أعودُ بالذاكرة إلى الوراء، حين كانت «فلسطين» هي أيقونة العرب، وقضيتهم العظمى، وأغنياتهم، وثوراتهم، وغضبهم، حين كان الإعلام الخليجي يفرد الساعات الطوال في التلفاز للتبرُّع الشعبي للقدس ولإعمار لبنان، وكان الأمراء والأثرياء والبسطاء يسارعون لبذل الغالي والنفيس، وكانت الملايين تنهال في دقائق البث، كان المشهد عفويًا، وعظيمًا، وملحميًا، وكانت كتب التاريخ المدرسية مليئة بحكايات الثورة العربية، وبطولات الشهداء، وكانت كتب اللغة العربية تردد الأناشيد الحماسية: «فلسطين داري، ودرب انتصاري»، وكان العرب يختلفون على كل شيء، ولكنهم يتفقون على أمر واحد وهو تحرير «فلسطين» من «العدو الإسرائيلي الغاصب»، وكانت المظاهرات العارمة تعم الوطن العربي بعد كل رصاصة تدوي في القدس، وصوت «الغضب الساطع» يملأ شاشات التلفاز، وهدير الجماهير الثائرة يصمُّ الآذان، كان ذلك قبل سنوات ليست بعيدة. غير أن الحال انقلب فجأة، وباتت الهرولة نحو التطبيع والسلام هي الشغل الشاغل للعرب، وصارت «إسرائيل» هي الحلم والمنال، وهي من تحكم وتتحكم في مفاتيح القوة، وهي من تفرض شروطها، وأجندتها، وتحول «السلام الرسمي» في بعض الدول إلى سلام شعبي بائس، ومشين، وتغيرت لغة الخطاب الإعلامي بشكل كليّ، ليغسل أدمغة الناس، ويجمّل الصورة المشبوهة والمشوشة في أذهان العامة عن الكيان الغاصب، بل وتحول أخوة الدم، والتاريخ، والدين، والمصير المشترك إلى أشد أعداء المقاومة الفلسطينية، وغدت طبول الحرب الكلامية المنتقصة لمن يحملون السلاح ضد المحتل وتمجّد فيه، تدوي في الآذان، حتى لم نعد نعرف من هو العدو ومن الصديق، وما تلك العقلية التي تحولت فجأة من النقيض إلى النقيض. وسخّر الإعلام العربي المطبّع كل إمكانياته المادية والبشرية للترويج للعهد الجديد، ولعب دوره المشبوه في تغييب الوعي العربي، وتشويه الصورة المشرفة للمجاهدين، ونعتهم بأقبح النعوت، ووصفهم بأبشع الصفات، وتخوين قادتهم، والفرح بانتكاساتهم، وأحزانهم، والعبث بالتاريخ، ولعب ذلك الإعلام البغيض دور المروّج لإسرائيل، والمسوّق لجرائمها، والمسبّح بحمد إنجازاتها. لقد تم غسل العقل العربي، وتشويه الصورة، وتقزيم المقاومة، بإصرار وسوء نية غير معتادين، والأخطر من ذلك هو حين يتماهى الجمهور العام مع ما يروّج له الإعلام الرسمي والخاص، وينساق وراءه كالقطيع، ويرمي خلف ظهره كل المبادئ والقيم والأخلاق العربية والإسلامية التي نادى بها الله ورسوله، والتي عُرف بها حتى عرب الجاهلية من نخوة، ونصرة المظلوم، والانتصار للمكلوم، وكل تلك العادات والشيم النبيلة، وتحول بعض المغردين، والمطبلين، والإعلاميين إلى أبواق سقيمة تردد الادعاءات الصهيونية، وتُعلي من قيمة الاحتلال، وكل ذلك من أجل أن تتحول «إسرائيل» إلى كائن طبيعي مقبول ذهنيا ونفسيا وشعبيا لدى العامة، وأن يتجوّل اليهودي والصهيوني بحرية في أرض العرب، ولكي لا يشعر بالغربة في محيط لا يتقبّل وجوده. إن الإعلام العربي المطبّع قام بدوره الأساسي في تغييب الوعي العام، ومحو الذاكرة الجمعية، ومسخ كل الصور الناصعة للقضية الفلسطينية، وتضخيم صورة العدو، وتقزيم أي محاولة لمقاومته، وذلك لأسباب سياسية بحتة، ولكي يسهل على الآخر كسر الكبرياء التاريخي، والديني للأفراد، وتنتهي قضية فلسطين إلى الأبد، ولكن نسي هؤلاء أنهم رغم كل الضجيج الذي يحدثونه ما هم إلا جزء مهمل من التاريخ، وأن البقاء لأولئك الشجعان الذين يقفون في وجه الغاصب المحتل، ليقولوا له: «ما أنت -أيها الغريب- إلا عابر في كلام عابر»، وسيعلم «باعة الكلام والمبادئ» أن للبيت ربًّا يحميه، ولن يخذل الله المرابطين على تراب فلسطين، مهما تراءى لبعض قصار العقول والنظر عكس ذلك. |