدة الأمير في تخطي العقبات التي اعترضته، وعندما كان باعتكافه في مكة والمدينة المنوّرة عامي 1863-1864 أقنع السّلطات الدّينية هناك بمشروع القناة، وافتتحت القناة 1869 من قبل الخديوي إسماعيل وبحضور الأمير عبد القادر الجزائري والقصة الكاملة موجودة في الجزء الثامن من الكتاب.

الجزء التّاسع هو من أكثر أجزاء هذا الكتاب حساسيّة في العالم العربي، وهو يتحدّث عن الماسونية وعلاقة عبد القادر بها وفق وجهة نظر الدكتور كمال بوشامة، حيث يذكر أنّ المحفل الماسوني هنري الرابع بعث رسالةً للأمير وهنا فقرة من الرسالة: «إنّ الماسونية والتي من مبادئها وجود الله وخلود الرّوح، وهما أساس نشاطها وكذا حبّ الإنسانية وممارسة التسامح والأخوة العالمية، لا يمكنها ألّا تعترف دون عاطفة بالمشهد الرائع الذي تقدّمه للعالم، فأنت الرّجل الذي دون انبهار يضع الكثير من البراغماتية في شعاره (واحدٌ للجميع)».

لتكمل الرسالة نصها برغبة المحفل بأن يقبل الأمير الهدية التي أرسلها المحفل له وهي (شعار الماسونية، وأن ينضم لهم وبالعبارة الدقيقة: «سيكونون فخورين إذا سمحتم لهم عدّكم بين أتباع مؤسستنا العظيمة».

ليجيب الأمير برسالة تقول: «الحبّ هو الأساس الحقيقيّ للدّين الإسلامي، الله هو الله للجميع ويحبّنا جميعًا».

ويعرض الكتاب رؤية المؤلف «تيري زاركون» في كتابه المعنّون «لغز عبد القادر، الماسونية وفرنسا والإسلام»، حيث يجد أن في المنتجع للإخوة تشابهًا مع فلسفة الإخوان بالطّرق الصّوفية «القادرية» التي نشأ بها الأمير و«النقشبنديّة» التي ولدت في بخارى وأوزبكستان و«الشّاذلية» التي ولدت في مصر، وعبد القادر الجزائري تغذّى من فكر سيّده ابن عربي، وقارئ مهم لفلسفة أفلاطون وابن سينا وغيرهم من أعلام الفلسفة.

هذه الثقافة والقراءات المتنوعة والانفتاح نحو المعرفة كانت سببًا مهمًا لإنتاج الأمير الثّقافي النّوعيّ، وفي مجالات الدّين، الفلسفة والأدب وفي الجزء العاشر من هذا الكتاب يسلّط الضوء على مؤلفاته، فيما يعرض الجزء الحادي عشر لنتاجه الثّقافي والشّعري بشيء من التّوسّع، ليغادر أميرنا الحياة في نهايته عام 1883 في دمشق.

يتضمن الكتاب الكثير من النّصوص التي تمدح الأمير عبد القادر وتذكر مآثره وتشيد بها من قبل الكثير من الشّخصيات المهمة العالمية دينيًا وأدبيًا وسياسيًا، ابتداء من أعدائه الفرنسيين الذين نفوه، لكنّني لم أستعرض هذه النّصوص لأنني افترضت أن المواقف التي واجهها الأمير والقصص التي حدثت معه والتي أظهرت ذكاءه وحكمته، تواضعه وحنكته، رفعة خلقه واتساع ثقافته، وانفتاحه الدّيني، تجعل المديح المكتوب أمرًا طبيعيًّا متوقّعًا، ولا يوفيه حقه مهما كان. عبد القادر الجزائري أحبّ دمشق وأحبّته وسأتجرأ أن أفضح أمرًا حزّ في نفسي وهو أن الدكتور كمال بوشامة مؤلف الكتاب والسّفير الجزائري الحالي في سوريا كان قد أعاد ما تبقى من أمتعة وأغراض ومخطوطات للأمير موجودة هنا في دمشق في عام 2003 للجزائر حين كان سفيرًا في سوريا للمرة الأولى، لأنّني كنت أتمنى لو بقيت الوثائق والأمتعة وعرضت في منزله في دمشق، حيث قضى الثّلاثين عامًا الأخيرة من حياته، وكانت دمشق حينها فرحة باحتفاظها بشيءٍ من ابنها عبد القادر خاصةً وأن رفاته أعيدت لبلاده الجزائر في يوليو عام 1966 بعد أن كان مدفونًا بجوار معلّمه محيي الدّين بن عربي، لكن ذاك بُرّر بأنّه وافق رغبة الأمير بأن يدفن في جزائره بقوله «سأعود إلى بلدي حامل السّلاح، أو محمولًا».