يمكن القول إن التوتر الجيوسياسي الذي يعم الشرق الأوسط اليوم، وينذر بحرب إقليمية كبرى، هو جزء من صيرورة مؤثرات كثيرة، جيوسياسية وتاريخية، لعبت دورًا كبيرًا في البلوغ بهذه المنطقة إلى هذا الانحدار الخطير.
وفي تقديرنا، إن أبرز العوامل التي لعبت دورًا في هذا المصير الذي سيؤول إليه حال الشرق الأوسط من خلال التداعيات المرجحة لدخول المنطقة إلى مرحلة استحقاق دفع الفواتير جملة واحدة، الآن وهنا؛ يكمن في هوية «التخلف الحضاري» الذي أصاب هذه المنطقة منذ أكثر من ألف عام.
ولأن العوامل المؤثرة في بروز ظاهرة التخلف كثيرة، يأتي الاستبداد السياسي في جملتها، فإن البنية المعقدة التي أوجدت ذلك الواقع التاريخي كمأزق معاصر في منطقة الشرق الأوسط؛ تكونت من عناصر أوجدت هذا الواقع بصورة بدا من الواضح أنها اليوم تتسارع نحو التعجيل بالكارثة، أي بما يؤذن بوضوح؛ أنه قد فات الأوان لإمكانية تدارك الأمور (بعد زمن طويل كان أكثر من كافٍ لاستدراك القدرة على إصلاح الأمور) منذ البدايات الأولى للدولة العربية ما بعد الاستعمار.
إن ما يحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط من تفسخ سياسي لكثير من دوله يعكس إلى أي مدى أصبح انفجار التناقضات في المنطقة غير قابل لأي تسوية يمكنها أن تدفع إلى سوية من شأنها استدراك الوضع نحو حال أحسن.
أحيانًا يظن البعض أن هناك إمكانية في هذا العالم الحديث لتسكين تناقضاته الجيوسياسية، دون أن يدرك أن خطورة هذا الظن تكمن في أنه ظن سيفضي بالضرورة إلى مأزق انفجار التناقضات في مرحلة قادمة، وبما لن يجدي معه سوى الاستسلام وانتظار وقوع الكارثة!
المرحلة السياسية التي يمر بها الشرق الأوسط اليوم (وعلى وجه الخصوص المنطقة العربية منه) هي مرحلة انفجار التناقضات الحادة المتسارعة، على نحو يذكّر بما كتبه ذات مرة المفكر السوري ياسين الحاج صالح وهو يتأمل مصائر الامتناعات الجيوسياسية في المنطقة العربية حين كتب مقالًا قبل 22 عامًا بعنوان : «الانحلال حلًا»!
وبالرغم من العنوان التراجيدي في مضمون المقال الجارح؛ فإنه قد يكون أنسب تعبير لتفسير طبيعة الأوضاع الجيوسياسية التي ستؤول إليها هذه المنطقة في ضوء الصراع الذي بات اليوم من الصعب منع تحويل تناقضاته إلى نتيجة حرب إقليمية في المنطقة كما يلوح ذلك في ظل التهديدات بين كل من إسرائيل وإيران.
وحين تبدو عواصم عالمية كثيرة -وعلى رأسها عاصمة القرار الاستراتيجي الدولي، واشنطن- عاجزة على منع مثل هذه الحرب في الشرق الأوسط، فليس ذلك لعدم قدرتها على الفعل، بل لأن جملة من المعطيات والتناقضات الجيوسياسية في المنطقة أصبحت غير قابلة سوى للانفجار الحاد، وهذا بطبيعة الحال وضع ليس في وسع أي قوة في العالم؛ القدرة على تلافيه، لأن الشروط الداخلية التي تعمل على انفجار تناقضاته قد بلغت مرحلة متقدمة من النضوج.
ليس غريبًا، والحال هذه، أن نرى نماذج التفسخ الجيوسياسي تتسارع وقد بلغ نضجها مرحلة القطاف!
فمن مأزق الأيديولوجيات الدينية، إلى الأوهام الإمبراطورية، إلى التعثر الدائم في استيعاب شروط الحداثة السياسية، أصبحت كثير من دول منطقة الشرق الأوسط اليوم -والعربية منها على وجه الخصوص- متروكة لتفاعلاتها السائبة، التي تؤذن بمرحلة دفع الأثمان المؤجلة على نحو عاجل!
ومنذ أن كتب الأستاذان؛ حازم صاغية والمرحوم صالح بشير كتابهما المشترك «تصدع المشرق العربي» في عام 2007 كان من الواضح جدًا أن ما هو قادم من المصائر الجيوسياسية التي تحيق بالمنطقة أكبر بكثير من القدرة على استيعابه أو احتوائه.
اليوم، في ظل الهجوم الإسرائيلي المرتقب على إيران، وتهديد الأخيرة بالرد على الهجوم الإسرائيلي بهجوم مضاد، وردود الفعل الخطيرة التي ستنجر عن ذلك في دول المنطقة، سيبدو واضحًا أن هناك تغييرًا كبيرًا يلوح في الأفق، وأن هذا التغيير سيكون، على الأرجح، تغييرًا سلبيًا، لأن التناقضات الجيوسياسية التي أدت إلى هذا التغيير؛ كانت من تلك الطينة التي تعكس هويتها تخلفًا واضحًا في ممارسة أدوار السياسة.
وحين لا يستطيع العالم منع وقوع حرب محتملة في المنطقة، فإن ذلك -على الأرجح- يكمن في أن امتناع الشروط الداخلية المرجحة للحرب أقوى من أي محاولة لمنع الحرب!