يصعب نظريا إعطاء قراءات دقيقة لسرديات الهرم الاجتماعي كمثل هذا الطرح الذي بصدد مناقشته هنا، ولكن ربما من خلال بعض المظاهر الاجتماعية النظر في مستواه الأفقي «الشكل» أكثر من الرأسي «العمق والدلالات» حيث يحتاج هذا الأمر الأخير إلى متخصص «دراسة» ففي مستواه الأفقي يمكن النظر إلى: نمو أسر في فئات النخبة نموا لافتا خاصة إذا حدث هذا النمو في فترات قصيرة من عمر المجتمع ككل، والعمر هنا يقاس بمستوى تأثير برامج التنمية، خاصة إذا لوحظ انسحاب أو اختفاء الفئة الاجتماعية الوسطى من سلم الهرم، واقتصر الأمر على فئتين: أحدهما تشكل رأس الهرم، والأخرى قاعدته العريضة، لأن في ذلك «مظنة» تذهب إلى طرح تساؤلات كثيرة خاصة أيضا إذا قابلها تزايد في أسر المعوزين والفقراء، نمو الباحثين عن عمل وتراكم أعدادهم، وخاصة في المراحل الأولى لعمر التنمية في أي بلد، تقليص أو زيادة الفجوة في مستوى الرفاه بين مجتمعي المدينة والقرية، حيث تستحوي المدن غالبا الاهتمام الأكبر في التنمية مستوى السرعة أو البطء في عمليات الحراك الاجتماعي على مستوى الوطن الواحد ازدياد حالات الزواج (أسر جديدة)، نقص أو زيادة حالات الطلاق، زيادة أو نقصان في عدد المواليد دون تدخل برامج حكومية موجهة، نمو فئة التكنوقراط في المؤسسات، مؤشرات نمو أو انخفاض في عدد أصوات الناخبين، عدم أو وجود الـ «كوتات النسائية»، تحسن أداء مؤسسات المجتمع المدني وتنوعها، زيادة عدد المدارس الخاصة أو المؤسسات الصحية الخاصة، زيادة أو نقصان الارتباطات الاجتماعية الأفقية والرأسية في المجتمع، فيما يعرف بـ «الإندماج التواصلي» ملاحظات مستوى الشعور (انخفاضا/ زيادة) بالمسؤولية الاجتماعية لدى فئات المجتمع، وخاصة الفئات العمرية الأصغر ويقاس ذلك من خلال عدم الإضرار بالبيئة المحيطة، والمحافظة على المال العام، مستويات الزيادة والانخفاض في القضايا الاجتماعية المعروضة أمام المحاكم، النظر في التقارب النسبي في مسألة التباين الهرمي، في بُعديه الكمي والنوعي، مثال: البعد الكمي للنوع (ذكور/ إناث) أو البعد الكمي في المعرفة (متعلمون/ أميّون) أو الكم النوعي في الوعي (مدركون/ جهال) أو الكمّ النوعي في الديمقراطية (مصلحون/ معارضون)، ففي كل ذلك مؤشرات مهمة لصانع القرار التنموي، في كل المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه التباينات كلها التي يسجلها الهرم الاجتماعي، على الرغم من أنها حاضرة في كل المجتمعات، المتقدم منها والمتأخر، وإن بدرجات المتفاوتة، إلا أنها مهمة جدا، ومراجعتها بشكل دوري مهم لجس نبض ديناميكية المجتمع أو تراجعها، ومعالجة تذبذبها أهم بلا شك.

يرتبط تباين التجانس الهرمي بتباين المجتمعات، ويحدث ذلك انعكاس لمستوى التطور أو التخلف الذي يعيشه كل مجتمع على حدة، فكما أن المجتمعات ليست على تجانس تام في كل مشاريعها الحياتية، لظروف كثيرة جيوسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، فهي كذلك ليست على تجانس تام في مستويات الفكر الذي تتعامل به داخل محيطها، ومستويات إنجازاتها المادية والمعنوية المختلفة، بما في ذلك أثر توجهات أنظمتها السياسية، ومستوى استقلاليتها من عدمه، ولذلك فعقد المقارنات بين المجتمعات في شأن التجانس الهرمي يعبر عن افتقاد الرؤية المتوازنة في الحكم على الأشياء، لأن المساواة تظل في حكم المستحيل في أن تتوافق الأنظمة السياسية توافقا تاما مع أخرى إلا في حدود ضيقة جدا ويكون ذلك في صورة مقننة عبر اتفاقيات موقعة بين الطرفين في موضوعات محددة جدا، وهذه الحدود الضيقة هي ما تمليه عليها مصالح الطرفين، وقد تخضع لفترات زمنية محددة أيضا، وقد تملي هذه المصالح على تجديد اتفاقيات لمشروعات أخرى مختلفة تجسيدا لذات المصالح، ويدخل في ذلك مستويات الأدوار التي تؤديها الأنظمة في المشروع الدولي العام، وارتباطاتها الجيوسياسية مع غيرها، أما في غير ذلك، فيحل المستحيل على التوافق التام.

ويأتي التباين الهرمي في كل مجتمع على حدة، ليعكس قراءة نوعية عن المجتمع ذاته، ويعطي دلالات معينة نحو الغايات التي سيصل إليها بعد فترة من الزمن، ولذلك يشكل التباين الهرمي مسألة مهمة لصانع القرار في ذات النظام السياسي أو الاجتماعي، أو للآخر الذي يرقب مستوى التغير الذي يمر به مجتمع ما، يهمه أمره لشيء ما، ولذلك يكون في الغالب أن هناك حرصا من قبل الأنظمة السياسية على وجه الخصوص في التقليل من الإشارة إلى مستويات التباينات التي تحدث في الهرم الاجتماعي، فيما يتبين من ظواهر اجتماعية معينة على مستوى هرم التباين، والعمل على تقليص الفجوات بين أشكال هذا التباين في أقرب فرصة، ودراسة أسباب التباين، وقد تشكل لأجل ذلك لجان متخصصة للوقوف على الأسباب، والعمل على معالجتها، ودعم المسار الإيجابي أحيانا في أحدها أكثر لأهمية الدور الذي يؤديه، وهذا الحرص قد ينظر إليه أيضا من باب تحصين المجتمع من الاختراق من الجانب المعادي، وهذا أمر تدركه الأنظمة السياسية أكثر، وتعمل على تحييده بصورة مستمرة، ولذلك تخفي الدول -على سبيل المثال- الرقم الحقيقي لعدد السكان في الدولة، حتى لا يستشف منه قراءة معينة صعودا أو نزولا يهم أي طرف يراقب هذا المشهد، لأن في ذلك خطورة على مستقبل الدولة ككل، وليس فقط على الحركة الموضعية للمجتمع، كما هي المقاربة في مثال الشركات التي لا تفصح عن الرقم الحقيقي لرأسمالها في الإفصاح السنوي أو الفتري، تهربا من الضرائب، أو من الحسد، كما يعتقد رؤساء مجالسها، أو محاسبتها من قبل أصحاب الأسهم فيها.

وتبقى مسألة مهمة هنا وهي: أن المجتمعات الكبيرة بتركيبتها الاجتماعية المعقدة أكثر صعوبة في ظهور أشكال هرمها بصورة واضحة، بخلاف المجتمعات الصغيرة والأقل تعقيدا، حيث تظهر أشكال هرمها بصورة واضحة أو حتى دراستها، والحصول على نتائج أكيدة، وإعطاء أحكام خاصة بها، أو استشراف مآلاتها الاجتماعية بعد فترة من الزمن، ويمكن القول: إن التباين أو التجانس بين المجتمعات بشكل عام، لا يهم كثيرا الأفراد في كل مجتمع على حدة، وما يهمهم أكثر هو ما يكون في مجتمعهم الصغير، وذلك للحصول على نتائج مباشرة، وعوائد يستفيدون منها لتسيير حيواتهم اليومية، ويرون من خلال هذه النتائج المتحصلة مستوى التحقق الذي وصل إليه جهدهم، فالجميع بلا شك يهمهم تقلص الفقر، تقلص الباحثين عن عمل، تقلص مستويات الجهل، تقلص حالات الطلاق، تقلص مستويات الرفاه بين المدينة والقرية، زيادة الوعي بين المواطنين الذاهبين إلى المشاركة الواسعة في المشاركة السياسية، تحسن أداء مؤسسات المجتمع المدني، زيادة الشعور بالمسؤولية الاجتماعية لما فيها من الإحساس بقيمة الفرد وحريته، نشاط التواصل الاجتماعي على مستوى الفرد والجماعة، فكل ذلك يقلص من مجموع التباينات في الهرم الاجتماعي، ويعكس مؤشرات مهمة لنمو برامج التنمية، وتأثيرها المباشر على الواقع العام للمجتمع، ويؤسس شعورا وطنيا بأهمية الفرد ودوره في المجتمع، وتعظيم عائد اللحمة الاجتماعية، ويجفف من مستويات منابع الغبن والاحتقان من عدم تحقق بناء الشخصية الذاتية أو الاجتماعية، وضعف القيمة المعنوية في نفوس أبناء المجتمع.

ومن هنا تتأصل أكثر وأكثر أهمية القراءة الدورية لأشكال الهرم الاجتماعي، وهي -كما هو معروف- أشكال ليست مادية ملموسة موضوعة في مكان ما، يسهل مشاهدتها أو زيارتها، وإنما هي مجموعة من النتائج المتحصلة من برامج وخطط، فاعلة ومستمرة، سواء لخطط بعيدة المدى أو قصيرة أو متوسطة، معززة بالكثير من الجهود البشرية والمادية، تسخر لتحقيقها بالإضافة إلى الميزانيات المالية، المعرفة والفكر، وتوظيف الآليات الحديثة، والنظم والبرامج، فالهرم الاجتماعي لا يقبل إطلاقا حالة الركون، أو الاسترخاءات الطويلة، فهو خاضع لحركة نشطة أساسها هؤلاء الناس الذي تتقاطع مشاربهم، وطموحاتهم، وآمالهم، ويسعون حثيثا إلى مساحات مشرعة من التطور والنمو، والانتقال من حياة ثابتة لا جديد فيها إلى مليئة بالصخب والحركة والنمو.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني