«خذ قسطًا كافيًا من الراحة»، «نَم جيدًا لصحة أفضل»، جميعها نصائح من الصعب الطعن في صحتها، ولكن تفاصيلها وكيفية تحققها تظل مجهولة بالنسبة لكثر، نتابع في هذا الملف فك شيفرة النوم وأهميته بالنسبة للإنسان وحقيقة إمكانية تعزيزه لمناعتنا الجسدية والنفسية، وللحديث عن ذلك يتواصل ملحق جريدة عمان العلمي مع الدكتور إلياس سعيد من كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة السلطان قابوس، والذي قام مؤخرًا بدراسة أثر الحرمان من النوم على التغيرات في وظائف الخلايا المناعية العدلة، وكذلك على المستويات والقدرة على التكاثر في الخلايا اللمفاوية وارتباطها بتشكيل ردود مناعية فعالة.

وتمت الدراسة من خلال متابعة عناصر الجهاز المناعي لمتطوعين أصحاء لمدة 3 أسابيع، حيث نام المشاركون بشكل طبيعي (لمدة تزيد على السبع ساعات يوميًّا) في الأسبوعين الأول والثالث وخضعوا لحرمان جزئي مزمن من النوم (النوم لأربع ساعات فقط يوميًّا بما يشابه نقص النوم الذي يعاني منه الناس عند النوم لأقل من سبع ساعات كل يوم).

وأظهرت نتائج الدراسة أن قدرة الجهاز المناعي للمتطوعين على ابتلاع البكتيريا وقتلها قد قلّت؛ بسبب النوم بشكل غير كافٍ؛ إذ انخفضت قدرة الخلايا المناعية العدلة وهي خلايا أساسية في مكافحة العدوى بالجراثيم على ابتلاع هذه الجراثيم وعلى تفعيل إنزيمات داخلها تؤدي إلى قتل الجراثيم. ولمعرفة المزيد، دار بيننا الحوار التالي:

*******************************************************************************************************

هل لنمط الحياة السريع والمتغيّر تأثير ملموس على أنماط النوم لدينا؟ وهل من الممكن أن تكون زيادة الأمراض المناعية في عصرنا الحالي سببها قلة النوم أو اضطرابه فعلا؟

يمكن أن يؤثر نمط الحياة السريع سلبًا على أنماط النوم بالفعل، وأن يتسبب بزيادة الأرق، وذلك بسبب عدة عوامل أهمها، أوقات النوم غير المنتظمة، والتعرّض لضوء الأجهزة الإلكترونية، واستخدام المنبهات مثل الكافيين، وتقليل الوقت المتاح للراحة، إضافة إلى العادات اليومية التي تتسم بقلة الحركة.

ويوجد ارتباط بين ارتفاع معدل الأمراض المناعية الذاتية في العصر الحديث ونقص النوم أو اضطراباته، حيث تشير الأبحاث إلى وجود علاقة ثنائية الاتجاه بين النوم والأمراض المناعية الذاتية، ويرتبط الأرق المزمن وقصر فترات النوم بزيادة احتمالية الإصابة بأمراض مناعية ذاتية مثل الذئبة الحمراء الجهازية (SLE)، والتهاب المفاصل الروماتويدي، والتصلب المتعدد، والصدفية. كما يمكن أن يؤدي الحرمان من النوم لدى الأفراد المصابين بأمراض مناعية ذاتية إلى تفاقم الالتهابات وزيادة الألم، مما يسهم في تطور هذه الأمراض.

*******************************************************************************************************

ماذا عن الدراسة التي أجريتموها بجامعة السلطان قابوس؟ وكيف أكدت على هذه الفكرة؟

هدفت دراستنا إلى فهم كيفية تأثير نقص النوم على الجهاز المناعي ووظيفة الخلايا العدلة (النيوتروفيلات) التي تؤدي دورا مهما في الجهاز المناعي على وجه التحديد؛ حيث تعد هذه الخلايا من المستجيبين الأوائل للعدوى والإصابات، وتساعد في القضاء على البكتيريا الضارة والفطريات وغيرها من مسببات الأمراض، كما درسنا تأثير نقص النوم على الخلايا اللمفاوية CD4+ T، التي تؤدي دورا رئيسيا في تنسيق الجهاز المناعي في حالات الصحة والعدوى والأورام وغيرها من الأمراض.

وتمت دراسة متطوعين أصحاء على مدى ثلاثة أسابيع، حيث ناموا بشكل طبيعي في الأسبوعين الأول والثالث، ولكن تم حرمانهم من النوم خلال معظم الأسبوع الثاني؛ لمحاكاة أنماط النوم للأشخاص الذين يعانون من الحرمان المزمن من النوم. قمنا بقياس عدة عوامل مرتبطة بوظيفة الجهاز المناعي، بما في ذلك قدرة الخلايا العدلة على محاربة البكتيريا، ونسبة الخلايا اللمفاوية CD4+ T، ومستويات بعض الجزيئات المسماة بالسيتوكينات والكيموكينات.

ووجدنا أن الحرمان من النوم أدى بالفعل إلى تقليل قدرة الخلايا العدلة على محاربة البكتيريا، وخفض نسبة الخلايا اللمفاوية CD4+ T في الدم، كما غيّر توازن بعض الكيموكينات التي تساعد في تنظيم الجهاز المناعي.

فقد كانت قدرة الخلايا العدلة على ابتلاع (البلعمة) البكتيريا أقل بمقدار النصف خلال فترة الحرمان من النوم. وليس هذا فقط، بل كانت قدرة الخلايا العدلة على قتل البكتيريا بتفعيل إنزيم NADPH Oxidase أقل بمقدار النصف أيضًا خلال الحرمان من النوم. حتى فترة التعافي لمدة أسبوع واحد بعد الحرمان من النوم في دراستنا لم تكن كافية لاستعادة وظائف الخلايا العدلة إلى مستوياتها الطبيعية.

وتعد الخلايا العدلة خلايا قصيرة العمر، حيث يبلغ عمرها النصفي في الدورة الدموية 6 - 8 ساعات، وهذا يشير إلى أن التأثيرات الملحوظة تستمر لفترة أطول من هذا العمر النصفي، مما يشير إلى أن هذه التأثيرات ناجمة عن عوامل يمكن أن تؤثر على الخلايا العدلة الجديدة المنتجة.

*******************************************************************************************************

بناءً على نتائج هذه الدراسة، ما التوصيات التي تقدمها للأشخاص الذين يعانون من صعوبات في النوم لتحسين صحتهم المناعية؟

أعطي أولوية للنوم، حدد جدول نوم منتظم، وحسّن بيئة نومك، واطلب المشورة الطبية إذا استمرت مشاكل النوم؛ فعلى الرغم من أن الأدلة المتزايدة تُظهِر أن الحرمان من النوم يؤثر على الجهاز المناعي، لا توجد أدلة تثبت أن نمط نوم محدد سيحسّن وظائف الجهاز المناعي بشكل مباشر. ومع ذلك، فإن الحصول على قسط كافٍ من النوم سيدعم بالتأكيد الجهاز المناعي في أداء دوره الأمثل.

*******************************************************************************************************

هل تؤدي الجينات دورًا في تحديد حاجة الفرد للنوم ونوعية نومه؟

نعم، تؤدي الجينات دورا مهما في تحديد حاجة الفرد للنوم وجودة نومه. على الرغم من أن العوامل البيئية مثل التوتر ونمط الحياة والعادات الصحية للنوم تؤثر أيضًا على أنماط النوم، فإن التباينات الجينية قد تجعل بعض الأفراد أكثر عرضة لاضطرابات نوم معينة. على سبيل المثال، قد يكون لدى البعض استعداد جيني للنوم لفترات قصيرة أو طويلة، أو للإصابة باضطرابات النوم.

*******************************************************************************************************

كيف يؤثر الحرمان من النوم على الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب؟ وهل يمكن أن يسهم النوم الجيد في التخفيف من أعراضها؟

يمكن أن يؤثر نقص النوم على مسار الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، ويمكن للنوم السيئ أن يعرقل قدرة الجسم على تنظيم مستويات السكر في الدم، وهو ما يرتبط بزيادة خطر تطور مضاعفات مرتبطة بالسكري، مثل: أمراض القلب والسكتات الدماغية وتلف الأعصاب. كما يمكن أن يؤدي نقص النوم إلى ارتفاع ضغط الدم، حتى لدى الأفراد الذين ليس لديهم تاريخ من ارتفاع ضغط الدم، وزيادة ضغط الدم المزمن يزيد من خطر الإصابة بالنوبة القلبية والسكتة الدماغية وأمراض الكلى.

ويرتبط نقص النوم بزيادة خطر النوبة القلبية والسكتة الدماغية وفشل القلب، ويترافق النوم الكافي مع تنظيم مستويات السكر في الدم لدى الأشخاص المصابين بالسكري. ونستطيع القول إن النوم الكافي ضروري للصحة العامة، ويؤثر بشكل إيجابي على إدارة الأمراض المزمنة.

*******************************************************************************************************

وماذا عن العلاقة بين اضطرابات النوم والاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن أن يؤدي تحسين نوعية النوم إلى تحسين الحالة النفسية والمزاجية؟

هناك علاقة قوية ثنائية الاتجاه بين اضطرابات النوم واضطرابات الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، حيث يعاني الأفراد المصابون بالاكتئاب غالبا من اضطرابات النوم، ويمكن أن تؤدي مشكلات النوم إلى تفاقم أعراض الاكتئاب. كما أن القلق يمكن أن يعطل أنماط النوم، مما يؤدي بدوره إلى تفاقم أعراض القلق، مما يخلق حلقة مفرغة.

ويمكن أن تؤدي معالجة اضطرابات النوم إلى تحسين أعراض الاكتئاب والمساعدة في تخفيف أعراض القلق.

*******************************************************************************************************

وكيف تتفاعل التغذية مع النوم؟ هل هناك أطعمة معينة تساعد على النوم بشكل أفضل؟

بينما توفر الأبحاث مقترحات مهمة حول الأطعمة التي قد تساعد في تحسين النوم، إلا أنها ليست حاسمة إلى الآن. ومع ذلك، ترتبط بعض أنواع الطعام بنوعية ضعيفة للنوم. يمكن أن تسبب الأطعمة الحارة حرقة المعدة وعسر الهضم، مما يجعل النوم صعبا. كما أن تناول وجبة كبيرة وثقيلة قبل النوم بوقت قصير يمكن أن يعطل النوم، حيث يعمل الجسم على هضمها، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتسبب الكافيين والكحول في التأثير على النوم أو بنوعية سيئة للنوم أيضا.

*******************************************************************************************************

لنتحدث عن ممارسة الرياضة، هل هناك وقت مثالي لممارسة التمارين الرياضية للحصول على نوم هانئ؟

يمكن أن تحسن التمارين المنتظمة نوعية النوم بشكل كبير. لكن ممارسة تمارين رياضية في وقت قريب من وقت النوم يمكن أن ينبه الجسم ويجعل النوم صعبًا. يفضل أن تنتهي من تمارينك قبل النوم بنحو 3 ساعات. إن ممارسة التمارين المعتدلة في وقت مبكر من اليوم أو في فترة ما بعد الظهر تكون مفيدةً عمومًا لنوم هانئ.

*******************************************************************************************************

بغض النظر عن كونها عاملا مُشتتا، كيف يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تساعدنا في تحسين نوعية النوم وتشخيص وعلاج اضطرابات النوم؟

تقدم التكنولوجيا الحديثة أدوات لتحسين نوعية النوم، وتشخيص اضطرابات النوم، وتوفير العلاجات، ويمكن للساعات الذكية وبعض التطبيقات مثلا تتبع أنماط النوم وتقديم ميزات لتعزيز النوم، وتقوم الأجهزة القابلة للارتداء والتطبيقات بمراقبة أنماط النوم، وتقديم توصيات مخصصة، وتقليل التعرض للضوء الأزرق الصادر عن شاشات التلفون مثلا والذي يؤثر سلبًا على النوم. كما تساعد اختبارات توقف التنفس أثناء النوم في المنزل وأجهزة قياس النشاط في تشخيص بعض اضطرابات النوم. كذلك تستخدم آلات ضغط الهواء الإيجابي المستمر (CPAP) لعلاج اضطرابات النوم.

*******************************************************************************************************

أخيرا، ما أبرز التحديات التي تواجه الباحثين في مجال النوم؟ وما الاتجاهات البحثية المستقبلية في هذا المجال؟

يواجه الباحثون في مجال دراسات النوم عدة تحديات، مثل تباين أنماط النوم بين الأفراد، وغالبًا ما يتطلب دراسة النوم تغيير جداول نوم المشاركين أو استخدام تقنيات تدخُّلية لدى المتطوعين، مما يثير مخاوف أخلاقية في الدراسة ويحد من أنواع الأبحاث الممكنة. كما أنه على الرغم من التقدم التكنولوجي الكبير في السنوات الأخيرة، لا تزال هناك صعوبات في قياس وتقييم معايير النوم بدقة.

رغم هذه التحديات، تظهر عدة اتجاهات بحثية واعدة في مجال دراسات النوم. فقد أصبحت دراسة النوم ذات أهمية متزايدة نظرا لارتباطاتها مع جوانب مختلفة من الصحة، بما في ذلك الصحة النفسية، والأمراض المزمنة، والاستجابات المناعية. كما يعمل الباحثون على تطوير تداخلات خاصة بناءً على أنماط نوم الأفراد واحتياجاتهم.