في حوارات طويلة قضيتها مع الحضارة، أجدني دخلت في معمعة من الأسئلة الجوهرية التي تتعلق بأصل وتاريخ الحضارات، وأخرى فرعية تتناول التفاصيل. على أثر هذه الأسئلة بشقيها الجوهري والتفصيلي، أدّعي بأنه تشكلت لدي سلسلة حضارية، لا أزعم أنها مكتملة؛ لأنني في أحيان كثيرة أجد السلسلة في ورطة الفجوات، هذه الفجوات تتطلب مني وقتا كثيرا حتى أملأها بالمواد العلمية أو بطرح الأسئلة داخلها.
من الأسئلة التي أفرزتها فجوات السلسلة كان السؤال: «من قال إنهم بدائيون؟» هذا السؤال قادني إلى إعادة التفكير في التصورات السائدة عن الإنسان القديم، فكيف لنا أن نعتبره مجرد كائن بدائي بينما تشير الأدلة إلى حضارات متكاملة تعكس فهما عميقا للحياة والعالم من حولهم. في هذا الطرح، أتناول الإجابة على هذا السؤال، معتمدا على تحليل الدلائل التي تشير إلى أن الإنسان القديم لم يكن بدائيا كما يعتقد الكثيرون، بل كان يمتلك قدرات معرفية وثقافية تفوق تصوراتنا النمطية عنه. إن هذا المقال دعوة لإعادة النظر في تصورنا عن الحضارة الإنسانية الأولى، والاعتراف بقدرتها على إرساء أسس الحضارة الحديثة.
إن الصورة السائدة عن مسار الحضارة لدى الإنسان بشكل عام هو ذلك الخط المستقيم المتخيل والمحصور بين قطري البداية والحاضر، حيث ينظر إلى ما هو قديم بأنه الأدنى في سلم التقدم، وإلى ما هو حديث بأنه الأعلى في هذا السلم التطوري الصاعد، بل إن البعض ذهب إلى ربط الأدنى في سلم التطور بالتدني، ليشمل الانحطاط من الناحيتين العقلية والخُلُقية. ولو سلمنا بهذا الحكم الاعتباطي، فإن كل من جاء قبلنا في الحياة يعد أقل منا كفاءة وقدرة في التفاعل مع الحياة وفهمها. وهكذا ينظر إلى إنسان النيادندرتال، والأمريكي الجنوبي القديم، والأسترالي الأصلي، على أنهم أقل من الناحيتين الثقافية والطبيعية مقارنة بالإنسان الشرقي أو الأوروبي الحديث الذي يعتلي شجرة التطور.
لقد ذهب الأمر أبعد من ذلك، حيث ظهرت مصطلحات ومفاهيم جديدة؛ فصار الحديث عن الدين البدائي والأخلاق البدائية، وهو بالطبع حكم غير دقيق عن الإنسان القديم، إذ إن مسألة البدائية لا يمكن تفسيرها بهذه السهولة. نعم؛ إن السكين الحجري بدائي مقارنة بالمنشار الآلي، لكن لا يعني ذلك أن الذي اخترعه إنسان بدائي، ذو قدرات ذهنية محدودة، بل قد يكون أكثر ذكاء ممن طوّره عبر الحقب المتوالية، بل لا يمكن القول إن النظام الاقتصادي القديم، القائم على حرية العمل في أي مجال يشاء الإنسان، أقل إحكاما من النظام الاقتصادي الحديث الذي يضعك في أغلال القوانين والشهادات المحلية والدولية. ولا المذاهب الدينية المتأخرة، التي يمتلئ سجلها بالاضطهاد وملاحقة المختلفين، هي أكثر تطورا من المذاهب الدينية القديمة التي تتسم بالتسامح مع المعتقدات.
يذكر فراس سواح في «موسوعة تاريخ الأديان»: «إن الشعوب البدائية قد تكون أقل تطورا في النواحي التكنولوجية وبعض النواحي الأخرى، ولكنها من بعض الوجوه أكثر تطورا من أكثر المجتمعات المتقدمة، فالبدوي في صحارى رماله، والأسكيمو في صحارى جليده، هو أكثر ودا وشجاعة وصدقا وإخلاصا وتعاونا من أكثر أعضاء المجتمعات المتمدنة، إن الجماعة التي ندعوها «بدائية» هي أكثر جماعة الأشكال الاجتماعية والسياسية إتاحة لحرية الفرد وتفتيحا لإمكاناته».
إن المراجعات الشاملة التي عمل عليها بعض الباحثين الغربيين للمفاهيم القديمة حول البدائية والتطورية قادت إلى ظهور أصوت جديدة في الوسط البحثي الحضاري تنادي بكون البدائية ليست مرحلة طفولية من مراحل تطور البشر، بل هي شكل من أشكال الحياة الإنسانية اليافعة والمكتفية بنفسها. ومن الآراء المنصفة لحياة الإنسان القديم ما عبَّر عنه آشلي مونتاغيو «إن الخطأ الأساسي الذي يرتكبه من يتحدث عن الفن البدائي، هو استخلاص التعميم من إحدى النواحي غير المتطورة نسبيا في الثقافة، وذلك مثل التكنولوجيا أو الاقتصاد، وافترض أن كل النواحي الأخرى لتلك الثقافة لا بد أن تكون غير متطورة بالمقدار نفسه. والواقع، فإننا عندما نقارن خصائص معينة في الثقافات غير الكتابية (= بدائية)، مثل: اللغة والدين والأساطير ونظام القربى والحكايا والأشعار وقص الأثر وغيرها، بمثيلاتها في المجتمعات المتمدنة، فإن أعضاء الثقافات اللاكتابية لن يقفوا على قدم المساواة مع أعضاء المجتمعات المتمدنة فحسب، بل سيتفوقون عليهم في أحيان كثيرة».
هذه المراجعات تفتح لنا آفاقا جديدة لإعادة معرفة الإنسان القديم، ليس بكونه كائنا يسعى للبقاء فحسب، بل بكونه مبدعا ومفكرا صنع عالما متكاملا من القيم والرموز والفنون. الحياة البدائية لم تكن مجرد محطة في رحلة التطور، بل كانت تعبيرا أصيلا عن فهم عميق للطبيعة، وعن علاقة روحية مع الكون. الإنسان البدائي كان يعيش في تناغم مع محيطه، يستلهم من الأرض والسماء أساطيره وأغانيه، ويرسم على الصخور قصصه وذاكرته. إن حياة الإنسان لا يمكن أن تقاس كميا ونوعيا بالآلات ولا بالأرقام، فمنحوتتا الزراف في منطقة دابوس في الصحراء الكبرى خير مثال على دقة وبراعة الإنسان القديم؛ فمن ينظر إلى الرسمة يتصور أنها نُحتت بالكمبيوتر أو بآلة متقدمة قبل بضع سنوات فقط، إلا أن الحقيقة هي أنها أعجوبة من عجائب الفن الصخري على مر التاريخ. إذ يقدرها الدكتور جان كلوتس بأن عمر النقش حوالي 10000 عام، وهو ضرب من الخيال، فكيف لمنحوتات بهذا العمر، ولم يكن هناك معدن للأدوات الحادة بعد؟
أما ما يتعلق بنظام القربى والقبيلة في جزيرة العرب، فهو نظام شديد التعقيد لا يمكن مقارنته بأي نظام في العصر الحديث. وقوة هذا النظام في تفرعاته الطويلة إذ يشعرك بالأخوة العرقية والقبلية إلى أبعد نقطة يمتلكها الإنسان من معرفة بالنسل. من الناحية الدينية، فإن تعقيد الحياة الدينية لدى الشعوب القديمة لا يقارن بالحياة الدينية في يومنا هذا، رغم ما تحمله من مزايدات ومغالطات داخله. يقول فرويليخ وهو باحث في شؤون الديانات الإفريقية: «إن الديانات الإفريقية التقليدية ليست أبدا ديانات بدائية، لأنها تجر وراءها آلاف السنين من التطور، شأنها في ذلك شأن غيرها. إنها ثمرة تفكير استمر قرونا مديدة، ونتاج تجارب أناس واجهوا قوى الطبيعة وجها لوجه، ويمكن للباحث أن يعثر في هذه الديانات على مؤثرات شرق أوسطية قديمة، منها في سبيل المثال الأسبوع ذو السبعة الأيام التي يحكم كل منها أحد الكواكب السيارة السبعة».
أدت الرؤية الجديدة للبدائية إلى إعادة النظر في المصطلح نفسه، وظهرت بدائل جديدة لتحل محل المصطلح القديم، كونه لم يعد يوحي بالتدني بناء على الكشوفات الأثرية الحديثة. وقد اقترح بعض العلماء مصطلحات جديدة مثل: الجماعات الإثنية أو الجماعات اللاكتابية أو الجماعات التقليدية. بينما حافظ البعض على المصطلح القديم مع استبعاد المعاني السلبية التي ارتبطت به، مثل فراس سواح.
عبدالرحيم بن خميس العدوي باحث في شؤون الآثار
من الأسئلة التي أفرزتها فجوات السلسلة كان السؤال: «من قال إنهم بدائيون؟» هذا السؤال قادني إلى إعادة التفكير في التصورات السائدة عن الإنسان القديم، فكيف لنا أن نعتبره مجرد كائن بدائي بينما تشير الأدلة إلى حضارات متكاملة تعكس فهما عميقا للحياة والعالم من حولهم. في هذا الطرح، أتناول الإجابة على هذا السؤال، معتمدا على تحليل الدلائل التي تشير إلى أن الإنسان القديم لم يكن بدائيا كما يعتقد الكثيرون، بل كان يمتلك قدرات معرفية وثقافية تفوق تصوراتنا النمطية عنه. إن هذا المقال دعوة لإعادة النظر في تصورنا عن الحضارة الإنسانية الأولى، والاعتراف بقدرتها على إرساء أسس الحضارة الحديثة.
إن الصورة السائدة عن مسار الحضارة لدى الإنسان بشكل عام هو ذلك الخط المستقيم المتخيل والمحصور بين قطري البداية والحاضر، حيث ينظر إلى ما هو قديم بأنه الأدنى في سلم التقدم، وإلى ما هو حديث بأنه الأعلى في هذا السلم التطوري الصاعد، بل إن البعض ذهب إلى ربط الأدنى في سلم التطور بالتدني، ليشمل الانحطاط من الناحيتين العقلية والخُلُقية. ولو سلمنا بهذا الحكم الاعتباطي، فإن كل من جاء قبلنا في الحياة يعد أقل منا كفاءة وقدرة في التفاعل مع الحياة وفهمها. وهكذا ينظر إلى إنسان النيادندرتال، والأمريكي الجنوبي القديم، والأسترالي الأصلي، على أنهم أقل من الناحيتين الثقافية والطبيعية مقارنة بالإنسان الشرقي أو الأوروبي الحديث الذي يعتلي شجرة التطور.
لقد ذهب الأمر أبعد من ذلك، حيث ظهرت مصطلحات ومفاهيم جديدة؛ فصار الحديث عن الدين البدائي والأخلاق البدائية، وهو بالطبع حكم غير دقيق عن الإنسان القديم، إذ إن مسألة البدائية لا يمكن تفسيرها بهذه السهولة. نعم؛ إن السكين الحجري بدائي مقارنة بالمنشار الآلي، لكن لا يعني ذلك أن الذي اخترعه إنسان بدائي، ذو قدرات ذهنية محدودة، بل قد يكون أكثر ذكاء ممن طوّره عبر الحقب المتوالية، بل لا يمكن القول إن النظام الاقتصادي القديم، القائم على حرية العمل في أي مجال يشاء الإنسان، أقل إحكاما من النظام الاقتصادي الحديث الذي يضعك في أغلال القوانين والشهادات المحلية والدولية. ولا المذاهب الدينية المتأخرة، التي يمتلئ سجلها بالاضطهاد وملاحقة المختلفين، هي أكثر تطورا من المذاهب الدينية القديمة التي تتسم بالتسامح مع المعتقدات.
يذكر فراس سواح في «موسوعة تاريخ الأديان»: «إن الشعوب البدائية قد تكون أقل تطورا في النواحي التكنولوجية وبعض النواحي الأخرى، ولكنها من بعض الوجوه أكثر تطورا من أكثر المجتمعات المتقدمة، فالبدوي في صحارى رماله، والأسكيمو في صحارى جليده، هو أكثر ودا وشجاعة وصدقا وإخلاصا وتعاونا من أكثر أعضاء المجتمعات المتمدنة، إن الجماعة التي ندعوها «بدائية» هي أكثر جماعة الأشكال الاجتماعية والسياسية إتاحة لحرية الفرد وتفتيحا لإمكاناته».
إن المراجعات الشاملة التي عمل عليها بعض الباحثين الغربيين للمفاهيم القديمة حول البدائية والتطورية قادت إلى ظهور أصوت جديدة في الوسط البحثي الحضاري تنادي بكون البدائية ليست مرحلة طفولية من مراحل تطور البشر، بل هي شكل من أشكال الحياة الإنسانية اليافعة والمكتفية بنفسها. ومن الآراء المنصفة لحياة الإنسان القديم ما عبَّر عنه آشلي مونتاغيو «إن الخطأ الأساسي الذي يرتكبه من يتحدث عن الفن البدائي، هو استخلاص التعميم من إحدى النواحي غير المتطورة نسبيا في الثقافة، وذلك مثل التكنولوجيا أو الاقتصاد، وافترض أن كل النواحي الأخرى لتلك الثقافة لا بد أن تكون غير متطورة بالمقدار نفسه. والواقع، فإننا عندما نقارن خصائص معينة في الثقافات غير الكتابية (= بدائية)، مثل: اللغة والدين والأساطير ونظام القربى والحكايا والأشعار وقص الأثر وغيرها، بمثيلاتها في المجتمعات المتمدنة، فإن أعضاء الثقافات اللاكتابية لن يقفوا على قدم المساواة مع أعضاء المجتمعات المتمدنة فحسب، بل سيتفوقون عليهم في أحيان كثيرة».
هذه المراجعات تفتح لنا آفاقا جديدة لإعادة معرفة الإنسان القديم، ليس بكونه كائنا يسعى للبقاء فحسب، بل بكونه مبدعا ومفكرا صنع عالما متكاملا من القيم والرموز والفنون. الحياة البدائية لم تكن مجرد محطة في رحلة التطور، بل كانت تعبيرا أصيلا عن فهم عميق للطبيعة، وعن علاقة روحية مع الكون. الإنسان البدائي كان يعيش في تناغم مع محيطه، يستلهم من الأرض والسماء أساطيره وأغانيه، ويرسم على الصخور قصصه وذاكرته. إن حياة الإنسان لا يمكن أن تقاس كميا ونوعيا بالآلات ولا بالأرقام، فمنحوتتا الزراف في منطقة دابوس في الصحراء الكبرى خير مثال على دقة وبراعة الإنسان القديم؛ فمن ينظر إلى الرسمة يتصور أنها نُحتت بالكمبيوتر أو بآلة متقدمة قبل بضع سنوات فقط، إلا أن الحقيقة هي أنها أعجوبة من عجائب الفن الصخري على مر التاريخ. إذ يقدرها الدكتور جان كلوتس بأن عمر النقش حوالي 10000 عام، وهو ضرب من الخيال، فكيف لمنحوتات بهذا العمر، ولم يكن هناك معدن للأدوات الحادة بعد؟
أما ما يتعلق بنظام القربى والقبيلة في جزيرة العرب، فهو نظام شديد التعقيد لا يمكن مقارنته بأي نظام في العصر الحديث. وقوة هذا النظام في تفرعاته الطويلة إذ يشعرك بالأخوة العرقية والقبلية إلى أبعد نقطة يمتلكها الإنسان من معرفة بالنسل. من الناحية الدينية، فإن تعقيد الحياة الدينية لدى الشعوب القديمة لا يقارن بالحياة الدينية في يومنا هذا، رغم ما تحمله من مزايدات ومغالطات داخله. يقول فرويليخ وهو باحث في شؤون الديانات الإفريقية: «إن الديانات الإفريقية التقليدية ليست أبدا ديانات بدائية، لأنها تجر وراءها آلاف السنين من التطور، شأنها في ذلك شأن غيرها. إنها ثمرة تفكير استمر قرونا مديدة، ونتاج تجارب أناس واجهوا قوى الطبيعة وجها لوجه، ويمكن للباحث أن يعثر في هذه الديانات على مؤثرات شرق أوسطية قديمة، منها في سبيل المثال الأسبوع ذو السبعة الأيام التي يحكم كل منها أحد الكواكب السيارة السبعة».
أدت الرؤية الجديدة للبدائية إلى إعادة النظر في المصطلح نفسه، وظهرت بدائل جديدة لتحل محل المصطلح القديم، كونه لم يعد يوحي بالتدني بناء على الكشوفات الأثرية الحديثة. وقد اقترح بعض العلماء مصطلحات جديدة مثل: الجماعات الإثنية أو الجماعات اللاكتابية أو الجماعات التقليدية. بينما حافظ البعض على المصطلح القديم مع استبعاد المعاني السلبية التي ارتبطت به، مثل فراس سواح.
عبدالرحيم بن خميس العدوي باحث في شؤون الآثار