في خضم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يمر بها لبنان، وبين حروبه الأهلية وصراعاته مع إسرائيل، تغيب فئة كاملة من سكانه في النسيان والتهميش؛ إنهم مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين داخل المخيمات وخارجها.
وكما هو معلوم، بدأت قصة فلسطينيي لبنان مع نكبتهم عام 1948، حين نزحت عائلاتهم إلى القرى الجنوبية من لبنان بعد سقوط القرى والمدن الفلسطينية في قبضة العصابات الصهيونية. اعتقد آباؤهم في الأيام الأولى أن إقامتهم في مخيمات الأونروا مسألة مؤقتة لن تطول، وأن العودة إلى البلاد السليبة مسألة وقت فقط، فاحتفظوا بمفاتيح بيوتهم وعدُّوا السنوات على الأصابع؛ لكن البلاد كانت تزداد بُعدًا عن أهلها يومًا بعد يوم. تناسل اللاجئون في المخيم وكبروا فيه، فتحوَّل مؤقت الأجداد إلى مؤبد الأحفاد.
خلال اثني عشر عامًا، منذ اتفاق القاهرة عام 1969 وصولًا إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تمتع فلسطينيو لبنان بحرية أكبر في النشاط والحركة. استفادوا من امتيازات لم تُتح لهم في أي منفى عربي من قبل، وتزامن ذلك مع ضعف الدولة اللبنانية مقابل الوجود القوي لمنظمة التحرير الفلسطينية على الأرض وانتشار فصائلها المسلحة الخارجة لتوّها من عمّان بعد معارك «أيلول الأسود». لكن سنوات الزهو لم تدم طويلًا، وسيدفع فلسطينيو لبنان ثمنها بالدم فور رحيل حماتهم عبر الأبيض المتوسط إلى مجهول المنافي. فقد ضاق المضيف بالضيف الثقيل، وتعالت الصيحات مطالبة بخروج الفلسطينيين حتى يفك شارون حصاره عن بيروت.
وفي مشهد لا يغيب عن ذاكرة الدراما التاريخية، صعدت القيادة الفلسطينية ومعها المقاتلون إلى الباخرة التي أُعدَّت لرحيلهم التراجيدي الكبير عن بلد الأرز: «عالم اندثر دون أن يترك أطلالاً، وكنا نحن أطلاله»، هكذا وصف أمجد ناصر تلك اللحظة الفارقة من تاريخنا العربي.
ما كان ينتظر فلسطينيي لبنان في المخيمات هو الانتقام، انتقام اليمين المسيحي الذي بدأ حملته في مخيمي صبرا وشاتيلا عقب الاغتيال الغامض لبشير الجميل، زعيم حزب الكتائب المتحالف مع إسرائيل. ومنذ صدمة المجزرة التي أعقبت خروج منظمة التحرير، وصولًا إلى واقعهم الحالي، تتردى أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى أبعد الحدود، مع تزايد التضييق على حقوقهم في العمل والتنقل والهجرة.
في كتاب مشترك لعدد من الباحثين المعنيين بحالة اللجوء الفلسطينية، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان «اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان»، يشير محمد كامل الدرعي إلى الفراغ الذي تركته منظمة التحرير في حياة اللاجئين الفلسطينيين إثر خروجها من لبنان: «حرم خروج المنظمة من لبنان عددًا من اللاجئين من وظائفهم التي طوروها بفضل الوجود القوي للمؤسسات الفلسطينية السياسية في لبنان. في السياق الاقتصادي اللبناني الهشّ منذ بداية الحرب الأهلية، هُمش الفلسطينيون في سوق العمل اللبنانية غير الرسمية مع وصول اليد العاملة الأجنبية قليلة الكلفة».
وعلى الرغم من أن الفلسطينيين ليسوا جزءاً، بالمعنى الحرفي، من الصراع السياسي الداخلي في لبنان، كما يقول الباحث، إلا أن النقاش حول مسألة التوطين والوجود المسلح في المخيمات «يطرح تحديات على حياد الفلسطينيين السياسي في نزاع يكتسي أبعاداً إقليمية كبيرة تميل إلى توريطهم بفعل الأمر الواقع».
لا بُدّ أن أشير هنا إلى مشروع المخرج الفلسطيني و«المواطن العالمي» مهدي فليفل، الذي ركَّزت أفلامه التسجيلية على واقع المخيم في لبنان ومأساة اللاجئ الفلسطيني فيه. في فيلمه التسجيلي «عالم ليس لنا»، الذي أتبعه بثلاثية قصيرة: «زينوس» و«رجل عائد» و«3 مخارج منطقية»، تكشف لنا كاميرا فليفل كيف تتآمر سلطات الواقع على حياة الفلسطيني القابع في مخيم «عين الحلوة»؛ حيث الحياة ليست أكثر من حصار طويل وانتظار بائس لمستقبل مغلق، وسط الفقر والعنف والسقوط في الإدمان.
ومنذ النكبة حتى اليوم، يكبر المخيم ويتمدد، وتتلاشى أطرافه وحدوده في المناطق الحضرية المجاورة ويغيب أكثر في النسيان؛ ولكن لمن يشكو اللاجئ في لبنان؟ غياب العدالة وفداحة الظلم المضاعف في حق اللاجئين، ظلم الاحتلال وظلم ذوي القربى، جعل سامر منّاع، مدير مركز التنمية الإنسانية للدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين، يطلق صرخته الساخرة والمريرة في مجلة «الآداب» قبل سنوات: «سأشكوكم إلى فيروز»!
أما الآن، وفي هذه الساعات الحالكة التي تشن فيها الطائرات الإسرائيلية حربها على لبنان بالتوازي مع حربها على غزة والضفة، يلاحق طيران الاحتلال الفلسطينيين الذين خرجوا من ديارهم قبل 76 عامًا ليقتلهم مع اللبنانيين واللاجئين السوريين في خندق واحد، في حرب إبادة وكارثة متعددة الأبعاد.. هكذا يتحول لبنان إلى خيمة داخل خيمة، وتتضاعف المأساة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
وكما هو معلوم، بدأت قصة فلسطينيي لبنان مع نكبتهم عام 1948، حين نزحت عائلاتهم إلى القرى الجنوبية من لبنان بعد سقوط القرى والمدن الفلسطينية في قبضة العصابات الصهيونية. اعتقد آباؤهم في الأيام الأولى أن إقامتهم في مخيمات الأونروا مسألة مؤقتة لن تطول، وأن العودة إلى البلاد السليبة مسألة وقت فقط، فاحتفظوا بمفاتيح بيوتهم وعدُّوا السنوات على الأصابع؛ لكن البلاد كانت تزداد بُعدًا عن أهلها يومًا بعد يوم. تناسل اللاجئون في المخيم وكبروا فيه، فتحوَّل مؤقت الأجداد إلى مؤبد الأحفاد.
خلال اثني عشر عامًا، منذ اتفاق القاهرة عام 1969 وصولًا إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تمتع فلسطينيو لبنان بحرية أكبر في النشاط والحركة. استفادوا من امتيازات لم تُتح لهم في أي منفى عربي من قبل، وتزامن ذلك مع ضعف الدولة اللبنانية مقابل الوجود القوي لمنظمة التحرير الفلسطينية على الأرض وانتشار فصائلها المسلحة الخارجة لتوّها من عمّان بعد معارك «أيلول الأسود». لكن سنوات الزهو لم تدم طويلًا، وسيدفع فلسطينيو لبنان ثمنها بالدم فور رحيل حماتهم عبر الأبيض المتوسط إلى مجهول المنافي. فقد ضاق المضيف بالضيف الثقيل، وتعالت الصيحات مطالبة بخروج الفلسطينيين حتى يفك شارون حصاره عن بيروت.
وفي مشهد لا يغيب عن ذاكرة الدراما التاريخية، صعدت القيادة الفلسطينية ومعها المقاتلون إلى الباخرة التي أُعدَّت لرحيلهم التراجيدي الكبير عن بلد الأرز: «عالم اندثر دون أن يترك أطلالاً، وكنا نحن أطلاله»، هكذا وصف أمجد ناصر تلك اللحظة الفارقة من تاريخنا العربي.
ما كان ينتظر فلسطينيي لبنان في المخيمات هو الانتقام، انتقام اليمين المسيحي الذي بدأ حملته في مخيمي صبرا وشاتيلا عقب الاغتيال الغامض لبشير الجميل، زعيم حزب الكتائب المتحالف مع إسرائيل. ومنذ صدمة المجزرة التي أعقبت خروج منظمة التحرير، وصولًا إلى واقعهم الحالي، تتردى أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى أبعد الحدود، مع تزايد التضييق على حقوقهم في العمل والتنقل والهجرة.
في كتاب مشترك لعدد من الباحثين المعنيين بحالة اللجوء الفلسطينية، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان «اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان»، يشير محمد كامل الدرعي إلى الفراغ الذي تركته منظمة التحرير في حياة اللاجئين الفلسطينيين إثر خروجها من لبنان: «حرم خروج المنظمة من لبنان عددًا من اللاجئين من وظائفهم التي طوروها بفضل الوجود القوي للمؤسسات الفلسطينية السياسية في لبنان. في السياق الاقتصادي اللبناني الهشّ منذ بداية الحرب الأهلية، هُمش الفلسطينيون في سوق العمل اللبنانية غير الرسمية مع وصول اليد العاملة الأجنبية قليلة الكلفة».
وعلى الرغم من أن الفلسطينيين ليسوا جزءاً، بالمعنى الحرفي، من الصراع السياسي الداخلي في لبنان، كما يقول الباحث، إلا أن النقاش حول مسألة التوطين والوجود المسلح في المخيمات «يطرح تحديات على حياد الفلسطينيين السياسي في نزاع يكتسي أبعاداً إقليمية كبيرة تميل إلى توريطهم بفعل الأمر الواقع».
لا بُدّ أن أشير هنا إلى مشروع المخرج الفلسطيني و«المواطن العالمي» مهدي فليفل، الذي ركَّزت أفلامه التسجيلية على واقع المخيم في لبنان ومأساة اللاجئ الفلسطيني فيه. في فيلمه التسجيلي «عالم ليس لنا»، الذي أتبعه بثلاثية قصيرة: «زينوس» و«رجل عائد» و«3 مخارج منطقية»، تكشف لنا كاميرا فليفل كيف تتآمر سلطات الواقع على حياة الفلسطيني القابع في مخيم «عين الحلوة»؛ حيث الحياة ليست أكثر من حصار طويل وانتظار بائس لمستقبل مغلق، وسط الفقر والعنف والسقوط في الإدمان.
ومنذ النكبة حتى اليوم، يكبر المخيم ويتمدد، وتتلاشى أطرافه وحدوده في المناطق الحضرية المجاورة ويغيب أكثر في النسيان؛ ولكن لمن يشكو اللاجئ في لبنان؟ غياب العدالة وفداحة الظلم المضاعف في حق اللاجئين، ظلم الاحتلال وظلم ذوي القربى، جعل سامر منّاع، مدير مركز التنمية الإنسانية للدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين، يطلق صرخته الساخرة والمريرة في مجلة «الآداب» قبل سنوات: «سأشكوكم إلى فيروز»!
أما الآن، وفي هذه الساعات الحالكة التي تشن فيها الطائرات الإسرائيلية حربها على لبنان بالتوازي مع حربها على غزة والضفة، يلاحق طيران الاحتلال الفلسطينيين الذين خرجوا من ديارهم قبل 76 عامًا ليقتلهم مع اللبنانيين واللاجئين السوريين في خندق واحد، في حرب إبادة وكارثة متعددة الأبعاد.. هكذا يتحول لبنان إلى خيمة داخل خيمة، وتتضاعف المأساة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني