لا تذهب الصورة هنا إلى التشكيك في كل العلاقات القائمة بين الناس فيما بينهم، ولا إلى العلاقات القائمة بين الأطراف التي يمثل أحدها الأفراد، ويمثل أحدها الآخر في مستويات «مؤسسة» مهما كان نوع هذه المؤسسة، وقيمتها المعنوية، ولا العلاقة القائمة بين المؤسسات فيما بينها، فهذه العلاقات كلها محكومة بكثير من النظم والقوانين، والآليات الاجتماعية، في حالة علاقات الناس بعضهم ببعض، والآليات الإدارية في حالة العلاقات الأفراد بالمؤسسة، أو المؤسسات فيما بينها، إذن: ما الذي يخرج عن ذلك كله، ليتلبس بشيء من عدم الاطمئنان، أو ينتابه شيء من التشكيك؟ قد يحضر الجواب هنا إلى غياب شيء من الحقيقة، حيث لا حقيقة مطلقة يمكن الجزم بها، وقد يحضر هنا شيء من مستويات النسبية في مختلف هذه العلاقات، حيث لا يمكن الحصول على الصورة الكاملة للجزم بها، وقد يحضر هنا مستويات الثقة بين مختلف هذه العلاقات القائمة بين مختلف هؤلاء الأطراف، عولجت هذه المسألة في ما يعرف بـ «الآليات» في الشأن الإداري، ومع ذلك لا تزال هناك ما يسمى بالثغرات، فلا توجد نصوص قانون موضوعة لا تخفي فيما بين سطورها شيئا من الثغرات، وهذه الثغرات هي التي تتيح الفرص الكثيرة للوصول إلى كثير مما لا يمكن الوصول إليه بصورة مباشرة، ولذلك يدور حول هذه الآليات الكثير من الالتباس، والالتباس هنا يذهب إلى معنى منع حق لفرد، وإتاحته لفرد آخر، وقس على ذلك أمثلة كثيرة. قد يتم التسليم هنا في شأن الآليات الإدارية، ولكن كيف يمكن قياس ذلك فيما يخص الآليات الاجتماعية، حتى تدخل في متون الالتباس؟ هنا: يمكن القول إن المسألة مرتبطة بقناعات الفرد نفسه، دون أن يخضع لأي قيمة اجتماعية متعارف عليها بين أبناء المجتمع، وهذه إشكالية موضوعية في مسألة الالتباس، فيما أكنه لفلان من الناس من ود، أو كره، وكلا الشعورين لا يمكن أن يطلع عليهما أحد من خلق الله إلا بقدر إفصاحي له، ومن خلال هذين الشعورين يمكنني أن أوزع هبات الود لمن أريد، ومآسي الكره لمن أريد، وكلا هذين اللذين يتلقيان النقيض لا يستطيعان تحييدي أنا لأن أكون منصفا عندهما معا، ومن هنا يأخذ الالتباس مجراه لكلا الطرفين؛ لأن كليهما يظنان بي خيرا، وإن صدقت نية الأول، وخابت نية الثاني، فقد اتخذ قرارا آخر فأبدل الهبات، والمآسي لكليهما انعكاسا لمستجدات في هذه العلاقة، فما بين عشية وضحاها يصبح العدو صديقا، ويصبح الصديق عدوا، ولا يمكن الجزم بديمومية العلاقات بين الناس، فالإنسان، كما هو معروف عنه، «حمال أوجه» أي أنه لا يستقر على حال، ولذلك جاء في الحديث، عن أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» - رواه مسلم، حسب المصدر -. وهل الالتباس يعد ضعفا في مجمل العلاقات؟ شخصيا، لا أنزله منزلة الضعف، لأنه حقيقة، ولا أحد ينكرها، وهو يعكس الحالة غير المطلقة في فهم العلاقات، ولذلك تأتي المكاتبات، والتدوينات، والتوثيق تحاشيا للضرر المرتقب من هذا الالتباس، ولا أقول في حالة حدوثه، فهو حادث بالفعل، وإنما يتوارى عن الأنظار في ظروف آنية، ويستل سيفه في لحظات فارقة، واللحظات الفارقة هنا، هي تلك التي قد يشعر أحد طرفي العلاقة أنه إن لم يتخذ قراره المصيري في ذات الأمر سيفوّت الفرصة النادرة له لتحقيق ما تصبو إليه نفسه، دون أي اعتبار لمستوى الضرر الذي قد يصيب الطرف الآخر في هذه العلاقة أو تلك. |