أوجعت الحرب على سوريا التي تستمر للعام الثالث عشر على التوالي، كل مفاصلها، ورغم ذلك لم توهن عزيمة الإنسان الذي بقي صامدا طوال هذه المدة محاولاً أن يبني ما تدمر، وينهض كطائر الفينيق محلقاً.
الثقافة بكل صنوفها عانت، وربما كانت هي الأكثر معاناة مما أصاب البلاد، حيث تفرقت الكلمة، ووهنت ولكنها لم تمت، ولأن للكلمة دورها الفعال في المجتمعات، وللأدباء كلمتهم المسموعة غالب الأوقات، وعندما تفقد البوصلة وجهتها، غالبا مايكون للعقل المتنور دوره في التوجيه نحو صوابية الهدف وسلامة المجتمع، ولكن للأسف عانت الثقافة كما باقي مفاصل البلد.
ولن نتعرض في هذه المساحة لما أصاب المثقفين من فرقة، وتنازعتهم الأهواء، وكيف تفرقت بهم الدروب، فهذه تحتاج لسرديات طويلة، ولكننا سنتوقف حول بعض الأسئلة المهمة، كيف يمكن إعادة الروح للمشهد الثقافي في سوريا؟ وهل إقامة الفعاليات الثقافية تكفي لذلك؟ وما هو دور المراكز الثقافية في استقطاب المبدعين والجمهور معا؟ لعلنا بذلك نتلمس حالة التعافي التي تمر بها الحياة الثقافية، وهل هي فعلا كذلك، أم تحتاج لمزيد من حالات الترميم والمعالجة والعناية الفائقة لكي تكون واجهة حية تمنح البلاد رونقا من الجمال المفقود؟
محاولات حثيثة
أقيمت كثير من الأنشطة الثقافية منذ بداية الأزمة السورية، ونشطت كثير من الجمعيات وبيوتات الثقافية عبر أشخاص ناشطين في مجالات الشعر والقصة لإقامة كثير من الأمسيات والفعاليات المتنوعة سواء في بعض البيوتات القديمة في العاصمة أو في بعض المقاهي، جنبا إلى جنب مع نشاط المراكز الثقافية الذي نشط أيضا في السنوات الأخيرة بشكل واسع، بالتوازي مع ماتقدمه وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب، ولكن ما كان ينقص هذه الأنشطة غياب الرواد الذين يقتصرون على عدد من أصحاب الأمسيات وأقاربهم، وبقي الجميع عاجزاً عن استقطاب الجمهور لأسباب كثيرة ومن أهمها صعوبة التنقل بسبب غلاء الأسعار وقلة المواصلات وانشغال الناس بما يعتبرونه أهم من الثقافة.
جيل جديد
مايميز المشهد الثقافي أيضا هو بروز أسماء جديدة ومنها شابة واعتلوا المنابر وكتبوا الرواية والقصة، ونشط سوق الطباعة بحده الأدنى الذي كان لايتجاوز ال200 نسخة من ديوان الشعر أو الرواية، ومع ذلك تعتبر خطوة مهمة، في حين تم تسجيل غياب أسماء كانت بارزة وتتصدر المشهد، ورب ضارة نافعة، فقد ظهر جيل لايستهان به ممن يكتبون، ولسنا هنا لنحكم على الجودة، ولكن نرصد المشهد ليس إلا..
ثمة من يشير إلى أن الخطوات التي تمت لم تكن كافية لترتيب الأوراق الثقافية، في وقت أحوج ما تكون فيه البلاد لمن يحمل راية الثقافة الرصينة التي يمكن أن تجعل المجتمع متماسكاً وقوياً في وجه المحن والريح الهوجاء.
المطلوب تضافر الجهود
وحول هذه المحاور استطلعنا رأي د. محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب العرب الذي قال: لايمكننا الحديث عن المشهد الثقافي في سورية وكأنها تعيش وضعاً طبيعياً لم يعرف الحرب الإرهابية والمحاولات المستميتة لتدمير المؤسسات الثقافية والمتاحف والمكتبات والمدارس، ومع هذا فإن الثقافة لم تغب عن حياة المواطن السوري حتى في أحلك الظروف وأصعبها، ومع هذا فلا يمكننا القول إن المشهد الثقافي السوري في أفضل حالاته، بل إن هناك تراجعا في هذا المشهد ولعل الحرب كانت أحد أسباب هذا التراجع فضلا عن التخندقات التي حدثت في المشهد الثقافي في فترة الحرب، والتي حاولت النيل من الثقافة السورية لاسيما بشقها الوطني والتزامها بالقضايا المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين والالتزام بالفكر المقاوم، وهنا لا يمكننا إنكار وجود بعض الطفيليين الذي ترعرعوا في الحرب وأظهروا عددا من أدعياء الثقافة والكاتبات اللواتي لا علاقة لهن بالكتابة والإبداع، وهي مشكلة كبيرة تعاني منها الثقافة على مستوى الوطن وليس على بلد واحد.
ويضيف الحوراني قائلا: مهما يكن من أمر فإن الحياة الثقافية في سوريا استمرت من خلال طباعة الكتب وإقامة الفعاليات الثقافية في كافة أنحاء الجغرافية السورية، وهي جزء لا يتجزأ من المشهد الثقافي ليس في سوريا وإنما في العالم، إلا أنها بحاجة ماسة إلى مزيد من التطوير والنهوض بها، لاسيما لجهة فتح حوارات ونقاشات ثقافية وفكرية في كثير من القضايا التي يعتبرها البعض من المحرمات، فضلا عن نقاش قضايا وموضوعات مهمة مثل الهوية ودورها في تعزيز الانتماء الوطني وتحصين المجتمع، وهو ما يعني الاشتغال على قضايا المواطنة والحريات والتصدي لليبرالية الجديدة ومحاولات تفكيك المجتمع، وهذا لا يمكن القيام به من قبل مؤسسة واحدة وإنما يستدعي تضافر الجهود ووضع استراتيجيات تتشارك بها المؤسسات والوزارات المعنية مثل الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والأوقاف وغيرها وتنسيق الجهود مع الاتحادات والمؤسسات الثقافية التي تشاركنا الهم نفسه في الدول العربية وغير العربية.
لم تكن بخير
يقول الكاتب والباحث د. عدنان عويّد: الثقافة في أبسط صورها وبكل أنساقها هي المعرفة، والمعرفة في جوهرها وتكوينها مرتبطة بالوعي العقلاني الحيادي غير المتحيز إلا للإنسان وقضاياه المصيريّة، وأهم قضايا الإنسان المصيرية هي حريته وكرامته وعدالته ومساواته وتحقيق أمنه واستقراره ولقمة عيشه، والأهم أن لا تمارس عليه أيّة وصاية سياسيّة وما يترتب عليها من قضايا اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة، وبالتالي فهو في المحصلة شريك فاعل في بناء دولته ومستقبلها الذي يعني بناء نفسه بناءً عقلانياً.
فسؤالك عن كيفيّة: إعادة الروح للمشهد الثقافي في سوريا.؟. يدفعني للقول: لا شك أن الثقافة عبر هذه الأزمة التي مر بها القُطر منذ عام 2011 حتى اليوم، تشير وبشكل واضح إلى أن الثقافة في الأساس وحتى قبل الأزمة لم تكن بخير، فلو كانت بخير لما حدث ما حدث، ولما تبين أن الثقافة التي سادت وانتشرت، هي الثقافة التي عبر عنها وعي مأزوم في بنيته المغلقة الماضويّة التي ابتعدت كثيراً عن الوعي العقلاني المؤمن بالحياة وتقدم الإنسان، بل الوعي الذي يكره الحياة ويتمسك بالماضي على أنه الفردوس المفقود. وهذا ما أدخل البلاد في فوضى فكريّة جهاديّة تكره المختلف وتسعى لإقصائه، بل وحتى تصفيته جسدياً. لذلك لكي نعيد الثقافة إلى مسارها الصحيح، يجب التركيز على الثقافة العقلانيّة النقديّة التي كما قلنا تؤمن بالإنسان وقضاياه وبحق الاختلاف واحترام الرأي الآخر. وهذا يتحقق من خلال المناهج التعليميّة والمؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة التي يجب أن تشتغل على هذا التوجه.
ويتابع عويد قائلا: لا شك أن الفعاليات الثقافيّة هي جزء من المشروع الثقافي التنويري الذي نطمح للسير به، فإن كانت هذه الفعاليات الثقافيّة تسير وفق متطلبات الوعي العقلاني النقدي التنويري، فهي بالضرورة محطة هامة في تحقيق مستقبل أفضل للثقافة في قطرنا.
وقد وجدت المراكز الثقافيّة أصلاً لتحقيق هذه المهمة، وهذا يرتبط بالقيمين عليها ودرجة ثقافتهم وعمقها. فقيّم المركز الثقافي يجب وبالضرورة أن يكون مثقفاُ وقادراً على استقطاب المثقفين من أدباء وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحين وغيرهم. وفاقد الشيء لا يعطيه في الحقيقة، فكلما كان القيّم على الثقافة يعتبر مهمته سياسيّة أو لتحقيق الوجاهة فلن تكون الثقافة في خير، والأخطر من ذلك عندما يكون القيّم على هذه المركز ذو أصول فكريّة رجعيّة ومتزمتة دينياً، فالثقافة ستسير نحو الإنحطاط.
ويختم عويد حديثه بالقول: إن ما يقوم به اتحاد الكتاب العرب في سوريا من توجهات فكريّة وثقافيّة على مستوى الساحة الثقافية إن كان من حيث تركيزه عل الشباب خلال هذه الفترة وتشكيله للمنتديات الثقافيّةّ وإقامة المسابقات والندوات، أو من حيث تركيزه على البعد الوطني والمواطنة والتفكير العقلاني التنويري، أو من خلال خلق حالة من التشابك الثقافي مع المؤسسات الثقافيّة والمنظمات والتجمعات الأهليّة الثقافيّة، فهذه كله تعتبر من التوجهات العلانية للنهضة بالثقافة وتجذير العقلانيّة منها في وعي الشباب. وقد حقق تقدما كبيراً في ذلك خلال السنوات الأربعة الفائتة.
مشهدٌ بلا روح
بكل صراحة وتجرد يقول الشاعر قحطان بيرقدار مدير منشورات الطفل في الهيئة العامة السورية للكتاب ورئيس تحرير مجلة أسامة: إنه سؤال يثير شجونا كثيرة وعميقة (كيف يمكن إعادة الروح إلى المشهد الثقافي سوريا؟)، ويمكن أن نستنتج منه ببساطة أن المشهد الثقافي حاليا بلا روح، وهذه نقطة حساسة جدا. هل هو بلا روح حقا؟ الجواب، من وجهة نظري، لا يدعو إلى التفاؤل. إننا، ولا ريب، أمام مشهد ثقافي بلا روح، وليس سبب ذلك كامنا في المشهد الثقافي عينه فحسب، بل في ارتباط هذا المشهد بمجموع المشاهد الأخرى في سوريا (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية)، وغير ذلك من مشاهد...
إن الروح السورية، في السنوات الأخيرة، منهكة عموما، وقد أشرفت، ربما، على الفناء من شدة ما تعرضت له هذه الروح من مآس وصدمات وخيبات لأسباب تتصل بواقع جميع المشاهد السورية الراهنة.
ويتابع بيرقدار موضحا: إعادة الروح إلى المشهد الثقافي في سوريا مرتبط بإعادة الروح إلى المشاهد السورية الأخرى، فلا يمكن إحياء مشهد ثقافي مميز وعميق، والمثقفون مهمشون وجوعى ومشردون هنا وهناك في جحيم هذه الأرض التي شربت دماء كثير من أبنائها. لا بد من إعادة إحياء المشاهد الأخرى معا، لأن المشهد الثقافي مرتبط بها، وقائم عليها، ومتصل بها اتصالا عضويا، ومن ثـم تصبح الإجابة عن السؤال التالي (هل إقامة الفعاليات الثقافية تكفي لإعادة الروح إلى المشهد الثقافي) تصبح سهلة، فمن البديهي، والحال على ما أشرت سابقا، أن إقامة الفعاليات الثقافية لن تقدم، ولن تؤخر، في ظل كل ما نحن فيه من مـحـن.
أما (دور المؤسسات الثقافية في استقطاب المبدعين والجمهور معا)، فلا يعول عليه كثيرا في ظل الظروف القاسية الراهنة، فالمؤسسات الثقافية تعاني مثلما تعاني بقية المؤسسات في القطاعات الأخرى، ولا أراها تستطيع حاليا ترسيخ حركة ثقافية حية إلا بعد أن تتعافى القطاعات كلها، ولا سيما القطاع الاقتصادي الذي هو المحرك الأساس لبقية القطاعات، ومن بينها القطاع الثقافي الذي لا يمتلك المال الكافي لإنشاء مشاريع ثقافية تعيد الروح إلى المشهد الثقافي عموما، لذلك يبقى المشهد الثقافي السوري، رغم تنوعه السرابي ورغم غزارة الفعاليات والأسماء، يبقى فقيرا وضحلا، ويراوح مكانه بمن حضر من وجوه ثقافية حقيقية وغير حقيقية، ولعل غير الحقيقي هو الأكثر رواجا في المشهد الثقافي حاليا، وهذه نتيجة منطقية لما سبق.
الخطاب الفكري
ترى وجدان أبو محمود رئيسة فرع اتحاد الكتاب في محافظة السويداء أن هذا سؤالٌ كبيرٌ، إذ أنّ إعادة الرّوح إلى المشهد الثقافي السّوري تقتضي بالضّرورة جملة من الإجراءات الإنعاشيّة العامّة لتعقيدات الرّاهن السّوري وتأزّمه، والذي يحيل -في أبسط تمظهراته الاقتصاديّة- تكلفة الوصول إلى المؤسّسات الثّقافيّة مثلاً إلى مأزقٍ حقيقيٍّ، بيد أنّ ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال الرّكون إلى القبوع والفرجة، فالأوان لا يفوت على إرادة التغيير والتّجديد وابتكار الحلول الإسعافيّة، وطائر الرخّ الفينيقي ما يزال أسطورة كلّ الأزمان.
لا تكفي قطعيّاً الفعاليات الثّقافيّة المعتادة، والتي تمكّن منها التّرهّل والرّوتين الوظيفيّ حدّ الوصول في بعض الأحوال إلى قطيعةٍ مستترةٍ مع الجمهور؛ فتجديد الخطاب الفكري شكلاً وموضوعاً بات ملحّاً في العالم كلّه، في عصرٍ يشهد زخماً مهولاً بالمادة المعرفيّة وبقوالب تقديمها، خاصّةً مع تشوه الذائقة وضحالة الثقافة السّائدة التي مكّنت "الفقراء معرفياً" من إيجاد موطئ قدمٍ لهم _بيسرٍ وسلاسةٍ_ في ساحة الثّقافة الجادّة، إلى حدّ احتلال واجهتها أحياناً، ومن هنا تبرز الحاجةُ الماسّة إلى تجديد الأدوات وتكثيف الجهود وفتح المزيد من قنوات التّواصل مع جمهورٍ متردّدٍ ينتخبُ ويفاضلُ وينتقي.
وتستعرض وجدان في سياق حديثها بعض الخطط التي نفذّها فرع اتحاد الكتاب العرب في السويداء في محاولة إعادة الروح للحياة الثقافية بقولها: "وفق الممكن والمتاح" في سبيل هذه الغاية، وعلى رأسها الوصول إلى من لا يستطيع الوصول إلينا عن طريق نقل وتنفيذ بعض الفعاليات الثقافية ومعارض الكتب في الجامعات والمدارس والمدن والقرى البعيدة، فضلاً عن افتتاح المكتبات الرّيفيّة في الهوامش النّائيّة، ولقد اعتمدنا على المزاوجة والدّمج بين الأدب والفنون الأخرى كالموسيقا والمسرح والفن التّشكيلي في كثير من الفعاليات النوعيّة في محاولاتٍ لترصيعها على نحوٍ أعمق ولتعزيز المعنى المعرفيّ والاحتفاء بالإبداع الإنسانيّ كمادّةٍ جماليّةٍ أيّاً كانت وسيلة ترجمته، ومن باب دعم المبدعين السّوريين؛ فقد أطلقنا منذ عامين جائزة السويداء للإبداع الأدبي بالشراكة مع القطّاع الخاصّ، التي حفلت بمشاركاتٍ واسعةٍ وحقّقت أصداءً جميلةً، كما عملنا على استقطاب أسماءٍ هامّةٍ، وتكريم القامات المجتمعيّة المؤثرّة ثقافياً، وعلى إدخال مضامين علميّة إلى المحتوى الثقافي، وحرصنا على منح الفرص للمبدعين الجدد، واستقطاب الأجيال الشّابة بوسائل شتّى من خلال الأندية وورشات العمل المجّانيّة والمسابقات ونشر إبداعات المواهب المبشّرة.
وأضافت وجدان: ينبغي أن يكون للمنابر الثّقافية دوراً حاضناً للإبداع ورافعاً للوعي ودافعاً للتغيير الاجتماعيّ، فهي الحصون التي تحفظ الهوية الثقافية للبلاد، لهذا يتحتّم عليها بطبيعة الحال أن تجسّر الهاوية بين الأفراد والمؤسّسات، وأن تستقطب السّوريين جميعاً حواراً وتفاعلاً، كما يقع على عاتقها مهمّة منح الفرص وتقديم الدّعم لمن يستحقه من دون التفريط بالاصطفاء الدّائم وتقديم المحتوى الأجود بالشّكل الأكثر قبولاً وتأثيراً، على أن تكون وحدة القياس دائماً... أصالة الإبداع.
غياب القطاع الخاص
يقول الكاتب المسرحي جوان جان: لا تنفصل فعالية الحراك الثقافي عن الأوضاع العامة في أي بلد من البلدان، بل يكاد يكون الحراك الثقافي أكثر هذه الفعاليات ارتباطاً بباقي الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى السياسية باعتبار أن الحراك الثقافي يُعتبر الواجهة المتقدمة لمجمل النشاط العام في البلد والمرآة التي تعكس الواقع ومدى قدرته على التحرك في مختلف الاتجاهات.
ولا شك أن الحراك الثقافي مرتبط بشكل مباشر بالوضع الاقتصادي العام لأنه يتطلب حالة اقتصادية مريحة ومتطلبات يتراوح مداها بين نوع وآخر من أنواع الثقافة، فإذا تحدثنا على سبيل المثال عن الإنتاج السينمائي فنحن بحاجة إلى كمّ متزايد من الأموال حتى ندفع بهذا الإنتاج إلى الأمام، وكذا الحال بالنسبة إلى المسرح والموسيقا وإن كان ذلك بشكل أقل، بينما تتراجع المتطلبات المادية في نشاطات المراكز الثقافية من محاضرات وندوات ومعارض للفنون التشكيلية، ودون وجود دعم اقتصادي ولو بحدوده الدنيا لا يمكن لأيّ من هذه الفعاليات أن يزدهر، وهنا لا بد من ملاحظة الغياب شبه التامّ للقطاع الخاص في دعم النشاط الثقافي إلا فيما ندر بسبب عدم وجود محفّزات لدى هذا القطاع لكي يقوم بدوره في هذا المجال كوجود إعفاءات ضريبية في حال انخراطه في دعم النشاط الثقافي .
ويؤكد جوان قائلاً: المشهد الثقافي في سورية فعال ومتحرك ولكن ليس إلى الدرجة التي يطمح إليها العاملون فيه من كتّاب وفنانين، وهنا لا بد من الاعتراف أن الأسماء التي كانت في يوم من الأيام قادرة على حشد آلاف من جمهور النشاطات الثقافية لم تعد موجودة ولم يظهر لها بديل ليس سورياً وحسب بل وعربياً أيضاً كنزار قباني ومحمود درويش ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم من الذين لم تكن قاعات المراكز الثقافية تتسع لجمهورهم، فكانت أمسياتهم الشعرية تقام في الملاعب الرياضية التي كانت تمتلئ عن آخرها بجمهورهم المتعطش للاستماع إلى إبداعاتهم.
لا يمكن لأي فعاليات ثقافية مهما بلغت أهميتها أن تكون كافية لتحريك المشهد الثقافي إن لم يواكبها حراك على صعيد الإعلام الثقافي كوجود منابر إعلامية تواكب هذا الحراك من صحف ومجلات متخصصة بالشؤون الثقافية، ولا شك أننا في سوريا نملك كمّاً لا بأس به من هذه المطبوعات التي تصدر عن وزارة الثقافة بمختلف هيئاتها ومديرياتها وعن اتّحاد الكتّاب العرب، وهي مطبوعات استمرت رغم كل الأزمات التي مرّ بها بلدنا كالحروب ووباء كورونا وغلاء أسعار المواد الأولية الضرورية للطباعة الورقية لهذه المطبوعات، ومن الملاحظ أن غياب الصحافة الورقية اليومية والأسبوعية أثّر سلباً على جانب هام من الإعلام الثقافي كان متمثلاً في الصفحات الثقافية اليومية والملاحق الثقافية الأسبوعية الصادرة عن هذه الصحف.
بوصلة العمل الثقافي
الشاعر د. أسامة الحمُّود عضو اتحاد الكتاب العرب يرى أن إعادة الروح للمشهد الثقافي في سوريا، يتطلب أن يكون أصحاب الشغف الثقافي، هم القائمون على مرافق العمل الثقافي في مؤسساته المختلفة، وأن يُتاح لهم هامشٌ للخروج عن المألوف، بما يحقق الانتقال من صيغة العمل الوظيفي البحت – التي قد تصلح في أي مؤسسة أخرى إلا المؤسسة الثقافية – إلى صيغة الإبداع التي يُفترض أن تكون ديدن العمل الثقافي.
وهنا فقط، نستطيع الانتقال من إقامة فعاليات ثقافية كمية – لتحقيق برنامج شهريٍّ كيفما اتُّفق – إلى إقامة فعاليات نوعية تحرِّك المياه الراكدة في الوسط الثقافي، وتستفز حالة الابتكار والحوار الهادف والنقد البنَّاء الذي غاب عن المحافل الثقافية، لتحل محله المجاملة المدمِّرة والنفاق الأدبي الهدَّام.
ونحتاج في هذا الإطار أيضًا، إلى ضبط المنابر التي بات بعضها متاحًا لأدعياء الثقافة دون قيدٍ أو شرط، ليبثُّوا التفاهة هنا وهناك، ما حدا بنخبة المثقفين وكثير من جمهور الثقافة إلى هجر تلك المنابر، الأمر الذي يتطلب الكثير من الجهد والتشبيك بين المؤسسات الثقافية، لوضع ضوابط مدروسة لاستعادة هيبة المنبر الثقافي والحيلولة دون الاستسهال والاستئثار.
وهنا يمكن الانطلاق من المراكز الثقافية التي تعدُّ واجهة الفعل الثقافي، والبيئة الأكثر ملاءمة تحقيق المعادلات السابق ذكرها.
وثمة تجارب في بعض المركز الثقافية يُشار إليها بالبنان، استطاع القائمون عليها من أصحاب المكانة الثقافية العالية والشغف الثقافي أن ينتقلوا بها من الحالة التقليدية إلى الحالة الإبداعية، لتتحول مراكزهم إلى صالونات أدبية حقَّة، غربلت أدعياء الثقافة لعدم قدرتهم على مواكبة الفعل الثقافي العالي، بل أصبحت مقصدًا لكل الطامحين إلى مناخ ثقافي حقيقي غير مُستَهلَك، وبالتالي فنحن أمام نماذج يمكن اعتمادها كنواة لتصويب بوصلة العمل الثقافي ليستعيد دوره المجتمعي الحيوي، ويترجل عن صهوته أولئك الأدعياء الذين لا يبتغون إلا الثقافة الهشَّة التي تصلح (برستيجًا) اجتماعيًّا ليس إلا.
كي تكتمل اللوحة
لا زلنا نحتاج للعمل الكثير كي تستعيد الحياة الثقافية روحها وتماسكها، وألفتها، فما حدث خلال الأزمة السورية، من انقسام في صفوف المثقفين كبير جدا والهوة لازالت كبيرة، واستعادة روح الثقافية في الداخل فقط ستكون ناقصة إن لم تتبعها خطوات أخرى لاستقطاب البقية ممن يتواجدون في الخارج لهذا السبب أو ذاك، وكي تكتمل جمالية اللوحة الثقافية، ولعلي أعرف بعض الجهود التي تتم في اتحاد الكتاب العرب من أجل لم الشمل يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح، ونتمنى أن تتبعها خطوات أخرى من باقي الجهات المعنية.
الأمسيات الثقافية وحدها لا تعني أن الثقافة بخير، ولا بعض المطبوعات في المؤسسات العامة، فالجهود يجب أن تتكاتف لما فيه مصلحة الجميع، كون الثقافة هي المرآة التي تعكس حضارة أي بلد وزهوته.