ترجمة: أحمد شافعي

«إسرائيل لا تغزو لبنان، إنما تحرره». هكذا أعلن الفيلسوف الليبرالي الفرنسي البارز برنارد هنري ليفي بينما كانت دبابات إسرائيل تعبر الحدود وطائراتها الحربية تقصف القرى في الجنوب وفي أحياء بيروت السكنية. إذ قال مبتهجا إن «في التاريخ لحظات» يصبح فيها «التصعيد ضرورة وفضيلة». وما يراه ليفي ليس أن إسرائيل تحرر لبنان وحده، ولكن أنها تحرر معه جزءا كبيرا من الشرق الأوسط.

ليس ليفي وحده هو المبتهج بتوسع الهجوم العسكري الإسرائيلي. فإسرائيل في نظر كثيرين تخوض حربًا لا لمحض «الدفاع عن النفس» ولكن -على حد تعبير الرئيس إسحاق هيرتسوج- «من أجل إنقاذ الحضارة الغربية، ومن أجل إنقاذ قيم الحضارة الغربية»، وذلك زعم يتردد صداه على ألسنة كثير من الداعمين. فماذا عن تدمير غزة، ومستشفياتها وجامعاتها، وقتل 40 ألفًا من أهلها؟ وماذا عن ألفي شخص قتلوا في لبنان خلال أسبوعين، وتشريد خُمس السكان؟ هي أضرار ثانوية على الطريق نحو إنقاذ الحضارة.

لا يجدر بي أن أقول ما أوشك أن أقول، ولكن بات شائعًا أن يوصف كل منتقد لحربي إسرائيل في غزة ولبنان بأنه داعم لحماس أو حزب الله أو مبتهج بمجزرة السابع من أكتوبر في العام الماضي، فاسمحوا لي أن أقول إن ما فعلته حماس كان مبالغا، وحماس مثلما كتبت ذلك في حينه «خيانة لآمال الفلسطينيين بقدر ما هي تهديد لليهود». ومثل ذلك يصدق على حزب الله.

ومع ذلك، حتى السابع من أكتوبر 2023، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي وأغلب حكومته أكثر دعمًا لحماس مما كنت أو يمكن أن أكون. فقد قال بنيامين نتنياهو في اجتماع لليكود سنة 2019: «أي شخص يريد إحباط قيام دولة فلسطينية عليه أن يناصر دعم حماس وإيصال الأموال إليها، وذلك ليحول دون خيار الدولتين»، وقال الجنرال الإسرائيلي السابق جيرشون هاكوهين -الذي دعم لسنين سياسة نتنياهو- «إنه يجعل من حماس أقرب شركائه. ففي العلن، حماس عدو، وفي الخفاء، هي حليف».

يرجع دعم إسرائيل لحماس إلى عقود، وهو «محاولة لتقسيم وتقليل الدعم لمنظمة التحرير الفلسطينية باستعمال بديل ديني منافس» مثلما قال أحد كبار عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لوكالة يونايتد برس إنترناشونال قبل أكثر من 20 عاما. ولقد بلغت هذه الاستراتيجية من النجاح حد أن وصلت حماس إلى السلطة باكتساح في عام 2006، وانقسمت السلطة الفلسطينية قسمين، فباتت حماس تسيطر على غزة وفتح على الضفة الغربية.

أشارت صحيفة تايمز أوف إسرائيل إلى أنه في السنوات الأخيرة «سمحت إسرائيل بدخول حقائب تحتوي ملايين من النقد القطري إلى غزة مارة من معابرها منذ عام 2018» مع قيامها عمليًا بـ«غض الطرف عن إطلاق البالونات الحارقة والصواريخ من غزة». ثم أضافت الصحيفة بعد يوم من مذبحة السابع من أكتوبر أن «مفهوم تقوية حماس بشكل غير مباشر قد ذهب أدراج الرياح».

لقد كانت حماس هي المسؤولة عما حدث في السابع من أكتوبر. لكن إسرائيل ساعدت في رعايتها تحقيقًا لهدف واضح هو إنكار الدولة الفلسطينية. والآن في محاولة للتراجع عن عملها السابق، أضاعت غزة. وعلى إسرائيل أن «تقوم بنكبة ثانية، فلا بد من طرد أهل غزة من وطنهم إلى الأبد» كما قال هاكوهين.

وعلى الرغم من سوداوية الاستراتيجية الإسرائيلية فليس فيها شيء استثنائي. حيث إن الحكومات الغربية سعت منذ عقود إلى استغلال الإسلام لمساعدتها في تحقيق مآربها السياسية، من تمويل المتطرفين الدوليين إلى طرد الجيش الأحمر من أفغانستان بعد الغزو السوفييتي سنة 1979 إلى تشجيع فرنسا العلمانية على إقامة غرف الصلاة في المصانع معتبرة الإسلام - على حد تعبير بول ديجود وزير الهجرة في حكومة فاليري جيسكار ديستان، «عامل استقرار لأن المؤمنين لا ينحرفون أو يضلون أو ينضمون إلى الاتحادات أو الأحزاب الثورية». وغالبا ما كانت أمثال هذه السياسات تُوجد فضاءات استطاعت الحركات الإسلامية أن تزدهر فيها. ولا نزال نعيش التبعات العنيفة الناجمة عن هذه الاستراتيجية.

ولا يتمثل هدف نتنياهو من توسيع حربي إسرائيل، والتهديد بتحويل لبنان إلى غزة أخرى، في «تحرير» أي شيء أو أي شخص، وإنما المحافظة على السيطرة، داخليًا وخارجيًا. والدروس المستخلصة من عمليات غزو لبنان السابقة -في أعوام 1978 و1982 و2006- يجب أن تكون واضحة. ففي الحالتين الأوليين، غزت إسرائيل من أجل مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية، وفي الثالثة من أجل محاولة القضاء على حزب الله الذي ظهر -بدعم من إيران- ردا على الغزو والاحتلال عام 1982. اتسم كل غزو بإراقة كبيرة للدماء، فمن ذلك في عام 1982 مجزرة لما يصل إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة فلسطيني وشيعي لبناني في مخيمين للاجئين ببيروت هما صبرا وشاتيلا على أيدي ميليشيا الكتائب المسيحية اللبنانية المتحالفة مع إسرائيل، ولم يحدث لأي أحد ما يمكن أن نطلق عليه «التحرير».

وثمة قضية أعمق هنا أيضا. فحسبما كتب المؤرخ رونالد شيشتر «أصبح اليهود بارعين في التفكير بالحداثة»، ويتردد في هذا صدى مما قاله ديفيد نيرنبرج في تأريخه الكلاسيكي لمعاداة اليهودية إذ أشار بالمثل إلى أن «الحداثة تفكر باليهودية». وما كان يعنيه الاثنان هو أن الأدوار الرمزية المرتبطة باليهود أصبحت وسيلة لمعالجة قضايا اجتماعية أكبر. فكتب نيرنبرج أن «المسألة اليهودية» ليست «محض موقف من اليهود ودينهم، وإنما طريقة للاشتباك مع العالم».

استعمال «اليهودي» على هذا النحو، بوصفه وسيلة لفهم العالم، يصدق أيضا بطبيعة الحال على معاداة السامية. فبالنسبة لأعداء السامية، يفسر الاعتقاد بالقوة اليهودية الأسطورية شرور العالم، وينطبق أيضا على العديد من تيارات محبة السامية philosemitism، وهو مصطلح صاغه في الأصل معادون للسامية ولكنه أصبح يستخدم على نطاق أوسع لوصف آراء من يكنون إعجابا خاصا بالحضور اليهودي في العالم.

وعلى نحو متزايد بات يصدق أيضا على التصورات الشائعة عن إسرائيل التي اكتسبت هي الأخرى مكانة رمزية في كلا جانبي الجدال. إذ أصبحت إسرائيل بالنسبة لكثير من المعادين لها رمزًا لكثير من بلايا العالم الحديث. وإسرائيل، بالنسبة لأنصار الدولة اليهودية، هي دولة أخلاقية بصفة خاصة، تحتمل عبء الدفاع عن الحضارة في مواجهة الهمجية. فإحدى الرؤيتين أدت إلى الاحتفاء بهجمة حماس في السابع من أكتوبر بوصفها «مقاومة»، والرؤية الأخرى رأت في دمار غزة وغزو لبنان دفاعا لازما عن القيم والحضارة الغربيتين.

ولو كان السابع من أكتوبر عمل «مقاومة»، ولو أمكن اعتبار دمار غزة والتوحش في لبنان خطوتين ضروريتين نحو عالم أكثر تحضرا، فإنني أرى أننا بحاجة إلى إعادة النظر فيما نعنيه بـ«المقاومة» وبـ«الحضارة».