لم ينمْ أحمد وهو يفكّر في الشهيد محمد الدرّة، تقول أمّه: كان يوقظني عند الواحدة ليلاً، ويسألني أسئلة غريبة، وكنت أستمع له باهتمام، ويطير النوم من عينيّ وأنا أفكّر معه في أسئلته.

بم كان يفكّر يا ماما محمد الدرّة قبل موته بثوانٍ؟ لو كان في صفّي هل سنكون أصدقاء؟ هل تناول فطور ما قبل الرحيل؟ ما آخر الكلمات التي قالها لأُمّه على درج البيت؟ كيف أمضى زملاؤه في الصف ليلهم ليلة استشهاده؟ كيف سيتحمّل الطلاب مقعد الدرّة الفارغ؟ وماذا سيكتب مربّي صفّه في خانة السلوك؟ أين محمد الآن؟ هل يعرف أننا نحبّه ونشتاق إليه رغم أننا لم نعرفه عن قرب؟ محمد الدرة هو نحن، فلسطين والأطفال والدفاتر والمدارس والآباء، نحن نعرفه جيداً. أمّي: ما الذي فكّر فيه قاتل محمد بعد أن قتله بثوانٍ؟ هل عاد إلى البيت أم إلى المعسكر؟ هل حدّق في السقف؟ أم نام نوماً عميقاً وضحك مع زملائه الجنود؟ هل يندم الشرّ يا أمّي؟ أم أنه مبرمج على اللا ندم؟

علّق أحمد صورة الدرة ووالده وهما يتعرّضان للقتل على جدار غرفته فوق رأسه تماماً، وكنت أصحو عليه في العتمة وهو يكلّم الشهيد: "سيكون هناك بلاد جميلة لنا، وستكون عيناك نافذتيها". في الصباح سألته: من أين أتيت بجملة البلاد والعينين والنوافذ، هذه أكبر من سنّك؟ ضحك وقال: من قصص ماجد أبو شرار.

كانت مسيرة هادئة، لا احتكاكات أو مواجهات، وحين انتهت المسيرة، توجّه أحمد إلى مقام الشهيد حمزة أبو شخيدم، الذي سقط في حارة الشيخ، لم يفعل أحد شيئاً، لم يهتف أو يرمي حجراً حتى، فقط كان يمشي. في لحظة غير مفهومة أطلق جندي النار على قدمه، سقط الطفل على الأرض، وراح يصرخ طالباً إسعافاً، وينادي على أمّه. الأطفال فقط من ينادون على أمّهاتهم وقت الخطر، ماما. في تلك اللحظة، كانت الأمّ تصنع شاياً لزوجها، سقطت صينية الشاي، وصرخت: أحمددد. كان أحمد يبعد عنها مسافة طويلة، لكن لا مسافة بين قلب أحمد وقلب أمّه، هما قلبان في قلب واحد أصلاً. سمع الطفل صرخة أمّه فهدأ دمه قليلاً.

لكن...

المشهد تمدّد إلى مشاهد أخرى، حضر جندي همجي إلى المكان، وقام بوضع قدمه على عنق الشهيد، وأطلق رصاصة على مقدّمة رأسه، وتركه ينزف، وانطلق هارباً إلى موقعه العسكري.

كالعادة، اندلعت قصص كثيرة عن الطفل الجميل، أخلاقه، دماثته، ونباهته. دلّوني على شهيد ليس نبيهاً وبلا أخلاق؟

وعلى لسان الأمّ سمعنا قصصاً طويلة عن شخصيّة الشهيد: جواربه الثمينة التي تبرّع بها لطفل فقير، الساندويشات التي كان يشتريها لصديقه حين كان الطلاب الآخرون يسرقون مصروفه، حبّه للويفر المحلّى بالشوكلاتة، أسئلته الكثيرة حول زمن تحرير فلسطين: "كيف يبدو شكل فلسطين بعد التحرّر يا أمّي؟"

تشبه طريقاً ناعماً طويلاً محاطاً بالورد والأغاني والأطفال يا بُنيّ.

على شباك البيت، ما زالت الأمّ تنتظر أحمداً، وهو عائد من المدرسة حين يقترب من البيت، كان ينحني على ورد الجدار، يقطف وردة، ويصعد ليهديها لي، وهو يقول: "أهديك يا وردة أمّي، قبل أن تموت أمّي". وحين كنت أسأله من أين يأتي بهذه الجمل الأدبيّة، ولماذا يتحدّث عن موتي؟ كان يقول: "أستاذ الكتابة يدرّبنا على الإصغاء إلى داخلنا، وهو يا أمّي كان يحبّ أمّه جداً، لكنه لم يكن يهديها ورداً، كسلاً أو جهلاً كما يقول، وهو يقول إنّه نادم لذلك، وأحسّ بذنب قاتل حين ماتت، ويطلب منّا أن نفعل ما كان يجب أن يفعله هو حتى لا نذوق مرارة الندم". وقال لنا مرّة: "إن كل وردة في العالم هي أمّ متحوّلة بعد موتها، فالأمّهات لا يمُتن تماماً، بل يتحوّلن إلى ورود، بلا صوت بل برائحة رهيبة حلوة، وأحيانا إلى إشارات مرور على مفترق طرق رباعي ليراقبن الأبناء من كل الزوايا ويُضئن لهم الطريق".

الطفل أحمد القواسمه استشهد في الخليل بتاريخ 11-12-2000، وكان يبلغ من الورد 14 عاماً.