على مدى العقود الأخيرة كان التلفاز النافذةَ التقليدية التي تدخل منها الوجوه والأسماء المشهورة إلى ذاكرتنا الشخصية والعائلية. وفي تلك الشاشة برزت شخصيات مهمة أصبحت فيما بعد جزءا من الذاكرة الجمعية لشعوبٍ بأسرها. هكذا كانت تتشكل علاقتنا الخاصة بنجوم الفن والرياضة، وبالطريقةِ نفسها، عبر الإعلام نفسه، كنا نستضيف زعماء العالم ورموزه السياسيين في بيوتنا. ولذا تبدو علاقتنا بالشخصية السياسية بوصفها «رمزا» علاقة معقدة، يختلط فيها الشخصي بالعام، والواقعي بالأسطوري، كما تشتبك في سيرتها آمال مرحلة كاملة من حياتنا السياسية وخيباتها.
بالظهور على وسائل الإعلام بين الحين والآخر، ومن خلال خطابهم الموجه لنا، أو لغيرنا، يسعى القادة السياسيون لصناعة صورتهم وحجز أماكنهم في ذاكرة الناس.
غير أن قوة حضورهم الإعلامي تبقى مستمدة من السلطة التي يمتلكونها على الأرض؛ أي قدرتهم على التغيير والتأثير فيما أحب أن أسميه بـ «لعبة الواقع». أما في الدول القائمة على سلطة الأفراد أكثر من سلطة المؤسسات، فيمكن وصف اللاعبين السياسيين فيها بأنهم فئة قليلة من الناس مسؤولة عن إدارة مجريات الواقع العام وتحديد ملامحه السياسية والاقتصادية. ولا غريب أن بعض القادة ما زالوا فاعلين في صميم حاضر شعوبهم حتى بعد سنوات طويلة من موتهم، فأخطاؤُهم وهزائمهم التاريخية ما زلت مستمرةً في يوميات الناس، تماما كإنجازاتِهم. وربما أجد تكثيف هذه الحقيقة في سطر لريجيس دوبري، يقول: «لنتذكر أن مجتمعاتنا، إلى يومنا هذا، كانت واقعيا مكونةً من الأموات أكثر من الأحياء».
ولكن ما هو الأهم من ذلك؟ برأيي، هو الدور الحاسم للقادة السياسيين في صياغة الهوية الوطنية والقومية لشعوبهم، أو التدخُّل في إعادة هندسة الهوية وتعريفها. إنهم إذن فاعلون حتى في الشؤون الصغيرة والشخصية من حياة الناس، وحتى عند تعريف هوياتهم الفردية للآخرين. يمكن القول بكلمات أخرى: إن الرمز السياسي ليس مجرد ظاهرة فنية أو إعلامية يمكن إهمالها وتجاوزها كما يتجاوز المتفرج أيَّ فنان لا يروقه، فيقلب المحطة إلى أخرى بكبسة زر على جهاز التحكم. فسواء أُعجبنا بتلك الشخصية السياسية أم لم نعجب، ليس ذلك إلا تفصيلا أمام حقيقة أنها قد فرضت حضورها وصورتها في ذاكرتنا الجمعية، وأنها أصبحت مع الوقت رمزا لفكرة أو معنى ما، في وطن لا يمكن تعريفه إلا بمجموع الرموز التي تُمثله عبر التاريخ، حيث الوطن بحد ذاته رمز.
لكن الأجيال العربية الشابة تبدو اليوم أكثر ميلا لعدم الثقة بالشخصية الأبوية في السياسة. وربما لم يعش الشارع العربي، على اختلاف همومه وتطلعاته بين بلاد وأخرى، مرحلةً من غياب الرمز السياسي المُجمع عليه كما يعيش اليوم. ثمة تلاشٍ واضح لمركزية المثال الإيجابي (القدوة) الذي يستحق الالتفاف المطلق من حوله في الأزمات، بل يمكن القول: إن الثقافة السياسية الجديدة لدى الشباب تميل إلى الرفض المطلق لفكرة «القدوة» من الأساس. لا أدري إن كان ذلك يدل على تطور قدرتنا وحريتنا في النقد إلى هذا الحد، فلم نعد نرضى بأقل مما نستحق أم على أننا مثاليون أكثر مما يحتمل الواقع، فلم نعد نرضى بأقل مما نحلم! الملاحظ أن تحطيم الرموز ترافقه حالة من الطعن والتشكيك في كل الأيديولوجيات السياسية المطروحة... ثمة يأس عام من فكرة النموذج في كل شيء تقريبا، ورفض عام لكل سُلطات الواقع دون انحياز لأحد أو استثناء، على طريقة اللبنانيين واللبنانيات في أكتوبر 2020: «كلن يعني كلن»!
بالمقارنة الساذجة، تبدو الأجيال الأكبر وكأنها كانت تتمتع بطاقة ولاء عالية. فقد كان تبني النموذج والتمسك به مدخلا ضروريا للانخراط في السياسة، إلى الحد الذي تحولت معه الأيديولوجيا إلى قبيلة جديدة. أتذكر آباءَنا الذين استمعوا إلى عبد الناصر في المذياع فالتفوا حول صوته وصورته، وناصروه منتصرا ومهزوما، وساروا في جنازته الرمزية في عدة عواصم عربية. وحتى في الثمانينيات والتسعينيات، كان مناخ الولاء السياسي في العالم العربي حاشدا، وكان من السهل العثور على زعيم ثوري هنا أو شخصية وطنية هناك تستحق الولاء والتأييد، رغم كل الأخطاء والخطايا التي سرعان ما تتناساها الجماهير أمام سطوة الصورة العامة الممهورة بمعاني النضال والمقاومة والكرامة، أو معاني الإصلاح والتنمية وتطوير المؤسسات (وكأن النموذجين لا يلتقيان!).
تستوقفني آراء الناس وأحاديثهم عن زعيم سياسي معين، لا سيما بعد رحيله واكتمال حكايته بالموت. ففي موقف كهذا لا يصعب تمييز مجمل الآراء المتداولة بين فريقين متقابلين، فالناس غالبا ما بين موالٍ محب أو معارضٍ مُبغض، وما بين مشاعر الحب الجامح أو الكراهية الفائضة تغيب القراءة المتأنية والموضوعية في سيرة الشخصية ومسيرتها، بكل ما لها وما عليها. فهل من المنطقي حقا أن نُلخّص علاقتنا بالرمز السياسي التاريخي في إجابة عاطفية تتردد بين الحب أو عدم الحب؟ مبدئيا لا بأس من التذكير بأن صُنَّاع القرار ليسوا فنانين أو مؤلفي روايات أو لاعبي كرة قدم كي نختصر نظرتنا إليهم بمعايير الذوق أو الانطباع العاطفي. السياسيون ببساطة شديدة أشخاص قرروا الانخراط بالكامل في لعبة الواقع بكل ما فيها من تعقيد وتضاربٍ للمصالح، وربما تكون الشروط التاريخية قد فرضت على بعضهم أن يكون جزءا من صناعة مرحلة مهمة من عمر شعب أو أمة. والسياسة، كما قيل لنا دائما، حيث مفهوم الصواب والخطأ متغير باستمرار، وحيث لا مكان فيها للمثاليات التي نقرأ عنها في كتب الأساطير أو سير الأنبياء. وهنا تقتضي الموضوعية في تناول الشخصية السياسية العامة قدرا عاليا من التجريد العاطفي.