«اللغة السَلُّوتية».. مصطلح أطلقتُه على اللغة التي سادت «حضارة سَلّوت»، وهي قيد الاكتشاف والبناء الأولي؛ بدراسة خاضعة للتطوير والتعديل والإضافة والحذف. المقال.. يحاول فتح الأفق أمام الباحثين في المجالين الحضاري واللغوي حول هذه اللغة، وبرجاء أن يحظى بمداخلات علمية منهم لتطوير الدراسة، وليمنحها ثراءً ويجعلها أكثر تماسكًا. أما «حضارة سَلّوت».. فهو مصطلح أطلقته على الحضارة التي قامت في شبه الجزيرة العمانية، منذ بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد حتى الميلاد، وقد جعلتها الطور الثاني للثقافة العمانية، وهو طور التأسيس الحضاري بعُمان. هذا الطور حقب طويلة لا يكفي إخضاعها لسياق حضاري واحد، لكن بسبب حداثة الدراسات، وعدم توفر المواد العلمية الكافية عن تلك الحقب، الباحث مجبر بأن يتحدث عنها بالعموم، ريثما تقطع الدراسات أشواطها المأمولة، كاشفة عن المزيد من ملامحها.

بالنسبة للأقوام البائدة.. فإن اللغة لا يمكن معرفتها إلا من خلال تحليل اللُقى والألواح والصخور ونحوها، وإن كانت الكتابة هي ما يصل إلينا -رغم شحها- من الحقب الغابرة؛ فإن اللغة هي الأقدم، فما الكتابة إلا تقييد المنطوق، ومع أنها لا تحتفظ بالتصويت اللغوي «الفونيم» -أي حركة نطق الحرف- كما نشأ، حيث يختفي عبر الأجيال التي تهلك ليظهر تصويت آخر؛ إلا أن الكتابة تظل أهم عنصر يمكن التعرف منه على اللغة، وبالنسبة لعمان ما قبل الميلاد لم يُعثر على ألواح كتابية فيها -حتى الآن- إلا عددًا يسيرًا، ومع ذلك؛ أحاول أن أتلمس بعض الدلائل والمؤشرات لعلي أصل إلى ما يخدم الباحثين.

الأقوام الذين سكنوا المنطقة زمن «حضارة سلوت» لم ينقرضوا؛ وثقافاتهم تواصلت حتى زماننا، مع حصول الهجرات إلى عُمان، لكن الوافدين الجدد لم يؤدِ تأثيرهم إلى انفصام باتٍّ بين مراحل الثقافة واللغة والدين المختلفة، وإنما اندمجوا في الاجتماع البشري القائم بالأساس، وهذا ما تدل عليه الشواهد اللغوية. في الإطار الزمني لتطور اللغة شهدت المنطقة فجوة كتابية كبيرة، وهي شبه الغياب لسجلات التدوين كالألواح الحجرية والفخارية والرخامية، إلا أنني لا أجزم بغيابها نهائيًا؛ فالتنقيبات لا زالت محدودة، ولذلك؛ لم تقم حتى الآن دراسات على لغة الأسلاف الأقدمين.

توجد مؤشرات كتابية في عُمان حالَ مواصلة التنقيب والبحث، فجبالها من الشمال إلى الجنوب ترصعت بخطوط مسندية، وقد عثر على بعضها في وادي السحتن ووادي بني خروص وكدم وبَهلا، كما عُثِر على ألواح قليلة بخط المسند في ظفار، ومليحة في الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة.

في دراسة قمتُ بها.. وجدت أن الدلائل الآثارية تشير إلى أن آباء السومريين خرجوا من جبال عُمان، فعمدتُ إلى المعجم السومري للتوصل إلى معاني بعض الكلمات العمانية القديمة، والتي لا توجد غالبًا في القواميس العربية. وقد وضعت مسردًا يضم حوالي 70 كلمة، لأماكن وأدوات ومصطلحات عمانية، ولا زلت أعمل على الإضافة إليه والتعديل فيه. لقد دخل بسبب طول الأمد بعض التغييرات على الكلمات، مما لزمني المقاربة فيها، خاصةً؛ أن الفونيم يتغيّر باستمرار. وعلى الرغم من الاحتفاظ بهذه الكلمات إلا أنني لا يمكن أن أضبط دقة النطق بها، اللهم إلا ما احتفظ به المعجم السومري ولا يزال ينطق عندنا كما هو. وقبل سوق الأمثلة من هذه الكلمات، أضع بعض ما توصلت إليه من سمات «اللغة السلوتية».

1. نشأتها الأولى موغلة في القدم، وما سجّله المعجم السومري منها قد لا يزيد عمره عن خمسة آلاف سنة.

2. مرتبطة بالبُعد الديني ارتباطًا وثيقًا، ففهم المعتقدات الدينية لـ«حضارة سَلّوت» يفيد بناءها اللغوي، والعكس كذلك.

3. حُفِظت بعض كلماتها وسماتها في المعاجم اللغوية القديمة كالسومرية والأكادية.

4. بسبب طول المدة تعرضت للتطور والتبدل، ومع ذلك؛ بقي بعض سماتها وكثير من مفرداتها في لسان أهل المنطقة.

5. تتكوّن من مقاطع صغيرة، في أغلبها ما بين حرف وثلاثة أحرف.

6. لغة إلصاقية؛ أي تتشكل الكلمة الجديدة بإلصاق كلمتين أو أكثر، ويبدو أنها تطورت كعموم اللغة في جزيرة العرب إلى لغة اشتقاقية.

7. أغلب الكلمات مكوّنة من صوامت، وظلت محافظة على بداية الكلمة بصامت في بعض مناطقنا العمانية حتى زماننا، رغم غلبة العربية الحديثة التي لا تبدأ بصامت.

8. عند الانتقال من حالة الصوامت إلى التحريك؛ قد يلزم إضافة حرف، كما في بَهلا؛ أصلها بَلا؛ وتعني الصراع والتنافس.

9. ينطق متكلموها الحروف الحلقية كالحاء والعين، وما دوّنته القواميس المعاصرة من اللغات القديمة بالجزيرة العربية من هذه الحروف بالهاء والهمزة؛ فعائد إلى أن واضعي هذه القواميس غربيون لا تنطق أفواههم الحروف الحلقية.

أضع هنا بعض الكلمات العمانية ومعانيها المحلية، التي أخالها واردة من تلك الحقب، مع بيان معناها في المعجم السومري، والذي استعنت فيه بكتاب «ما قبل اللغة» لعبدالمنعم المحجوب:

- آد.. دورة سقي الزروع والأشجار بمياه الفلج، ومنها «دات».. كلمة تضاف إلى البساتين التي تسقى بالقنوات «الأفلاج»، مثل: دات خيل: بلد زراعي في الحمراء. وبالإمالة.. ديت سعلا وديت جهمة بساتين ببَهلا، وديت شخر بنزوى. وفي السومرية.. إدَ: نهر، قناة. دو: ماء. وبنظري.. تنطق فيها «دات» أو «إدت»، لأنها في المصرية القديمة تنطق «إدات» بثبوت التاء.

- الحورة.. تطلق على بعض الجبال، وأصلها البلدة التي تنشأ تحت الجبل. وفي السومرية.. حر: المدينة. ورَسَمها علماء اللغة السومرية الغربيون «ءر»، لعدم نطق «الحاء» في لغاتهم. وبتتبعنا المناطق التي يطلق عليها «الحورة» في عمان؛ من خلال الآثار التي عثرنا عليها وجدنا أنها كانت معمورة قديمًا.

- حِزّ.. لحم، وحتى اليوم نطلق على قطع اللحم حِزّاً. ورسمت في القاموس السومري المعاصر «ءز»، للسبب الذي ذكرته.

- السَّل.. ممرٌ ضيّق، كمجاري الأفلاج في باطن الأرض. ومنه الفعل سَلَّ: شق ممراً في باطن الأرض. وفي السومرية «سِل»: خرق ضيّق.

- الشُّرص.. عندنا؛ الصراصير، والمفرد شرصة. وفي السومرية «شرن»: الصراصير.

- عقرن.. في السومرية: الحرم المقدس، وقصر الدار وأصله، ورسمت في القاموس السومري «أكرن» بالهمزة، للسبب السابق. وينتشر اسم «العقر» في عُمان، فقد سميت بها بلدان وحارات؛ منها: في وادي بني خالد ووادي المعاول والرستاق وشناص والبريمي ونزوى وبَهلا. وعقر بَهلا.. هي أصل العمران في البلاد، وفيها المعبد الذي حل محله في الإسلام الجامع القديم، بحسب التنقيبات الأثرية، وفيها نشأت المنطقة الإدارية: الحصن والسوق.

- العتم.. الزيتون البري، ينمو في الجبل الأخضر بعمان، وينطق في السومرية «عنم»، وتبدّل الحروف من معهود اللغات، ورسمت في القاموس السومري الحديث «ءنم».

- القَبّ.. تستعمل عندنا بمعنى العصا، ويبدو أنه مأخوذ من استقامته وانتصابه، وفي السومرية «قب»: انتصب.

- ك.. في السومرية تعني الأرض، وتأتي بمعنى أرض كذا. وعندنا «ك» مقطع دخل في تكوين أسماء بعض الأماكن مثل: إزكي، كيد، سيجا، قيقيا. ويختلف نطقه ما بين القاف والكاف والجيم، لاختلاف فونيم هذا الحرف في لغات المنطقة، مثلما هو حاليًا بين العرب.

- الكور.. جبل كبير ببَهلا، وفيه قرى؛ منها: سنت وصنت. والكور.. عندنا أيضاً الموقد، وفي السومرية.. يحمل هذه المعاني؛ أي الجبل والموقد، ومنه أُخِذَ الجحيم.

- كشم.. في السومرية: مكان معتزل. وكشم: اسم جبل في القلعة بولاية الحمراء، قرب جبل كدم منعزل عنه. ومن «كشم» أُخِذَ الخشم؛ مقدم الوجه.

- مر.. في السومرية: حصير مجدول من القصب، وكل مجدول فهو «مرار»، وعندنا؛ المرار.. الحبل المجدول، غالباً يفتل من الصوف، وكان استعماله شائعًا إلى وقت قريب.