مثل كعكة بثلاث طبقات -يذهب الاعتقاد الشائع- تُخبرنا الطبقة الدنيا من دماغنا أننا عطشى وجائعون، أن الوقت قد حان للذهاب للسرير أو الحمام، تخبرنا أن نتوقف عن الأكل، أن نُبرد أجسادنا في يومٍ صيفي ملهب. فوقها مباشرة، وأقل بدائية منها بقليل، تأتي الطبقة الثانية التي تُخبرنا أن نقفز إلى الرصيف إذا ما مرّت شاحنة مسرعة، ولكن أيضا أن نضرب من يتهجم علينا، أن نصرخ بوجه الشرطة إذا ما استخدموا القوة المفرطة، أن نُلقي حجارة على الواجهات، وأن ننهار باكين. ثم تأتي الطبقة الأخيرة، متوجة بحبة الكرز أعلاها، لتجعل التفكير المنطقي والعقلاني مُمكنا. وهي تضبط مشاعرنا وأجسادنا، تُجري الحسابات، تشدنا إلى مكاتبنا، وتُخبرنا أن ما نشعر به هستيري، وسخيف، وغير لائق.
على الأغلب أن أصل هذه النظرة الطبقية للدماغ (يُعرف بنموذج الدماغ الثلاثي لدى علماء الأعصاب) يعود إلى تصورات الإغريق (أفلاطون تحديدا) عن النفس البشرية، وتصويرها كعربة يجرها حصانان، ويُوجهها السائق الجالس خلفهما.
الفكر التطوري، وإن لم يستخدم استعارات الكعك والأحصنة، إلا أنه أصرّ على أن تُفهم المشاعر على اعتبارها مكون بدائي، بلا وظيفة قائمة، ما نزال نحمله، رغم عدم حاجتنا له، مثلها مثل عظمة الذيل في نهاية عمودنا الفقري، أسنان العقل التي لا تجلب أي حكمة، حلمتين في صدر رجل، وقبضة الرضيع التي يشدها دون أن ينجح في الإمساك بفرو أمه، الذي لم يعد موجودا.
يُفسر القلق والاكتئاب وفق منظور مشابه. باعتباره محاذاة خاطئة misalignment بين دماغ السحالي الذي ما نزال نحتفظ به دفينا تحت قُدراتنا البهلوانية على حياكة الحجج المنطقية، وإجراء التفاضل والتكامل بدون حاسبة، وتطوير خوارزميات تُرشدنا إلى البيت. وكما أن آلام الركبة قادمة من أن نمط حياتنا وثقافتنا تطور على نحو لم تستطع أن تجاريه أجسادنا التي تظن أننا ما نزال نعيش في الغابة، تفشل أدمغتنا في إخبارنا أن نهدئ لأنه مجرد عرض پاورپوینت نقدمه أمام أقراننا، وهو بأي حال من الأحوال ليس بفداحة أن يخرج أمامك أسد من خلف الأحراش، مهما بدت عيون الحضور غير مطمئنة.
والعبرة التي يخرج بها أي مكتئب أو قلق أو غاضب، هو أن جسده يخونه، وأن دماغه يلعب ألعابا خبيثة ضده، وأنه على الأغلب يحمل علله نتيجة تزاوج سيء الحظ بين عيوب خلقية شاذة ورثها من والديه، وظروف تنشئة حرجة. ولأنه لا وقت للانهيار والغضب والتوجس والحزن وحتى الحب في عالم يُطالب بأن تتحرك طوال الوقت، لتدفع إيجار بيتك، وثمن خبزك (كحد أدنى)، أو يخترع لك حاجات تُبقيك في عملك بعد نهاية الدوام، وتبقيك في الليل أرِقاً، قلقا، ومتحفزا.
تصف باريت (المزيد عنها وعن عملها في أجزاء المقال التالية) النظرة القديمة للدماغ ببراعة فتقول: «الدماغ ساحة حرب بين العقلانية من جهة والغرائز والعواطف من جهة أخرى. لطالما أن الدماغ العقلاني مسيطر على الدماغ الداخلي المتوحش، فأنت شخص جيد: صحيح، ناضج، ومُنصف. في المناسبات التي يكون لوحشك فيها اليد العليا -والتي تُسمى شعريا الاستحواذ على اللوزة الدماغية- تُصبح طفوليا وشريرا. وإذا ما فشلت العقلانية في احتواء وحشك الداخلي، فقد يكون ذلك مؤشرا على مرض نفسي».
يحاول بعض علماء الأعصاب اليوم تحدي هذا المنظور الفوقي للمشاعر، ويُشككون في الرؤية الطبقية لوظائف الدماغ. عالمة الأعصاب ليزا فيلدمان باريت تُشكك في أن نواة الدماغ (تُسمى الرمادية المحيطة بالمسال، واختصارا PAG) هي المسؤولة عن الخوف أو استجابات الكر والفر (Fight-or-flight)، بل تقترح أن الدماغ قادر على إنتاج الظاهرة نفسها بعدة طرق. وإذا كنت تُفكر من أين أتت هذه المنطقة، وأنك كُنت تسمع عن منطقة أخرى تُسمى اللوزة الدماغية (Amygdala) يُقال إنها المسؤولة عن الألم والخوف ومعالجة التهديد، فأنت لست وحدك. إذ لا تزال هذه الفكرة قائمة حتى مع أهم علماء الأعصاب حول العالم اليوم. وأُريد أن أطمئنك أيضا أن هذا لا يُغير كثيرا في الحدوتة التي بين يدينا اليوم.
كيف توصلت باريت وزملاؤها إلى أن للدماغ القدرة على إنتاج الظاهرة نفسها بعدة طرق؟
أولا، من خلال تحليل أكثر من 200 دراسة أُجريت في العقود الأخيرة، ومقارنة المناطق النشطة في الدماغ. صوّرت الدراسات الأماكن النشطة على نحو مختلف تماما. بل إنها نقدت إجراءات الدراسات، وشككت في أنها تقيس ما تدعي أنها تقيسه. إذ إن اللوزة الدماغية تنشط لا لأن المرء ينظر إلى صورة تهديد (ثعبان مثلا)، بل لمجرد أن صاحبه ينظر إلى صورة جديدة. أي أن الجِدة هي المحرك لا الخوف. وأن اللوزة الدماغية تنشط بعد أن تكون مناطق أخرى قد نشطت. ما يقترح أنها لا يُمكن أن تكون المسؤولة عن الإتيان بردات فعل في الحالات الحرجة عندما تكون حياة المرء على المحك.
ثانيا، دراسة توأم يُعاني من خلل دماغي متطابق. مع ذلك فقد كانت إحداهما قادرة على تكوين مشاعر الخوف، على عكس الأخرى. وتخلص إلى أنه لو أن الدماغ يُنتج الظواهر بالطريقة نفسها كل مرة، سيعني هذا أنه إذا ما وجد خلل في المنطقة المسؤولة، سيكون المريض دائما غير قادر على تكوين ذلك الشعور.
فوق هذا، تُخبرنا ليزا باريت عبر دراسة تعابير الوجه لدى الأطفال (في سياق الثقافة الغربية طبعا)، أن الوجه الذي نتخيل أنه يعكس مشاعرنا، لا يتطابق مع التجربة اليومية إلا بمقدار ضئيل. يصل إلى 10٪ أحيانا. تخيل وجها غاضبا. هل ترى التقطيبة؟ هل ترى الفم المفتوح باتساع؟ هذا هو تصورنا عن التعبير الغاضب. والآن فكر بالمرات الأخيرة التي أصابك فيها الغضب. أحيانا تقول: يا الله، تقهقه، ترفع حاجبا، وأحيانا لا تقول سوى «معلش» مع أنك تغلي من الداخل. خلاصة القول: إن لكل حالة شعورية (لا أعني أن حالة الخوف مقابل الحزن، بل كل حالة خوف) تمثيلها الجسدي الفريد، حسب السياق، والحِدة، الخ.
ماذا يعني كل هذا بالنسبة لنا؟
ثمة مجموعة من الأمور. أولا، أن التفكير في الدماغ بمنطق المناطق الوظيفية المتخصصة يجعلنا نسيء فهم مدى تعقيد الطريقة التي يعمل بها. يهيئ لنا أن الدماغ يستجيب بحسب المحفزات التي توضع أمامه. إذا ما دخل شعاع ساطع، ترفع يدك لتقي عينيك من وهجه. ما يبدو أنه ردة فعل. إلا أن الأدلة تقترح شيئا آخر. دعونا نُناقش مثالا أوضح. حين تشرب الماء، فإنك تشعر مباشرة بالارتواء. الحقيقة أن الجسم يحتاج إلى ما يُقدر بعشرين دقيقة حتى يصل الماء إلى مجرى الدم. إلا أن خبرة الدماغ في تنظيم وإدارة أجسادنا تستبق وتتوقع ما سيحدث، وبهذا تمنحنا طمأنينة أن نضع كأس الماء وأن ما شربناه كافٍ. يعمل الدماغ طوال الوقت على توقع ما سيحدث حتى يُقلل عدم اليقين. إنه لا يستجيب وإنما يتوقع دائما ما يُمكن أن تمر به، أو تُجرّبه في اللحظة التالية.
ثانيا، المنطقة التي يعتقد أنها مسؤولة عن التعامل مع التهديدات تنشط بشكل خاص عندما تكون تحت التهديد، لكن هذه ليست بأي حال وظيفتها. إنها في الواقع مسؤولة عن تنظيم عمليات أساسية للجسم من بينها الجهاز الهضمي، والمناعة. الأدوية التي توصف لاضطرابات القلق، تستهدف منطقة مختصة بتنظيم الجسم عموما، ووظائفها تتعدى مجرد الاستجابة للتهديدات عبر الكر أو الفر. من هنا نفهم كيف أن لمضادات القلق القدرة على التعامل معه دون أن تُعالجه.
ثالثا، المشاعر لا تولد مع الدماغ ولكنها تُكوّن بفعله. ونحن وإن ظننا أننا نفهم مشاعرنا، كالحزن -مثلا-، لكن الحقيقة أننا كثيرا ما نسيء فهم أمزجتنا، ليتضح أن ما نترجمه على أنه حزن قادم من كوننا -مثلا- نعمل على شيء صعب ومكلف من ناحية الطاقة التي يستهلكها الدماغ. ثمة مثال شديد الشيوع على هذا الشكل من الارتباك، يتندر به الناس كثيرا، هو الخلط بين الجوع والغضب. وهو يُرينا مدى فشلنا أحيانا في تقدير وفهم مشاعرنا.
خلاصة القول: إن ما بين أيدينا من دراسات تُخبرنا أننا لسنا متأهبين دائما لمواجهة الأخطار، وأننا نعمل على الاستجابة الدائمة، بل أن الدماغ على العكس ينخرط بشكل متواصل في تخمين ما يُمكن أن نجربه في اللحظات التالية، ويعمل على أساسه. وأن هذه النظرة الجديدة لطريقة عمل الدماغ تقول لنا شيئا إضافيا عن مدى تعقيده.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
على الأغلب أن أصل هذه النظرة الطبقية للدماغ (يُعرف بنموذج الدماغ الثلاثي لدى علماء الأعصاب) يعود إلى تصورات الإغريق (أفلاطون تحديدا) عن النفس البشرية، وتصويرها كعربة يجرها حصانان، ويُوجهها السائق الجالس خلفهما.
الفكر التطوري، وإن لم يستخدم استعارات الكعك والأحصنة، إلا أنه أصرّ على أن تُفهم المشاعر على اعتبارها مكون بدائي، بلا وظيفة قائمة، ما نزال نحمله، رغم عدم حاجتنا له، مثلها مثل عظمة الذيل في نهاية عمودنا الفقري، أسنان العقل التي لا تجلب أي حكمة، حلمتين في صدر رجل، وقبضة الرضيع التي يشدها دون أن ينجح في الإمساك بفرو أمه، الذي لم يعد موجودا.
يُفسر القلق والاكتئاب وفق منظور مشابه. باعتباره محاذاة خاطئة misalignment بين دماغ السحالي الذي ما نزال نحتفظ به دفينا تحت قُدراتنا البهلوانية على حياكة الحجج المنطقية، وإجراء التفاضل والتكامل بدون حاسبة، وتطوير خوارزميات تُرشدنا إلى البيت. وكما أن آلام الركبة قادمة من أن نمط حياتنا وثقافتنا تطور على نحو لم تستطع أن تجاريه أجسادنا التي تظن أننا ما نزال نعيش في الغابة، تفشل أدمغتنا في إخبارنا أن نهدئ لأنه مجرد عرض پاورپوینت نقدمه أمام أقراننا، وهو بأي حال من الأحوال ليس بفداحة أن يخرج أمامك أسد من خلف الأحراش، مهما بدت عيون الحضور غير مطمئنة.
والعبرة التي يخرج بها أي مكتئب أو قلق أو غاضب، هو أن جسده يخونه، وأن دماغه يلعب ألعابا خبيثة ضده، وأنه على الأغلب يحمل علله نتيجة تزاوج سيء الحظ بين عيوب خلقية شاذة ورثها من والديه، وظروف تنشئة حرجة. ولأنه لا وقت للانهيار والغضب والتوجس والحزن وحتى الحب في عالم يُطالب بأن تتحرك طوال الوقت، لتدفع إيجار بيتك، وثمن خبزك (كحد أدنى)، أو يخترع لك حاجات تُبقيك في عملك بعد نهاية الدوام، وتبقيك في الليل أرِقاً، قلقا، ومتحفزا.
تصف باريت (المزيد عنها وعن عملها في أجزاء المقال التالية) النظرة القديمة للدماغ ببراعة فتقول: «الدماغ ساحة حرب بين العقلانية من جهة والغرائز والعواطف من جهة أخرى. لطالما أن الدماغ العقلاني مسيطر على الدماغ الداخلي المتوحش، فأنت شخص جيد: صحيح، ناضج، ومُنصف. في المناسبات التي يكون لوحشك فيها اليد العليا -والتي تُسمى شعريا الاستحواذ على اللوزة الدماغية- تُصبح طفوليا وشريرا. وإذا ما فشلت العقلانية في احتواء وحشك الداخلي، فقد يكون ذلك مؤشرا على مرض نفسي».
يحاول بعض علماء الأعصاب اليوم تحدي هذا المنظور الفوقي للمشاعر، ويُشككون في الرؤية الطبقية لوظائف الدماغ. عالمة الأعصاب ليزا فيلدمان باريت تُشكك في أن نواة الدماغ (تُسمى الرمادية المحيطة بالمسال، واختصارا PAG) هي المسؤولة عن الخوف أو استجابات الكر والفر (Fight-or-flight)، بل تقترح أن الدماغ قادر على إنتاج الظاهرة نفسها بعدة طرق. وإذا كنت تُفكر من أين أتت هذه المنطقة، وأنك كُنت تسمع عن منطقة أخرى تُسمى اللوزة الدماغية (Amygdala) يُقال إنها المسؤولة عن الألم والخوف ومعالجة التهديد، فأنت لست وحدك. إذ لا تزال هذه الفكرة قائمة حتى مع أهم علماء الأعصاب حول العالم اليوم. وأُريد أن أطمئنك أيضا أن هذا لا يُغير كثيرا في الحدوتة التي بين يدينا اليوم.
كيف توصلت باريت وزملاؤها إلى أن للدماغ القدرة على إنتاج الظاهرة نفسها بعدة طرق؟
أولا، من خلال تحليل أكثر من 200 دراسة أُجريت في العقود الأخيرة، ومقارنة المناطق النشطة في الدماغ. صوّرت الدراسات الأماكن النشطة على نحو مختلف تماما. بل إنها نقدت إجراءات الدراسات، وشككت في أنها تقيس ما تدعي أنها تقيسه. إذ إن اللوزة الدماغية تنشط لا لأن المرء ينظر إلى صورة تهديد (ثعبان مثلا)، بل لمجرد أن صاحبه ينظر إلى صورة جديدة. أي أن الجِدة هي المحرك لا الخوف. وأن اللوزة الدماغية تنشط بعد أن تكون مناطق أخرى قد نشطت. ما يقترح أنها لا يُمكن أن تكون المسؤولة عن الإتيان بردات فعل في الحالات الحرجة عندما تكون حياة المرء على المحك.
ثانيا، دراسة توأم يُعاني من خلل دماغي متطابق. مع ذلك فقد كانت إحداهما قادرة على تكوين مشاعر الخوف، على عكس الأخرى. وتخلص إلى أنه لو أن الدماغ يُنتج الظواهر بالطريقة نفسها كل مرة، سيعني هذا أنه إذا ما وجد خلل في المنطقة المسؤولة، سيكون المريض دائما غير قادر على تكوين ذلك الشعور.
فوق هذا، تُخبرنا ليزا باريت عبر دراسة تعابير الوجه لدى الأطفال (في سياق الثقافة الغربية طبعا)، أن الوجه الذي نتخيل أنه يعكس مشاعرنا، لا يتطابق مع التجربة اليومية إلا بمقدار ضئيل. يصل إلى 10٪ أحيانا. تخيل وجها غاضبا. هل ترى التقطيبة؟ هل ترى الفم المفتوح باتساع؟ هذا هو تصورنا عن التعبير الغاضب. والآن فكر بالمرات الأخيرة التي أصابك فيها الغضب. أحيانا تقول: يا الله، تقهقه، ترفع حاجبا، وأحيانا لا تقول سوى «معلش» مع أنك تغلي من الداخل. خلاصة القول: إن لكل حالة شعورية (لا أعني أن حالة الخوف مقابل الحزن، بل كل حالة خوف) تمثيلها الجسدي الفريد، حسب السياق، والحِدة، الخ.
ماذا يعني كل هذا بالنسبة لنا؟
ثمة مجموعة من الأمور. أولا، أن التفكير في الدماغ بمنطق المناطق الوظيفية المتخصصة يجعلنا نسيء فهم مدى تعقيد الطريقة التي يعمل بها. يهيئ لنا أن الدماغ يستجيب بحسب المحفزات التي توضع أمامه. إذا ما دخل شعاع ساطع، ترفع يدك لتقي عينيك من وهجه. ما يبدو أنه ردة فعل. إلا أن الأدلة تقترح شيئا آخر. دعونا نُناقش مثالا أوضح. حين تشرب الماء، فإنك تشعر مباشرة بالارتواء. الحقيقة أن الجسم يحتاج إلى ما يُقدر بعشرين دقيقة حتى يصل الماء إلى مجرى الدم. إلا أن خبرة الدماغ في تنظيم وإدارة أجسادنا تستبق وتتوقع ما سيحدث، وبهذا تمنحنا طمأنينة أن نضع كأس الماء وأن ما شربناه كافٍ. يعمل الدماغ طوال الوقت على توقع ما سيحدث حتى يُقلل عدم اليقين. إنه لا يستجيب وإنما يتوقع دائما ما يُمكن أن تمر به، أو تُجرّبه في اللحظة التالية.
ثانيا، المنطقة التي يعتقد أنها مسؤولة عن التعامل مع التهديدات تنشط بشكل خاص عندما تكون تحت التهديد، لكن هذه ليست بأي حال وظيفتها. إنها في الواقع مسؤولة عن تنظيم عمليات أساسية للجسم من بينها الجهاز الهضمي، والمناعة. الأدوية التي توصف لاضطرابات القلق، تستهدف منطقة مختصة بتنظيم الجسم عموما، ووظائفها تتعدى مجرد الاستجابة للتهديدات عبر الكر أو الفر. من هنا نفهم كيف أن لمضادات القلق القدرة على التعامل معه دون أن تُعالجه.
ثالثا، المشاعر لا تولد مع الدماغ ولكنها تُكوّن بفعله. ونحن وإن ظننا أننا نفهم مشاعرنا، كالحزن -مثلا-، لكن الحقيقة أننا كثيرا ما نسيء فهم أمزجتنا، ليتضح أن ما نترجمه على أنه حزن قادم من كوننا -مثلا- نعمل على شيء صعب ومكلف من ناحية الطاقة التي يستهلكها الدماغ. ثمة مثال شديد الشيوع على هذا الشكل من الارتباك، يتندر به الناس كثيرا، هو الخلط بين الجوع والغضب. وهو يُرينا مدى فشلنا أحيانا في تقدير وفهم مشاعرنا.
خلاصة القول: إن ما بين أيدينا من دراسات تُخبرنا أننا لسنا متأهبين دائما لمواجهة الأخطار، وأننا نعمل على الاستجابة الدائمة، بل أن الدماغ على العكس ينخرط بشكل متواصل في تخمين ما يُمكن أن نجربه في اللحظات التالية، ويعمل على أساسه. وأن هذه النظرة الجديدة لطريقة عمل الدماغ تقول لنا شيئا إضافيا عن مدى تعقيده.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم