نعرف جميعا أن المعارف في أصلها شفوية ثم كُتبت، وأن التاريخ المكتوب في أصله شفويا، وأن مصادر التاريخ والأدب واللغة وغيرها كانت شفوية ثم دُونت، بل إن التاريخ باعتباره تدوينا للحياة والأحداث السياسية والاجتماعية أصبح حقلا معرفيا أكاديميا في بداية القرن التاسع عشر، وكذلك الحال بالنسبة لنشأة علم التاريخ عند العرب الذي يتأسَّس على الروايات التاريخية والإسناد المتواتر أو المنقطع وغير ذلك.
ولهذا فإن الرواية الشفوية ظلت ذات مكانة مهمة في علم التاريخ ضمن مراحل التدوين المختلفة، فهي مصدرا أساسيا للأحداث السياسية والاجتماعية، فأبو الحسن المسعودي صاحب مروج الذهب مثلا كان يعتمد على جمع المعلومات والأخبار عن طريق الاستماع والمقابلات وجمع الملاحظات وغيرها من طرائق جمع المادة الشفوية، وقد أخذ ذلك أصلا ممن سبقه كالطبري واليعقوبي وغيرهم، فنتج عن ذلك مدونات تاريخية قيِّمة مثَّلت أمهات الكتب لدينا.
إن التاريخ الشفوي بما يقدمه من سرد للأحداث السياسية والاجتماعية بل وحتى النفسية والفكرية للمجتمعات، وما يقدمه الرواة الإخباريون من شهادات ووجهات نظر، يروون حكايات وأحداث شاركوا فيها أو عاشوها، يحاول إكمال تلك الأحداث والحكايات التي كتبها الأولون، والتي أصبحت سجلا شاهدا على الأحداث التاريخية والحكايات والمرويات الاجتماعية ويسرد أنماط حياة الناس سواء أكانوا من القادة أو الأعلام أو حتى من العامة والمهمشين، وهو الأمر الذي نجده كثيرا في مصادر التاريخ والآداب العربية، منها ما قدَّمه ابن الجوزي عندما أرَّخ لنا (أخبار الأذكياء)، و(أخبار الحمقى والمغفلين) وغير ذلك، وأيضا الجاحظ عندما دوَّن أخبار وحكايات (البخلاء)، و(الحيوان) و(من أخلاق الملوك)، وغيرهم الكثير.
لذا فإن التاريخ الشفوي يوثِّق تاريخ المجتمعات وأنماط حياتها، ويروي حكايات الناس ويعكس المعرفة الاجتماعية، ويقدِّم الذاكرة الجمعية وفق منهجية واضحة تعتمد على الملاحظة والتدوين، فيسجِّل أنماط حياة المدن والقرى، ويرصد المواقف والأحداث، ويؤرِّخ للحقب الزمنية والامتداد الحضاري للشعوب، ويكتب تاريخها ويدوِّن حاضرها من أجل المستقبل، فالتاريخ الشفوي امتداد للماضي، يحاول أن يقدِّم رؤية وزوايا من حياة المجتمعات وأحداثها ويرصد تاريخها، إذ يدوِّن ما لم يوثَّق من أنماط حياة المجتمعات وطرائق عيشهم، بُغية صونها من خلال الجمع والحفظ والتبويب من ناحية، والإحياء من ناحية أخرى، ولهذا فإنه يقدِّم شهادات يمكنها حفظ التاريخ الحضاري للمجتمعات.
ولقد تنبَّه المؤرخون الأوائل إلى أهمية الرواية الشفوية، وقدرتها على رصد التاريخ والأحداث، فدونوا لمتغيرات حياتهم ورصدوا الأحداث التي عاشوها، أو شهدوها، أو تلك التي حدَّثهم عنها الرواة الإخباريون اللذين عاصروهم، إلا أن هناك حقبا تاريخية من حياة المجتمعات العربية والإسلامية لم نعرف عنها الكثير بسبب ضعف التدوين، وعجزنا اليوم عن إمكانية تتبعها لبعد العهد عنها، فضاع تاريخ مجتمعات اُستعمرت مئات السنين، لأن أحدا لم يتنبه لأهمية تدوين تلك الأحدث والحقائق، بل عجزنا حتى عن تدوين تاريخ اللغة لأن العرب اكتفوا قبل بدء حقبة التدوين بالمشافهة.
إن التاريخ الشفوي باعتباره تاريخا وتوثيقا فإنه يمثِّل قوة ثقافية وحضارية تحتاج دوما إلى الرعاية والعناية، فالدول التي تحفظ تاريخها وتوثِّقه، هي تلك التي تقود مسيرة الفكر والتنمية المجتمعية، لأن لديها الوثائق والأدلة، كما لديها المدونات التي تحفظ حقوقها وحقوق شعبها، والأمر هنا لا يتعلَّق بالتاريخ الماضي وما حدث فيه وكيف عاش الناس حياتهم على مر العصور، بل أيضا بما نعيشه في الزمن الحاضر وما نمر به من أحداث سياسية واقتصادية وصحية وثقافية وغير ذلك.
لذا فإن التاريخ الشفوي يكتسب اليوم أهمية كبرى على الرغم من الانفتاح الكبير على العالم، والتقدُّم التقني والإعلامي، إلاَّ أن التاريخ المعاصر وما نعيشه من أحداث ومتغيرات متسارعة على كافة المستويات وما يجتاح العالم من تنازعات وحروب، لا يحتاج إلى أخبار صحفية وتقارير وحسب، بل إلى رصد وتدوين وكشف للحقائق عن طريق رواة إخباريين شهود متوفرين، قد لا يكونوا كذلك بعد فترة من الزمن، ذلك لأن عمل المؤرِّخ، يختلف عما يقوم به الصحفي والإعلامي عموما، فلكل طريقته وأدواته، ومنهجيته.
إن التاريخ الشفوي كما يؤرِّخ لما حدث في الماضي فإنه يدوِّن أحداث الحاضر، ويقدِّم ما يحدُث الآن، وما حدث قبل سنوات قليلة ضمن نمط التاريخ والتدوين، ولعل ما تقوم به المؤسسات المعنية بالثقافة وصون أنماط التراث الثقافي عموما، وما تقدمه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية من أدوار فاعلة ومتخصصة في صون التاريخ العماني المعاصر من خلال تدوينه وحفظه يمثِّل أحد أهم أشكال التاريخ التي تقتضي الدعم والتعاون المشترك من جميع المهتمين والباحثين والمؤرخين، لأن هذه الجهود لا تنشد توثيق التاريخ السياسي والأحداث الاجتماعية التي تمثِّل مدة زمنية بعينها أو شخصيات محددة، بل أيضا تهدف إلى كشف أنماط الحياة الاجتماعية السائدة في تلك المدة الزمنية أو الأمكنة المختلفة.
فالتاريخ الشفوي إذا ما تم وفق رؤية علمية واضحة، وإذا ما اتبع الإجراءات اللازمة التي تضمن صدق الرواية الإخبارية، فإنه سيمثِّل وثيقة ذات قيمة معرفية قادرة على الإجابة على العديد من التساؤلات التي تخص الأحداث التي لم يتم تدوينها في الماضي، والتي يمكن أن تشكِّل فارقا على مستوى التحليل والتوثيق ومصداقية الأخبار التاريخية، إضافة إلى أهميتها في تصحيح مسارات التاريخ خاصة ذلك الذي دوَّنه المنتصر، والذي تم تدوينه وفق رؤى أيديولوجية.
والأمر هنا لا يتعلَّق بالمؤسسات ودورها في رعاية التاريخ الشفوي وحسب، بل أيضا بالباحثين والمؤرخين اللذين ينشغلون بما تم تدوينه من تاريخ الماضي، ويجترونه في بحوث وكُتب جديدة دون الالتفات إلى الأحداث المعاصرة وما يمر به العالم من متغيرات أو ما يحدث من حروب سياسية واقتصادية وفكرية تحتاج إلى التدوين والتوثيق والتحليل. إن المؤِّرخ اليوم يقع على عاتقه كتابة التاريخ المعاصر وتأريخه، والكشف عن خباياه وأسراره، وإلاَّ فإن الأجيال القادمة عندما تنتبه إلى هذه الحقبة الزمنية لن تجد من تاريخها سوى تلك المواد الإعلامية المتفرقة، والأدهى والأشد هو ما تجده في ذاكرة وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط التقنية التي تعج بالمغالطات وتخلط الحقائق وتشوهها.
إن مسؤولية كتابة التاريخ الشفوي المعاصر تقع على عاتق المتخصصين أفرادا ومؤسسات، فهناك متغيرات حضارية متسارعة وأنماط عيش تفرض على المجتمع التغيُّر، وما نجده اليوم عصريا، فإنه سيكون قديما وتراثا لأجيال أبنائنا في حقبة ليست ببعيدة، لذلك فإن التاريخ والتدوين لا بد أن يكونا من أولوياتنا الحضارية التي ستمكِّننا من سبر تلك المتغيرات وتأثيرها على حياة المجتمع، إضافة إلى الإمكانات المتوفرِّة من الرواة الإخباريين الذين يمكن أن يقدِّموا شهادات وأخبار عن أحداث معاصرة، أو عن حياة شخصيات عاشوا معهم أو عرفوها عن قُرب، مما سيوفِّر مواد وبيانات ومحتوى تاريخيا وحضاريا مهما لهذه المرحلة من حياة وطننا الغالي وعمره المديد.