لـن يخـتلف اثـنان في أنّ الـثّـقـافة الشّعـبـيّـة ذخيـرةٌ من ذخائـر كـلِّ مجـتـمـعٍ وكـلّ ثـقـافـةٍ وطنـيّـة أو قـوميّـة. والذّخيرةُ هذه ذخيرةٌ حيّـة لأنّها تـدخـل في تـكوين طاقـة الإبداع الأدبيّ الفـنيّ والجماليّ من زاوية كـونها ذلك المنـتوج الذي يكـتـنـز خـبْـراتٍ في التّـعـبير متـنـوّعـةً وقـابـلةً، في الوقـت عـيـنِـه، لأن يُـبْـنى عليها أو، قُـل، لأن يقع الانطلاقُ منها صعـوداً نحو درجاتٍ أعـلى من الإبـداع الثّـقافيّ. الثّـقافـةُ الشّعـبيّـةُ، هـنا، كـمثـل الثّـقـافة العالِمة: لا يَـبْـلى قـديـمُها ويـنـدثـر رسمُه ولا الزّمنُ يعـفـو عليه، بل يتحـوّل مخزونُها المتحقِّـق إلى وَقـودٍ لعـملـيّة إنـتاجٍ ثـقـافيّ جديد: قد تأخذ من ذلك الماضي، كـثيـرَهُ أو القـليل، وقـد تُعـيد تكـيـيـفه في منـظومةٍ جـديدة، غير أنّها تـضيف الكـثـير، قطعاً، إلى تلك الثّـقافـة مستـفـيدةً في ذلك من مُـتاحاتٍ جديدة. إنّ هـذه العلاقـة، داخل الثّـقافـة الشّعـبيّـة، بين ماضيها وحاضرها هي ما يفـتح لهـذه الثّـقافـة إمكان الاستمرار والتّجـدُّد؛ ما يَـشحذ الأصيلَ فيها ويَصْـقُـله وما يَـزخَـم المعاصرَ ويُـوقِـده. وليس من ثـقـافـةٍ شعـبـيّـة تـبدأ من بـدايـةٍ صفريّـة أو يكـتـفي حاضرُها بمـوارده التي يتـيحُها ذلك الحاضرُ حصراً. أمّا إن جـرّبت ثـقـافـةٌ أن تُـشيح بوجهها عـن تاريخها الماضي وتـبـدأ من الصّـفـر، فـلن تـكـون -حـينَـها- ثـقـافـةً للشّعب ولن يسعها أن تعـبّـر عنه وعن العـميـق فيه، بمقـدار ما ستـكون منسوبةً إليه، زوراً، ومفروضةً عليه من عـلٍ.

ليس مـن تعـارُضٍ، أَلْـبَـتّـةَ، بين التّـمسُّـك بمـوروث الـثّـقـافة الشّعـبـيّـة وحِفْـظـه من التّـبدُّد والانـدثـار، والسّعـيِ إلى تـجـديـده والارتفـاعِ بـه مبـنًـى ومضمـونـاً إلى مسـتـويـاتٍ أعلى في الوقـت عـيـنِـه. إنّـهـما عمـليّـتان متـرابطـتـان ومتضامـنـتـان متكـامـلتـان، بل إنّ الثّـانيـة منـهما -وهي مرْبـطُ الفـرس ومَـعْـقـدُ الرّهـان- لا يمـتـكـن لها أمـرٌ إلاّ متى صِـينَ الموروثُ الـثّـقـافـيّ الشّعـبـيّ وحـوفِـظَ عليه ومُـتِـحَ من ينابـيـعه. بيان هذا أنّ التّـجـديد الحـقّ هـو عـيـنُـه التّـجــدُّد؛ أي الفعـلُ المـبـدِع المنطـلق من ذاتـيّـة الـثّـقـافة نـفسِـها، وليس ما يـقـع عليها من تجـديـدٍ فـوقـيّ أو من فـوق. إنّه تحـرُّرُ طاقـةِ الخـلق داخل الـثّـقـافة وانـطـلاقُـها من حيّـزها التّـعـبيـريّ والجماليّ التي هي فيه نحـو مساحـاتٍ جـديدة وأشكالٍ جـديدة تسـتـدخـلُـها فيها وتُـوطِّـنـها في نسيجها لتـتـحـوّل إلى قـوّةٍ جـديـدة فيها خلاّقـة ودافعـة. هكذا لا تستـحـقّ ثـقافـةٌ أن تكـون تجـديـديّـة إلاّ متـى استـوعبـت مخـزونـها الموروث ولم تـتـنـكّـر له. في الوقـتِ عـيـنِـه لا تستـحـقّ مـوروثـها إلاّ إذا كانت قـادرة على الإضافـة إليه وعلى التّـجـديـد.

يـؤديـنـا السّـياقُ السّابـق إلى التّـشـديـد على الفـكـرة التّاليّـة: إذا كـان كـلّ مسـعًـى إلى الحـفـاظ على المـوروث الـثّـقـافـيّ الشّعـبـيّ (والـثّـقـافيّ العـالِـم بل وكـلّ مـوروثٍ حضاريّ) مَـسْـلكاً إيـجابيّـاً ووطـنـيّـاً/قـومـيّـاً محـمـوداً، فإنّ صـوْن ذلك المـوروث لا يـكـفي وحـده كـي يـؤدّيَ مجـتـمـعٌ رسالـتَـه تجـاه مـوروثـه الـثّـقـافـيّ والحضاريّ عـلى الوجـه الأمثـل، بـل يحـتـاج أداؤهـا الصّـحيـح - كما يحـتـاج الوفـاءُ الحـقُّ لذلك الرّأسمـال الـثّـقـافـيّ والحضـاريّ - إلى أن تُـمْـنَـح الحياةُ ثـانيـةً لذلك المـوروث: أن يخـرُج من تـاريخـه الماضي ليـنـتسب إلى تاريـخـنا الحاضـر. إنّ إنجـاز مثـل هـذه الانـتـقـالة بالمــوروث الـثّـقـافـيّ الشّعـبـيّ من زمـنٍ إلى زمـنٍ، وبـثَّ روح الحيـاة فيـه مجـدّداً، لا يكـون بمجـرّد استـعـادتـه كما تَـنَـزَّل - أوّل مـرّةٍ - في بيـئـتـه وفي زمـنـه الخـاصّ، بـل هـو يكـون فـقـط إن أُعـيـدَ تـقـديمُـه تـقـديـماً جـديـداً يـتـوسّـل إمـكانـيّـات اليـوم ويـوظّـف ما فيها من أساليب وتـقـنـيّـات ورؤًى جـديدة إلى المادّة الـثّـقـافيّـة؛ وذلك من أجـل ضـخِّ دورة حيـاةٍ جـديـدة في ذلك الموروث، ورياضـة الأذواق الجمـاليّـة للأجيـال الجديدة على استـطابـتـه واستـعـذابـه واستـذاقـة ما يكـتـنـزُه من جمـاليّـاتٍ غـنـيّـة. بعـبـارة أخـرى، لا يـسع مـوروث ثـقافـيّ أن يـتـجـدَّد ويَـحْـيـا ثانيـةً ويـستـمـرّ وجـوداً وأثـراً إلاّ حيـنـما يُـهـيِّـئ المجـتـمعُ مشـروعـاً متـكامـلاً للنّـهـوض العـلـميّ بـه يتـعـهّـده بالرّعـايـة والتّـطـويـر، ويستـثـمـر في كـنـوزه الـثّـقـافـيّـة ودفائِـنـها النّـفيـسة.

هـذا ما فعـلـه عصر النّهضـة في القـرن السّـادس عشـر، مـثـلاً، تجـاه كـلّ المـوروث الـثّـقـافـيّ الأوروبـيّ، النّـخـبـويّ منـه والشّعـبـيّ مـعـاً. لـقـد فجّـر يـنابيـع ذلك المـوروث في الشّـعـر، والمسـرح، والموسيـقـى، والفـنّ التّـشـكيـليّ، والنّـحـت، والعمـارة... وأعـاد بنـاء هـذه جميـعـها على قَـوامٍ جـديد، مـرتـفـعـاً بالـذّائـقـة الجمـاليّـة إلى مسـتـوًى من السّـمـوق بعـيـد. ما كـان عصـر النّـهضـة ابـتـداعـاً غيـرَ مسـبـوقٍ لطـرائـقَ في التّـعبيـر، بالكـتابـة والأصـوات والصُّـوَر، كما قـد يُـظَـنّ، بل أكـثـرُ عـمـلِ أدبـاء النّـهـضـة وفـنّـانيـها كـان على المـوروث الـثّـقـافـيّ الأوروبـيّ، الرّومـانـيّ واليـونـانـيّ، لكنّـه ما أتـى مجـرّد محـاكـاةٍ لـه أو تـكـراراً لأساليـبـه، بـل خَـلَـع عليه النّـهـضـويّـون روح عصـرهم وذوق زمنـهـم الجـديـد.

من البـيّـن أنّ العـنايـة بالـثّـقـافـة الشّعـبـيّـة والاحتـفـاءَ الحـقيـقـيّ بـها ينـبـغـي أن يـرْكَـب مَـرْكـباً عـلمـيّـاً؛ إذِ العـنـايـةُ هـذه صنـاعـةٌ متكـاملـةُ الأركـان على مـا دَلَّـتْـنَـا تجـربـةُ النّـهضـة في أوروبـا على ذلك. وهـذا يعـنـي، ابتـداءً، أنّ على أيّ مشـروع للنّـهـوض بـهـذه الـثّـقـافـة أن يـنـأى بنـفـسه عن التّـعامُـل معـها بوصـفـها معـطًـى (ثـقـافـيّـاً) نـاجـزاً ونـهائـيّـاً لا يحـتـاج إلى أكـثـر من استـعادتـه في فـطـريّـتـه و«سـذاجـتـه» الأولى؛ ذلك أنّ هـذه نظـرة فـولكـلوريّـة، بامتـيـاز، إلى الـثّـقـافة الشّعـبـيّـة لا تسـدي إلى الأخيـرة أيَّ خـدمـةٍ على وجـه الإطـلاق، بـل هي تعـيش عالـةً على مـوروث تلك الـثّـقـافة. ينـبـغي أن تكون نـقـطـةُ انـطلاق مشـروع النّـهـوض بالثّـقـافـة الشّعـبـيّـة التّـعامـل مع الـثّـقـافة تلك بوصـفـها خامـةً قابـلـةً لمـزيـدٍ من التّـصـنيـع، تـمـامـاً مثـلـما أنّ مـنـتـجي تلك الـثّـقـافة صـنّعـوها من خامـات (= لحـظات ثـقافـيّـة) سابقـة ولم يكـتـفوا بإعـادة إنتـاج ما وجـدوهُ بين أيـديـهـم. وليس التّـصـنيـع الذي نـدعـو إليـه سـوى العكـوف العـلمـيّ على ذلك الميـراث الـثّـقـافـيّ الشّعـبـيّ: تـدويـناً ودرسـاً وتحـليلاً وابتـنـاءَ صيـغٍ جديدة لإعادة تـقـديـمه على الأساليب الحديـثـة من غير إِذْهـاب مضـمـونـه وجـمـاليّـاتـه الخاصّـة. بعبـارة أخـرى، نـحتـاج إلى الانـتـقـال من هـاجـس حمايـة التّـراث وصـوْنـه من التّـبدُّد إلى هـاجـسٍ إنـتـاجـيٍّ أرقـى هو ما أطـلـقـتُ عليه، مـرّةً، تـنـميـة الـتّـراث.