"تصنيع القبول"، هو المصطلح الذي أجْراه والتر ليبمان ومن بعده نعوم تشومسكي لوسْم الجهود الإمبرياليّة الاستعماريّة في استعمال اللّغة المشرّعة لأفعالهم من جهة، والعاملة على التأثير في ناخبيهم ودافعي الضرائب لأجل الإقناع بتوجّهاتهم الاستعماريّة والاستيطانيّة. حربُ اللّغة، لا تقلّ أهميّة ولا أثرًا عن الصّراع الميدانيّ الفعلي. ولقد عملت الفكر الاستعماريّ على خلقِ لغةٍ تنزرع في الأذهان وتبقى في الذاكرة. لقد تنبّهتُ إلى أثر اللّغة وصناعة السرديّات المقبولة في الفكر الغربيّ، بل وأحيانا في الفكر العربيّ، من خلال عقد نتنياهو مجلسا وزاريّا لبحث تغيير تسميّة حربه على غزّة من "حرب السيوف الحديديّة"، إلى "حرب القيامة"، ومن ضمن البدائل المطروحة للاستبدال، "حرب التكوين"، وحرب سمحات توراة"، وهو أمرٌ مبينٌ عن التحوّل من لغة القوّة "حرب السيوف الحديدية" إلى لغة الدين بحثًا عن أثرٍ أعمق، "القيامة" و"التكوين" و"التوراة"، مصطلحاتٌ دينيّة لها الوقع الفاعل والمؤثّر في المشترك الدينيّ المسيحيّ واليهوديّ، وهي قادرةٌ أيضا على تحويل الصّراع العربي الإسرائيليّ إلى صراعٍ دينيّ بين المسلمين واليهود. لقد تنبّه الفكر البشريّ إلى خطر هذه المصطلحات التي تُطلَقُ بعنايةٍ ودراسةٍ، وتعمّق إدوارد سعيد خاصّة في كتابه "الصهيونيّة من وجهة نظر ضحاياها" إلى دور الاستعمار في ترسيخ مفاهيم أصليّة كان لها عميق الأثر في تأكيد الاعتقاد في تفوُّق الرجل الأبيض، وشرعيّة تميّزه واختلافه عن بقيّة الأعراق والأجناس التي عدَّها الفكر الغربيّ "متوحِّشة" أو "بدائيّة" أو "همجيّة"، وهي الأرضيَّة الفكريّة التي جوَّزت استغلال ثروات هذه الشعوب والأعراق، كما حدث في أفريقيا وجنوب أمريكا وآسيا. فقد اكتسب "الرجل الغربيّ الأبيض" شرعيّة امتلاك هذه الثروات واستغلالها لأنّها بين الأيدي الخطأ، وأنّ الشعوب التي تمتلكها لا تعرف استخراجها ولا استغلالها، إضافةً إلى أنّها شعوبٌ كسولة لا تتقن الزراعة ولا الصناعة ولا التجارة، فكان أن آمنت الشعوب الغربيّة الاستعماريّة بـ"حقّها" في امتلاك هذه الثروات وحسن استغلالها، وقد تأسّس هذا الفكر على يقين مفهوميّ اصطلاحي ما زلنا نعاني منه، وهو "الرجل الغربيّ" الأعلى منزلةً، والأفريقي "الأقرب إلى الحيوان"، أو الشعوب غير المتحضّرة التي تحتاج إلى قوّة تستعمرها وتنقلها إلى مرحلة الإنسانيّة. فكرةُ الاستعمار الأقوى والأكثر تحضُّرا، هي التي انطلق منها الفكر الاستيطانيّ الإسرائيليّ، متناغما مع مسار القوى الاستعماريّة التقليديّة التي فارقت الحضور الاستعماريّ الحضوريّ وآثرت الاستعمار المصلحيّ الاقتصاديّ عبر آليّات وأدوات وممثّلين، ومتماشيا معه، ولذلك تأسّس الفكر اليهوديّ على حربٍ لغويّة اصطلاحيّة مع الأسف لم نتنبّه لأبعادها، ويُمكن أن نجدها تتكرّر في بعض قنواتنا الإعلاميّة. لقد عمل الفكر الإسرائيليّ على نفْي الوجود الفلسطينيّ من جهةٍ، وعلى تقديم مصطلحات واسمةٍ للفلسطينيين يتقبّلها الفكر الغربيّ ويُذكّرها بتاريخهم وواقعهم تجويزا وتشريعًا، فلا يُمكن أن يُعَابُ على الكيان الإسرائيليّ ما كان الغرب يُجوِّزه ويُشرِّع له فكرًا وواقعًا، ولذلك تعْمل دولة إسرائيل على نحت المصطلحات التي يؤمن بها الغرب، من نوع ما وسمت به أفعال المقاومة في غزّة بأنّهم إرهابيّون ويتبعون القاعدة، وأنّها الحارسُ الأمين الذي يُجهِد النّفس ويقدِّم الضحايا من أجلِ مقاومة جماعة القاعدة، نافيةً بذلك كلّ أثرٍ لشعبٍ مضطَهَد مستعمَر، له الحقّ أن يقاوم من استلب بلده، وهذا الجهاز الاصطلاحي الذي بان مؤخّرا، هو مُظهر لتاريخٍ من المصطلحات والمفاهيم، وشافٌّ عن عقيدة راسخة تعمل على تغيير معتقدات الشعوب عبر التدرّج وفعل الزمن. بدأ الأمر بنكران وجود شعب ينتمي إلى فلسطين، من خلال أقوال مكرّرة وموثّقة لرئيسة الوزراء الشهيرة غولدا مائير التي قالت: "لم يكن هناك ما يُسمى بالفلسطينيين. متى كان هناك شعب فلسطيني مستقلّ بدولة فلسطينية؟ لم يكن هناك شعب في فلسطين يعتبر نفسه شعبا فلسطينيا، وأتينا ورميناه وأخذنا منه وطنه. لم يكن موجودا". هذه أرضيّة من نفْي وجود الشعب، بطبيعة الحال هي أرضيّةٌ تنفي الأبعاد التاريخيّة لتقسيم الأرض العربيّة، ودور بريطانيا في رسم الحدود، وتغييب لحقائق تاريخيّة عن مجتمعات عربيّة لا تحكمها الحدود ولكن تتميّز بخواصّها الذاتيّة وبتاريخٍ مديد وبحضارة عريقة، الأرضيّة الثانية ماثلة في سلسلة من النعوت التي وُسِم بها الفلسطينيّون عبر تاريخ الاستيطان، وهي فكرة متناسقة مع الفكر الاستعماريّ التقليدي، القائمة على ثنائيّة الرجل المتحضّر والرجل المتخلّف، أو المجتمع المدنيّ والمجتمع الهمجي، فقد وصف مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي في مطلع الثمانينيّات الفلسطينيّين بأنّهم "وحوشٌ تمشي على قدمين"، وتكرّرت عبر التاريخ إطلاق صفات تجمع الفلسطينيين بالحيوان وبالصراصير وبالهمجيين، حتّى نصل إلى أيّامنا هذه، وإلى ما أطلقه وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت من وصْفٍ للفلسطينيين قائلاً إنّهم "حيوانات بشريّة"، وبأنّهم "وحوش بشريّة". وأنّ الأطفال والنساء هم الأرضيّة التي يتحرّك فيها الإرهابيّون، وهذا الخطاب مسوِّغٌ للقضاء على "الوحوش" الصغرى والكبرى، وعلى "الحيوانات" التي تُجيز قتل الإسرائيليّ صاحب العرق النقيّ. حربُ اللّغة هذه فاعلةٌ مؤثّرةٌ تحتاج خطابًا مقابلا لم يكن بنفس الأثر ولا بنفس الفاعليّة، ولم تتوفّر له سياقات تجعله نافذا، ولذلك فإنّ الأوصاف التي نُقدّمها عبر التاريخ في حرب اللّغة يغيب أثرها في مجتمعات غربيّة تهيمن عليها الآلة الإعلاميّة الصهيونيّة أو المتصهينة، حتّى صار شعار نُصْرة غزّة في عدد من البلدان الغربيّة اليوم تهمةً يُعاقب عليها القانون! إلى أين نسير في ظلّ كونٍ فقد كلّ وجهه الإنسانيّ، وأعادنا إلى الإشكاليّات المعرفيّة القديمة، تنازعًا بين النحن وهم، أو بين الأعلى والأدنى، أو بين الغربيّ والآخر غير الغربيّ، مع سيادة لغة استعماريّة تحمل في أثنائها قوّة يجيزها الغرب ويذود عنها؟ إلى أين نسير في ظلّ وهَنٍ فكريّ عربيّ عامّ، وقصورٍ لغويّ سائد، نحن الحضارة المليئة بنعوت الهزائم وبعدم القدرة على خوض حرب اللّغة وعدم القدرة على إنفاذ هذه الحرب؟ نحن الذين تربّينا على "النكسة" و"الهزيمة" و"النكبة" وأمل الانتصار، حتّى اختيار عبارة "طوفان الأقصى" الذي قُوبل بـ"حرب السيوف الحديديّة" لا أعتقد أنّه صائب، الطوفانُ مشترك عقديّ دالٌّ على التدمير الشامل، على أكل الأخضر واليابس، على إنهاء الأرض، نحتاج إلى الوعي بحرب اللّغة التي ستبقى لأجيالٍ، نحتاج إلى عقلٍ عربيّ يعي هذه المآزق الخطابيّة الكامنة في اللّغة. نحتاج إلى تصنيع وعي يقبل قضايانا الحقّ، مقاومةً لإقناعهم بخطاب الباطل.