بعد نحو خمسة وعشرين يوما من الحديث المتواصل عن الرد الإسرائيلي على الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل فـي الأول من الشهر الجاري والمبالغة فـي التهديد والاستعداد والحساب وإعادة الحساب والاستنجاد بصواريخ « ثاد» الأمريكية المتطورة للدفاع الجوي، شعر الكثيرون فـي المنطقة وخارجها بالقلق بشكل حقيقي من أن نتنياهو يدفع بالمنطقة إلى حرب خطرة يمكن أن تتطور إلى حرب إقليمية شاملة بل إلى ما هو أكثر من ذلك من وجهة نظر البعض عندما استخدم الطرفان مفردات نووية ونفطية فـي بعض تصريحاتهما للتخويف أو للتلاعب بها، ومما يحسب لواشنطن أن الرئيس الأمريكي بايدن سارع إلى إعلان معارضته استهداف إسرائيل للمواقع النووية والنفطية الإيرانية ليس فقط للخطورة الشديدة لذلك على دول وشعوب المنطقة ومستقبلها ولكن أيضا لأن ذلك هو أقرب سيناريو للانجرار إلى حرب عالمية لا يعرف أحد لا كيف ولا متى يمكن أن تتوقف وتنتهي وما يمكن أن يترتب عليها من خسائر مادية وبشرية ودمار شهد العالم مقدماته فـي غزة ورفح ولبنان. ومع ذلك فإن إعادة التفكير والحساب على الجانبين الإسرائيلي والإيراني والمخاوف المتزايدة فـي العالم دفعت الجميع وخاصة إسرائيل إلى التراجع عن التلويح باستهداف البرنامج النووي الإيراني والمواقع النفطية الإيرانية خاصة بعد تأكيد طهران أنها ستستهدف نفس المواقع التي ستهاجمها إسرائيل ودون تردد. وحسنا أشار نتنياهو إلى أن إسرائيل لن تستهدف البرنامج النووي الإيراني ولا المواقع النفطية ولكنها ستستهدف المواقع العسكرية فقط وهو ما قلل نسبيا من المخاوف السابقة، وجعل العالم يدرك أن هناك حدودا لأساليب التخويف المتبادل والحرب النفسية وأن هناك بقية من منطق يمكن التعويل عليه لإنقاذ البشرية من الإبادة الجماعية والدمار الشامل.

من جانب آخر، فإن ما جعل الحرب أو الاشتباكات بين إيران وإسرائيل أقرب إلى التراشق والاشتباكات المحسوبة بدقة على الجانبين أن كلا منهما حرص على تقليل خسائره فـيها وذلك باللجوء إلى استخدام طرف ثالث لإبلاغ الطرف الآخر بين الجانبين أن أفضل سبيل لعدم التصعيد أن لا يكون هناك رد على العدوان وهو ما حدث أكثر من مرة من حيث عدم الرد وعدم تصعيد القتال حتى لا تتسع رقعة الصراع والمواجهة بين الطرفـين وحتى لا تنجر أطراف أخرى فـي المنطقة وربما خارجها إلى التورط فـيها، ولأن هذا الأسلوب فـي التعامل بين الجانبين والصدام قد حدث أكثر من مرة من قبل فإن المصداقية فـي مواقفهما قد اهتزت بدرجة غير قليلة والى الحد الذي يمكن أن يشكك فـي ما يعلنانه من مواقف وحتى بيانات حول خسائرهما فـي المواجهات. وهو ما ينعكس سلبا على مواقفهما ومصداقيتهما فـي المعارك التي قد تدور بينهما لأي سبب فـي المستقبل. ولعل ما حدث بين إسرائيل وحزب الله منذ هدنة حرب 2006 بينهما والتزامهما بأسلوب التراشق من قبيل ضرْبة مقابل ضربة حتى اغتيال حسن نصر الله فـي 27 سبتمبر الماضي كان بالغ الوضوح والالتزام كذلك.

وقد تغير هذا الأسلوب بعد اغتيال حسن نصر الله زعيم الحزب، وجدير بالذكر أن خسائر أسلوب التراشق وإن كانت لم تعلن على الجانبين بشكل أو بآخر هي أكثر سلبية وتأثيرا، ولعل استئناف حركة الطيران فـي المجال الجوي الإيراني مع التاسعة من صباح السبت الماضي بتوقيت طهران كانت له دلالته من حيث سرعة انتهاء التراشق وكأنه حدث بسيط، يضاف إلى ذلك أن طهران أعلنت عن قتيلين اثنين فقط فـي معارك فجر السبت وأن الخسائر محدودة فقط جرت فـي بعض المواقع وأن ما أعلنته إسرائيل حول عدد الطائرات التي شاركت فـي العمليات (نحو مائة طائرة) وعدد المواقع التي استهدفتها إسرائيل - 20 موقعا - كانت «كاذبة تماما»، وهو ما يضيف فـي الواقع شكوكا أخرى لسيناريو التراشق المحسوب بين إيران وإسرائيل منذ بدأت سيناريوهات التراشق بينهما قبل أكثر من عام، والتي يبدو أن العالم أو الكثيرين فـيه سيعتاد حدوثها وقد يقبل بها بحجة تقليل الخسائر فـي المستقبل.

إن تكرار سيناريو الإبلاغ المتبادل بين إسرائيل وإيران عبر طرف ثالث وطلب عدم الرد على الهجوم بحجة عدم التصعيد خاصة من جانب إيران ودخول دول أخرى تطلب من إيران نفس طلب إسرائيل هو أمر مثير للدهشة والجرأة فـي الوقت ذاته، فالاتفاق على قبول العدوان والسكوت عليه مهما كانت الأسباب هو أمر يسيئ إلى الدولة مهما كانت مبرراته الذاتية أو المسببة. كما انه أمر غير معتاد وغير مألوف فـي التعامل بين الدول أو للتغطية على مواقف معينة أو فـي ظروف قد تقتضي ممارسة هذا الأسلوب غير الصحيح والمسيء إلى الدولة وسياستها ولشعبها لسنوات طويلة قادمة. وحسنا لم تقبل إيران هذا الخيار الذي يسيئ إليها مهما بدا براقا فـي جانب منه. ومن الطبيعي أن يتحدث الكثيرون عن حقيقة ما حدث وثمنه وقيمته وما ترتب عليه فـي النهاية، خاصة وأن طهران تحدثت عن حقها فـي الرد على الهجوم الإسرائيلي فور انتهائه.

على صعيد آخر فإنه يبدو أن روسيا الاتحادية التي استضافت القمة الخامسة والعشرين لدول بريكس والتي يرأسها الرئيس بوتين قد وقعت فـي خطأ التضخيم والتصعيد المتبادل الذي اختلقته إسرائيل وإيران والإيحاء بأن حربا إقليمية كبيرة يمكن أن تندلع وان تجر معها المنطقة ككل فـي النهاية بكل ما يترتب على ذلك من نتائج. وبالنظر إلى تطور العلاقات بشكل إيجابي بين موسكو وطهران فـي الفترة الأخيرة وتعاونهما فـي مجال التسليح، حيث تردد أن إيران تمد روسيا الاتحادية بالمسيرات الإيرانية وهي مسيرات قوية تحتاجها روسيا فـي الحرب فـي أوكرانيا فـي مقابل تعاون موسكو مع طهران فـي تقنيات دفاعية متطورة ومن أجل أن تعطي موسكو مصداقية وقيمة لتعاونها مع إيران، فإنها أعلنت أنها ستتعاون مع طهران فـي مواجهة العدوان الإسرائيلي ضد إيران ولكن بشرط ألا يؤدي الموقف الروسي إلى إغضاب إسرائيل من موسكو. وتجدر ملاحظة أن إقدام موسكو على الدعم المباشر لإيران ضد إسرائيل جاء فـي إطار محاولة موسكو الحد من التصعيد بين إسرائيل وإيران من ناحية وهو بذلك عمل مشروع ومطلوب، ومن جانب آخر فإنه جاء مباشرة بعد إعلان الولايات المتحدة مساندة إسرائيل بأسلحة متطورة مثل صاروخ الدفاع الجوي «ثاد» وْْتشغيله بطاقمه الأمريكي، يضاف إلى ذلك أن واشنطن وافقت على إمداد إسرائيل بصواريخ اعتراضية قصيرة المدى يعاني الجيش الإسرائيلي من نقص فـيها. ومع اقتراب موعد الهجوم الإسرائيلي ضد إيران أكدت واشنطن على أن هجوم إيران ضد إسرائيل إذا حدث سيعني دفاع أمريكا عنها كالعادة وتحسبا للدفاع عنها كالعادة قامت أمريكا بنقل عدد من الطائرات من طراز أف 16 إلى قاعدة فـي الشرق الأوسط تحسبا لأي تطور، وفـي مقابل هذا الزخم الأمريكي كان ضروريا على موسكو أن تتحرك فـي اتجاه طهران للحد من الانحياز الأمريكي إلى جانب إسرائيل ولتعطي معنى عمليا للعلاقات الروسية الإيرانية ولكن مع الحرص على ألا يؤدي الموقف الروسي إلى غضب أو أزمة فـي العلاقات الروسية الإسرائيلية خاصة وأن موسكو تحدثت عن تعاون استخباراتي مع إيران أو أشكال أخرى من شأنها عدم الإضرار بالعلاقات مع إسرائيل، وفـي الواقع فإن وقوف أمريكا إلى جانب إسرائيل ووقوف روسيا إلى جانب إيران أثار -برغم التفاوت بينهما- مخاوف حقيقية من إشعال فتيل حرب إقليمية أوسع نطاقا فـي ظل الحرائق المتعددة المشتعلة بالفعل فـي المنطقة وحولها فهل تسرع بوتين أم أخطأ عندما مد إيران بمعلومات استخبارية قبل بدء الحرب بساعتين وأعطى بذلك إنذارا مبكرا لإيران كذلك، مما منحها فرصة ثمينة للاستعداد ولكن السؤال هو إلى أي مدى سيؤثر ما جرى وما قد يجري على الأوضاع فـي المنطقة والعلاقات بين دولها من جانب آخر هل سترد إيران على الهجوم الإسرائيلي خاصة وأن إسرائيل تحدثت عن تحقيقه لأهدافه من ناحية وتحذيرها من الرد فـي مثل هذه الحالة ؟