كما الصوفـي يجد المعنى فـينقطع لسانه ويدرك عجز اللفظ عن احتواء وفـير المعنى الذي حل به، يجول عبد الله حبيب فـي المعاني الشريفة (فـي منزلتها فـي الوجود البشري)، يشير إليها ولا يخوض فـيها تفصيلا وفـيضان لغْو، يقف على المعاني الجليلة بشذرات وتأملات، وإشارات تتعسر أبعادها ومقاصدها على قارئ الشكل، قاصد اللفظ، وتنفتح مغاليقها لمن تحمل من الوجود اختبارا وتجريبا، وساح فـي عوالمه عيْنا وذهنا، وجال بين دفات الكتب يعاين غثها وسمينها، وشاهد من الفنون المرئية ما حصل له به إدراك ووعيٌ، وفتح عقول الفلاسفة يتشرب منها رحيقا يوافق مساره الذهني.
كتاب «كثيرةٌ جدا هذه اليابسة» الذي أصدره عبد الله حبيب مؤخرا، هو نصوصٌ وشذراتٌ وتأملاتٌ خطها كاتبها نتاج تجارب كتابة وحياة وتفاعل مع كون من حوْله، تفتح على الموت وعلى حيوات أزْهرت وذبلت، ولم يضع بعْد قلمه على حقيقة الوجود. هي نصوصٌ عصيةٌ على التجنيس، أبيةٌ على التصنيف، أرادها صاحبها نفْث مصدور، خارج نطاق التعليب، يلامس فـيها مواضيع لا يمكن أيضا ضبْطها ولا حدها، هي نفحات الصوفـي المؤمن بالمعنى الآبق عن الأوعية والأشكال، المعنى فـي إدراكه إحساسا ووعيا لا لفظا وبيانا، ولذلك فإنه ينفث المعاني العظيمة فـي «شذرات» فـي إشارات كأسْلافه الكبار الذين استعاضوا عن العبارة بالإشارة، واستبدلوا ضيق العبارة بوسيع الأفق، فنقرأ وعيا بالوجود، بكل أثْقاله ومعانيه التي يحملها معه، الحب والموت، بديلا عن الحياة والموت، فالحب هو الحياة، هو الركن المكين الذي تأسست عليه شذراتٌ ونصوصٌ وتأملات، وهو أصْلٌ جدير بالتأمل، حقيق بشذرة تفتح الذهن على عميق المعاني، الحب بؤرةٌ جالبةٌ جاذبةٌ وهو باق بقاء الإنسان، «سيبقى الحب دوما أكثر الحالات كثافة، تماما مثل الموت»، يقترن الحب بالموت، بالحياة، بالوجود الإنساني، يعبر عنه عبد الله حبيب فـي مناسبات عدد، إشارة أو مجادلة، أو لسع واخز، أو مفاضلة بين الفلاسفة فـي عمق إدراكهم لأبعاد الحب وأثره فـي الوجود البشري.
نصوصٌ حرة تبْدي رؤية وتفاعلا مع كتب، مع فلاسفة، مع سينمائيين، مع كتاب، مع وجود بشري من منظور فنان عايشها وعاشها وتفاعل معها إيجابا وسلْبا، مع حالات الفنان الإنسان، المخفـية والمعلنة، الفنان الذي يأكله الاكتئاب بفعل دقة إدراكه وحسن وعيه، فـيأكله هذا «الوحش البغيض»، ويوجد له حدا ويقدر على تعريفه فـيستدعي مقولة سوزان سونتاغ «الاكتئاب حزن بدون سحر»، ويعقب صاحب الكتاب على ذلك قائلا: «الاكتئاب حزن من غير شفافـية، غمٌ ليس كالهم، أمٌ من دون حنان، حليب فاسد، وسحابة اختناق»، الفنان، الأديب، هو المرشح لحالات الاكتئاب، بالرغم من أنه الأقدر على تحويل الهم والحزن إلى أعمال فنية خالدة. يطرق عبد الله حبيب مواضيع تخص العمق البشري، دون تعليل أو تحليل، دون كسْر للرؤوس والأدمغة، فـي وجيز من القول، وكأنه غير معني بالبيان والإقناع، وإنما هو معني بالقول، بأنْ يصْدر المعنى، بأن يبث رأيه ورؤيته من عناصر هذه الحياة. يستدعي عبد الله حبيب أصواتا وأصداء عددا يجول فـيها وبها، يسْحبها من وفْرة ما ورقت وما صورت وما أخْرجت وما قالت إلى مخْتصر من التعبير، موجز من اللفظ، يستدعي «شياطينه» فـي الكتابة وفـي السينما، فـي الفكر وفـي الإبداع، فـي الصورة وفـي الكلمة، وقد أجْمل تجاربها وامتص عصارتها واختصر وافر منتجها فـي عبارة أو عبارات، فـي إشارة أو شذرات، فـي تأمل أو فـي نص دال، مكثف، عميق، نافذ: شكسبير، تشارلي تشابلن، روبير بريسون، كافكا، هتشكك، لينين، نيتشة، باترك زوسكند صاحب رواية العطر، كارل ماركس، ماياكوفسكي، دوستويفسكي، ناظم حكمت، جورج باتاي، وغيرهم كثر ممن مثل الأرضية المرجعية التي كونت النسيج القرائي والمعرفـي للكاتب. يعسر على الناقد أن يتتبع كاتبا بهذا الثراء والتنوع، وهو يسيح به من المرئي المشاهد إلى الكتبي المقروء، ومن ثقافة العرب إلى ثقافة الغرب، ومن القديم إلى الحديث، ومن الشعر إلى النثر، ومن الفلسفة والفكر والتاريخ والحضارة إلى الرواية والشعر والسينما، صعبٌ أن يجد الناقد القارئ لهذا الكتاب يابسة لا تميد به، ولا تهتز. وفْرةٌ من الرؤى، من الانطباعات، من الاعتقادات، من التجارب فـي الحياة والفن والثقافة والأدب، تعرض فـي معرض حسن، فـي لغة شعرية، وعبارات خفـيفة على السمع والتلقي، ثقيلة على المعنى وعلى التأويل، ولذلك فقد صدق عبدالله حبيب فـي نقده للنقاد، وأنهم ميالون إلى التشريح والتفكيك والفهم والإفهام دون الإحساس والمشاركة فـي ألم النص. صحيحٌ أن أغلب النقد شكلي، تعليمي، تصنيفـي، تبويبي، لا يصمت يوم ينبغي أن يصمت، يعبر عبد الله حبيب على غير نهجه فـي هذه الشذرات عن هذا المأزق النقدي بوضوح وجلاء قائلا: «لكن مشكلة النقد -ومشكلتي على حد سواء- هي أن لغتي ودموعي، وهواجس موتي لا تجعله قادرا على فهم عذابي بالضرورة. العكس هو الصحيح تماما: عذابي أكبر من مقاربة النقد بالضرورة».
فعلا لا يمكن للناقد سوى أن يقرأ فـي أحايين عديدة ويصمت، فلا كلام على الكلام يقال أمام بيت المعري: «جسدي خرقةٌ تخاط إلى الأرض/ فـيا خائط العوالم خطْني»، هذه الكثافة الشعرية تقتضي مشاركة فـي المنطلق والمقام والعذاب دون شرح أو تشريح. كما الصوفـي -دوما- تكون اللغة بؤرة الناظر ومركز اهتمام الإشارة، اللغة الوعاء أو اللغة الجوهر، اللغة التي شبهها بـ«بوصلة تبحث عن حمامة» فـي رحلة تقصيها عن الجديد، ومن هنا تكون الكتابة فعلا حارقا يستعيد عبد الله حبيب الحديث عنها فـي أكثر من موقع، واصلا إياها بالعجز أمام الهيولى، ولكنها فعلٌ تعبيري لا يخوضه إلا من أدرك عمق الوجود وخرج من دائرة الإنسان الحيوان الذي يحيا ليأكل ويموت، الكتابة هي وعي بالعالم، هي «خللٌ كبير يبعث على الخجل ورعشة هائلة فـي يوم الحشر، وعطب كبير أمام حطب مدافئ الشتاء»، ولكنها قدرٌ واحتراقٌ. يرعبك هذا الكتاب الحامل لأجناس متجانسة، لأشكال فـي القول لا نعرف الفوارق بينها، هي نتفٌ أحيانا تغلب عليها الإشارة، هي نصوصٌ أحيانا أخرى، تعرض لفـيلم ونقده (فـيلم «ريش» على سبيل المثال، وما جوبه به من آراء الفننين والنقاد، والكارثة التي نتجت عنه)، أو لقضية تشغل المثقفـين وتثير جدلا، مثل التمايز بين الشعر والرواية والقول بموت الشعر واندحاره، يقول فـيها الكاتب رأيه، وينتصر للشعر مبينا أنه قائم على معادلة خاصة تبقيه نابضا حيا مدى بقاء نبض الإنسان، وأن «الشعر سينتهي فقط حين تكف الأرض عن التوجع والألم والبحث عن كلمات لا توجد فـي الذاكرة والمعاجم»، أو لما ساد حياة الإنسان من مظاهر حادثة وجب القول فـيها (السلفـي). نصوصٌ تدعوك إلى التفكر وإعمال الروية، وتأخذك إليها وكأنك تقول القسم الأوفر منها، وإن اختلفت مع الكاتب رؤية ورأيا، غير أن أسلوبه الشعري يدفعك إلى تحقيق القراءة التي يريدها صاحب الكتاب: الاشتراك فـي الألم.
كتاب «كثيرةٌ جدا هذه اليابسة» الذي أصدره عبد الله حبيب مؤخرا، هو نصوصٌ وشذراتٌ وتأملاتٌ خطها كاتبها نتاج تجارب كتابة وحياة وتفاعل مع كون من حوْله، تفتح على الموت وعلى حيوات أزْهرت وذبلت، ولم يضع بعْد قلمه على حقيقة الوجود. هي نصوصٌ عصيةٌ على التجنيس، أبيةٌ على التصنيف، أرادها صاحبها نفْث مصدور، خارج نطاق التعليب، يلامس فـيها مواضيع لا يمكن أيضا ضبْطها ولا حدها، هي نفحات الصوفـي المؤمن بالمعنى الآبق عن الأوعية والأشكال، المعنى فـي إدراكه إحساسا ووعيا لا لفظا وبيانا، ولذلك فإنه ينفث المعاني العظيمة فـي «شذرات» فـي إشارات كأسْلافه الكبار الذين استعاضوا عن العبارة بالإشارة، واستبدلوا ضيق العبارة بوسيع الأفق، فنقرأ وعيا بالوجود، بكل أثْقاله ومعانيه التي يحملها معه، الحب والموت، بديلا عن الحياة والموت، فالحب هو الحياة، هو الركن المكين الذي تأسست عليه شذراتٌ ونصوصٌ وتأملات، وهو أصْلٌ جدير بالتأمل، حقيق بشذرة تفتح الذهن على عميق المعاني، الحب بؤرةٌ جالبةٌ جاذبةٌ وهو باق بقاء الإنسان، «سيبقى الحب دوما أكثر الحالات كثافة، تماما مثل الموت»، يقترن الحب بالموت، بالحياة، بالوجود الإنساني، يعبر عنه عبد الله حبيب فـي مناسبات عدد، إشارة أو مجادلة، أو لسع واخز، أو مفاضلة بين الفلاسفة فـي عمق إدراكهم لأبعاد الحب وأثره فـي الوجود البشري.
نصوصٌ حرة تبْدي رؤية وتفاعلا مع كتب، مع فلاسفة، مع سينمائيين، مع كتاب، مع وجود بشري من منظور فنان عايشها وعاشها وتفاعل معها إيجابا وسلْبا، مع حالات الفنان الإنسان، المخفـية والمعلنة، الفنان الذي يأكله الاكتئاب بفعل دقة إدراكه وحسن وعيه، فـيأكله هذا «الوحش البغيض»، ويوجد له حدا ويقدر على تعريفه فـيستدعي مقولة سوزان سونتاغ «الاكتئاب حزن بدون سحر»، ويعقب صاحب الكتاب على ذلك قائلا: «الاكتئاب حزن من غير شفافـية، غمٌ ليس كالهم، أمٌ من دون حنان، حليب فاسد، وسحابة اختناق»، الفنان، الأديب، هو المرشح لحالات الاكتئاب، بالرغم من أنه الأقدر على تحويل الهم والحزن إلى أعمال فنية خالدة. يطرق عبد الله حبيب مواضيع تخص العمق البشري، دون تعليل أو تحليل، دون كسْر للرؤوس والأدمغة، فـي وجيز من القول، وكأنه غير معني بالبيان والإقناع، وإنما هو معني بالقول، بأنْ يصْدر المعنى، بأن يبث رأيه ورؤيته من عناصر هذه الحياة. يستدعي عبد الله حبيب أصواتا وأصداء عددا يجول فـيها وبها، يسْحبها من وفْرة ما ورقت وما صورت وما أخْرجت وما قالت إلى مخْتصر من التعبير، موجز من اللفظ، يستدعي «شياطينه» فـي الكتابة وفـي السينما، فـي الفكر وفـي الإبداع، فـي الصورة وفـي الكلمة، وقد أجْمل تجاربها وامتص عصارتها واختصر وافر منتجها فـي عبارة أو عبارات، فـي إشارة أو شذرات، فـي تأمل أو فـي نص دال، مكثف، عميق، نافذ: شكسبير، تشارلي تشابلن، روبير بريسون، كافكا، هتشكك، لينين، نيتشة، باترك زوسكند صاحب رواية العطر، كارل ماركس، ماياكوفسكي، دوستويفسكي، ناظم حكمت، جورج باتاي، وغيرهم كثر ممن مثل الأرضية المرجعية التي كونت النسيج القرائي والمعرفـي للكاتب. يعسر على الناقد أن يتتبع كاتبا بهذا الثراء والتنوع، وهو يسيح به من المرئي المشاهد إلى الكتبي المقروء، ومن ثقافة العرب إلى ثقافة الغرب، ومن القديم إلى الحديث، ومن الشعر إلى النثر، ومن الفلسفة والفكر والتاريخ والحضارة إلى الرواية والشعر والسينما، صعبٌ أن يجد الناقد القارئ لهذا الكتاب يابسة لا تميد به، ولا تهتز. وفْرةٌ من الرؤى، من الانطباعات، من الاعتقادات، من التجارب فـي الحياة والفن والثقافة والأدب، تعرض فـي معرض حسن، فـي لغة شعرية، وعبارات خفـيفة على السمع والتلقي، ثقيلة على المعنى وعلى التأويل، ولذلك فقد صدق عبدالله حبيب فـي نقده للنقاد، وأنهم ميالون إلى التشريح والتفكيك والفهم والإفهام دون الإحساس والمشاركة فـي ألم النص. صحيحٌ أن أغلب النقد شكلي، تعليمي، تصنيفـي، تبويبي، لا يصمت يوم ينبغي أن يصمت، يعبر عبد الله حبيب على غير نهجه فـي هذه الشذرات عن هذا المأزق النقدي بوضوح وجلاء قائلا: «لكن مشكلة النقد -ومشكلتي على حد سواء- هي أن لغتي ودموعي، وهواجس موتي لا تجعله قادرا على فهم عذابي بالضرورة. العكس هو الصحيح تماما: عذابي أكبر من مقاربة النقد بالضرورة».
فعلا لا يمكن للناقد سوى أن يقرأ فـي أحايين عديدة ويصمت، فلا كلام على الكلام يقال أمام بيت المعري: «جسدي خرقةٌ تخاط إلى الأرض/ فـيا خائط العوالم خطْني»، هذه الكثافة الشعرية تقتضي مشاركة فـي المنطلق والمقام والعذاب دون شرح أو تشريح. كما الصوفـي -دوما- تكون اللغة بؤرة الناظر ومركز اهتمام الإشارة، اللغة الوعاء أو اللغة الجوهر، اللغة التي شبهها بـ«بوصلة تبحث عن حمامة» فـي رحلة تقصيها عن الجديد، ومن هنا تكون الكتابة فعلا حارقا يستعيد عبد الله حبيب الحديث عنها فـي أكثر من موقع، واصلا إياها بالعجز أمام الهيولى، ولكنها فعلٌ تعبيري لا يخوضه إلا من أدرك عمق الوجود وخرج من دائرة الإنسان الحيوان الذي يحيا ليأكل ويموت، الكتابة هي وعي بالعالم، هي «خللٌ كبير يبعث على الخجل ورعشة هائلة فـي يوم الحشر، وعطب كبير أمام حطب مدافئ الشتاء»، ولكنها قدرٌ واحتراقٌ. يرعبك هذا الكتاب الحامل لأجناس متجانسة، لأشكال فـي القول لا نعرف الفوارق بينها، هي نتفٌ أحيانا تغلب عليها الإشارة، هي نصوصٌ أحيانا أخرى، تعرض لفـيلم ونقده (فـيلم «ريش» على سبيل المثال، وما جوبه به من آراء الفننين والنقاد، والكارثة التي نتجت عنه)، أو لقضية تشغل المثقفـين وتثير جدلا، مثل التمايز بين الشعر والرواية والقول بموت الشعر واندحاره، يقول فـيها الكاتب رأيه، وينتصر للشعر مبينا أنه قائم على معادلة خاصة تبقيه نابضا حيا مدى بقاء نبض الإنسان، وأن «الشعر سينتهي فقط حين تكف الأرض عن التوجع والألم والبحث عن كلمات لا توجد فـي الذاكرة والمعاجم»، أو لما ساد حياة الإنسان من مظاهر حادثة وجب القول فـيها (السلفـي). نصوصٌ تدعوك إلى التفكر وإعمال الروية، وتأخذك إليها وكأنك تقول القسم الأوفر منها، وإن اختلفت مع الكاتب رؤية ورأيا، غير أن أسلوبه الشعري يدفعك إلى تحقيق القراءة التي يريدها صاحب الكتاب: الاشتراك فـي الألم.