قُبيل دخولي السنةَ الأولى الإعداديةَ كنتُ قد تعلّمتُ صُنعَ طائراتٍ ملوَّنة من الورق القزّاز وإصعادَها إلى أبعد عُلُوٍّ، مثلما أتقنتُ التوازنَ على درَاجتي الهوائية فلا كان شَبعٌ لي إذْ ذاك من هناءة تطوافي بالطُّرقات الضيقة المتعرِّجة في قريتي. ثم كان كذلك أنْ بَلَغَني عن العلامة المائية؛ هذه الوشوماتِ المحجوبةِ التي لا يُنالُ مَرآها إلا بتمعُّنٍ، فعُدتُ مغتبطا أنظرُ في ما أمتلك من طوابع بريد وعُملات ورقية، وأنا أرفعها في الضوء لأفحص ما أعثر عليه من علاماتٍ مُخفاةٍ كمثلِ التي رُسِمت بماءٍ، ومُذ ذاكَ صار ما يُوارَى، عن حَذَقٍ وفِطنةٍ، يشغفني، وصرتُ مُريدًا للخَفِّيِّ؛ أودُّ لو أني أعرفُ كيف يُدَسُّ وكيف يُدمَغُ.
تذكَّرتُ تلك الرسوماتِ الماثلةِ بين الأبيض والأكثر اِبيضاضا، وقد بدا لي أنّ هذا الضربَ نفسَه من الإخفاء يَسري في الأدب؛ ذلك أنّ الكاتبَ قد ينسجُ أحيانًا على منواليْن لإسباغِ نصوصِه ولإمتاع قارئيه واصطفاءِ أشباهِهِ منهم ولإشباع نَهَمِه الإبداعي؛ فإذا أفكارُه اقترنت وإذا فنونُه تراكبت لاحت -أو كادت- آنئذٍ علامةٌ مائيةٌ مُوُدَعَةٌ تحت سطور كتابته، بمثابةِ لزومِ ما لا يلزم. فيا لها من تيّاراتٍ ثانوية مُعمّاة تَدُسُّها دسّا قدراتٌ إبداعية مفرطة للكاتب، بانتباهِهِ أو بغير انتباهه، داخل جريان السرد العام الظاهري. ويخبرني حدسي بأنّ هذا عادةً يكون إبداعا لا يُخطَّط له إنّما هو فيْضٌ، فتُرى ما الذي قد عساه يظهر من علاماتٍ كامنة أو وشوماتٍ مخبوءة إذا رُفِعت -مثلاً- روايةُ مائة عام من العُزلة في الضوء؛ ونُظِرَ إلى الكولونيل أوريليانو بوينديا، وقد جِيءَ به، في فجر يوم ثلاثاء، إلى ساحة كتيبة الإعدام لتنفيذ الحُكم بحقِهِ، وقتما كان شقيقُه خوسيه أركاديو يطلُّ عليه من شباك بيته الكائن قُرب المقابر، ويراه راضيا بل راضِخا لأقداره، «مترجرجا في ضياء الفجر، ببنطالٍ كان له في شبابه». لعل جابرييل جارثيا ماركيز أراد، من بعيد، أن يُذكِّر بالمعنى القارِّ للأسى إذْ يناظِر بـ«أوريليانِهِ» المشهدَ الأبرز في حياة وممات وقيامة يسوع المسيح، حيث يغمزُ تلميحًا في علامته المائية إلى شوْط العذاب الذي خاضه الرجلُ ابنُ العذراء المحكومُ بالصَّلْب؛ حاملا الخشبةَ، مُترنِّحا بثِقلِها، عاثِرا، مَهِيضا، ماضيا بلا حوْلٍ إلى الجلجثة. تُرى ما كانت تلك الخشبة! ما شجرتُها! أكانت زيتونةً فوّاحةً من زمن الأجداد؟ أم تَخالَطَ فيها الصنوبرُ والأَرزُ والسرو؟ في عُزلة الاقترابِ من الموت عاش أوريليانو لحظةً أغمض فيها عينيْه لصرخةٍ هائلةٍ سمعها، ولربما ظنَّ لهُنيهةٍ أنّ الفصيلةَ أعدمته وأنه قد سمعَ صيحة القيامة، إلا أنه -مثله مثل فيودور دوستويـﭭـسكي الشاب الثوري المسوُق صُبْحا إلى منصّة الإعدام- أُنقِذَ قبل أن يتحقّق موتُه؛ لأن الصرخة كانت لشقيقه خوسيه أركاديو الذي وصلَ ومنعَ تنفيذَ الإعدام، فلَكأن أوريليانو في ذلك كان قد مات ثم أُحيِيَ، ولَكأن حالَه ماثَلت حالةَ القوْمة. إنه هو أوريليانو نفسُه الذي كان أول مَن وُلِد في «ماكوندو»، والذي خرج من بطن أمه بعلاماتٍ وأمارات وبعينين مفتوحتين ورأسٍ يتحرّك ليتعرّف على الموجودات وليتفحّص وجوهَ الناس ويكاد في المهد يكلِّمهم كشأنِ ابن «بيت لحم».
وكذلك كان «سانتياجو نصّار»، في رواية قصة موت مُعلَن، بريئا من التهمة التي قُذِف بها، والتي صدر الحكمُ الثأريُّ فورا عليه بالقتل العاجل، بناءً عليها. ولقد علم الجميعُ بأنّ هنالك مَنْ ينتظر سانتياجو نصّار ليقتله، ولم يتقدّم أحدٌ ليمنع هذا القتْل، ليس عن تواطؤ ولا عن جُبن، وليس عن تكاسُل ولا عن أي دوافع شريرة؛ بل إنّ العديد من الأفراد قد قاموا ببعض الإجراءات، غير الكافية، من أجل منع حدوث مقتل سانتياجو نصّار، بمن في ذلك الشخصان المتجهِّزان لقتله، اللذان كانا يتمنيان صراحةً أن يردعهما أحدٌ فيمنعهما من ارتكاب هذه الجريمة ويكُفُّهما عن هذا الإيذاء! لكن بدا أن كل الأمور كانت مُيسّرة لإنجاز هذا القتل.
ما يبدو لي هو أن ماركيز قد وارَى في روايته علامةً مائية عن مسيحٍ يُعاد صَلْبُه، علنا، على مرأى من كل الآخرين، وبعِلمهم، بل بمساعداتٍ غير مقصودة منهم، على الرغم من محبتهم له، وعلى الرغم من براءته. رواية قصةُ موت مُعلَن هي -في أعرافِ لزوم ما لا يلزم- مَرويةُ ماركيز الأدبية عمّا يمكنني اعتباره السيرة المحتَّمة في وجودية المسيح عليه السلام، وهي كذلك مُصادَقةُ ماركيز -بالإيماء- على رواية المسيح يُصلَب من جديد لمؤلِّفِها نيكوس كازنتزاكيس. ولا يُغفَل عن اختيار الكاتب، في روايته، أن يكون «سانتياجو نصّار» من أصولٍ شامية التي كانت هي نفسها أصولَ أسرة السيد المسيح، وأن يشتمل اسمُ الفتى -ضِمنا- على معنى القداسة، «سانت ياجو»، ناهيك عن أنْ يكون لقبُه «نصّار» الذي هو من جذر لقب يسوع «الناصري»، وعن أنّ الأمَّ في القصَّتيْن لم يسعفهما جلاءُ غريزة الأمومة وبديهتها الرهيفة لمنع الرّدى عن ابنيْهما. ما رُصِدَ آنفا من تماثُلات هو ليس من قبيل الحصر، بل لعل العلامةَ المائية لهذه الرواية تنطوي دوما على المزيد مما قد يُفشَى ويُباحُ كلّما عاودَ القارئُ النظرَ في أوراقها مرفوعةً أمام ضوء.
أَوَتدري الأشجارُ عن مآلاتِها وتَشابُكاتها؟ هل كُتِبَ في الأدب عن أشجارٍ صارت صُلبانا؟ أَعُرِفت شجرةٌ خُرِطَ منها صندوقٌ على قياس قامة أوزوريس توطئةً لِحبْسِه ومن ثَم إلقائه في النهر؟ تحضرُ الأشجارُ بالروايات فتعنيني، لا سيّما إذا كانت الأشجارُ شجرةً واحدة كبرى ذات حَوْلٍ وتوشك أن تكون ذات بطولة، على حال «شجرة الكستناء» مثلا في رواية نرسيس وجولدموند لمؤلِّفها هيرمان هِسه، وكذلك «كستناء» مائة عام من العُزلة، و«شجرة النارنج» في رواية نارنجة لمؤلِّفتها جوخة الحارثي.
إنْ تشعُّ الشمسُ صهدا ووهجا فإنّها تطبخُ الوجودَ وتُفكِّكه وتُـحْييه وتُطلِق شذى الجوافة، حيث كان خوسيه أركاديو بوينديا، مؤسِّس ماكوندو، يقطنُ بأخريات عُمرِه تحت شجرة كستناء؛ يأكل وينام ويموت. وفي نصفٍ آخر من الأرض، قُرب «مَسفاة العَبريين»، تشعُّ الشمسُ كذلك صهدَها ووهجَها وتُطلِق شذى نارنج من شجرةٍ زرعتها امرأةٌ عذراءُ، تفوحُ منها رائحةُ الزباد، كاد أن يكون لها خطيبٌ في غابر الأيام، ولعل خطيبَها الخافتَ، غيرَ المذكور إلا قليلا، ليس سوى حَذْوٍ للنجّار يوسف. ومَن هي إلا «بنت عامر» التي تُبِينُ علامتُها المائية أنها قد تُناهِزُ -من جهة اسمِها- ابنةَ عِمران أو ابنة آل عِمران، والفتى -فتاها- الذي لم يدرك لنفسِه أُمّا غيرها ووَسَمَها أبدا بندائه «ماه، ماه» هو «منصور»، الآتي جرسُ اسمِه من تخوم «الناصري» و«نصّار». والمدهش هو أن بنت عامر هي التي أبدلت الاسمَ الأصلي للوليد من «صالح» إلى منصور، بقصدِ إنفاذ التوافق مع نجمِه، وما كان ذلك التبديل، في ظنِّي، بلا مغزى. وعلى أية حال فإنّ اسم «عمران» لم يغب عن فصول الرواية إنّما تزحزحَ ليكون اسمَ العاشِق المعشوق الباكستاني الفقير الذي دخلَ، ذات ليلة مبارَكة، وهو يافع جريح ومُهان، مقامَ الإمام، مُفتِّشا عن السرداب الخفيِّ الذي سيخرج منه المهدي المنتظَر، ففاجأه النورُ مُتشعشعا من موضعٍ بأرضية المقام، وبانَ له السردابُ وانفتحَ أمامه فأُتيحَ له أنْ يرى الإمامَ الذي التقاه ورعاه وداواه وأغناه وأنارَ له.
بظهور «سلمان»، التاجر، في رواية نارنجة ترسّخ حضورُ العذراء بنت عامر في الحياة، وتنامى نُضجُها، بل تشكّلت ملامحُ أسطورةٍ لها منبثقة من مقبوليتها، ومن يدها الخضراء التي لا تخيب لها زَرعةٌ، ومن يقين الناس بأنها، وهي العذراء، قد أرضعت من صدرها منصورَ، الوليدَ، ابن «سلمان» و«الثريّا»، الذي عافته أمُّه السادرةُ في اكتئابها، ورأى الناسُ ذلك الرضيعَ يكبر ويمسك العقارب ويرصِّصها على ذراعه آمنا من لدغاتها فأيقنوا وأشاعوا بأن بنت عامر كانت قد أغرقت عقربا في لبنِ صدرها، الذي سَقت الرضيعَ منه، فحازَ مُسالَمةَ العقارب. أربعون سنة عاشتها بنتُ عامر ضيفةً في بيت سلمان، وبجدارتها غدت هي الأم الكبيرة المعتنية بشؤون جميع رعاياها مع حرصها الراشِد الأكيد الـمُتنبِّه على ألّا تتجاوز لياقةَ وضْعِها كضيْفة، وعلى مدى العُمر ظلّت نارنجتُها لا تثمرُ إلا بعد أن تمسحها هي بيديها، وما إن ماتت المرأة حتى ذوت النارنجة وبادت، شاهِدةً بأنّ روح بنت عامر هي التي كانت تُقِيمُها.
ولئن اشتطَّ «منصور» الرومانسي فتمادى في عشق «كافّة» مُتعبِّدًا فلقد بادلت كافّةُ عطاياه بضجرها من شخصِه ومن تَوَلُّهِه بها ومن عِشقِه لها ومن تعبُّدِه إياها. منصورُ مُتسامٍ؛ لَكأن الكيانَ الذي له كان يضمرُ جَليليّا يكرزُ بالروح، بينما كانت كافّة تريده أرضيًّا؛ لَكأن كيانَها قد أضمرَ سَمْتَ مجدليّة. غسلَ هو لها قدميْها وفرَكَهما بأوراق الورد، وهي لا تلتذُ بتقْدِماتِه وقُرباناتِه، إنّما لعلها اشتهت لو أنها هي التي، كمجدليّة، تغسل له قدميْه وتمسحهما بجدائلها. رُبَّ ما كان يتوجّب على منصور أن يكرز به هو الحُريّة التي عرفتها وعاشتها كافّةُ سليلةُ البادية وابنةُ ما لا يُحَدُّ. لكنه، وقد أنزلها في بساتين وعرائش، لم يظفر منها بغير اضمحلالها ونُكرانها وهجرانها، ولم يكن غريبا أن يفقدَ حصانتَه بعد أن هجرته مجدليتُه فلدغته عقرب، ولم تتشفّع له حتى تعويذةُ بنت عامر «يا حُمّى لا تقربي منصور بن سلمان»، غير أنه -بآلامِه- استفاقَ وعاد بَشرا سويّا.
وُلِدت بنت عامر في شقاواتِ الحرب التي تتشعَّب شرورُها وتتفاقم وتَجِنُّ فلا يُحاطُ بها؛ ومن ذلك ما أفضت إليه معاركُ الحرب العالمية الأولى من غلاء أسعار السلع وضِيق العيْش وشحِّ الغذاء على الأرض بما فيها البلاد العُمانية، حيث ترمَّل بجريرتها «عامر»، الفارسُ، ذو الجاه، وقد ماتت عنه زوجتُه تاركةً له الصبي والطفلة، فتزوَّج ثانيةً، ثم تردّى في مقامرةٍ سياسية محلية حاربَ فيها السلطانَ وعارَكَ الإنجليز، وناوأَ عشيرتَه، وخالفَ أهلَ مذهبِه، فجُرِحَ وقُتِلت فرسُه وتبدّدت ثروتُه وبيعت خيولُه، وانتهى مُمتثِلاً إلى تحريض امرأتِه الجديدة الحريصة على قصْر القوت على أبنائها وحدهم، فتكتب جوخة الحارثي في نارنْجتها: «ضربَ الأبُ على زِندِ ابنِه في اللحظة التي امتدت فيها يدُه لتناوُل اللقمة من الصحن العائليّ المشترك، تناثرت حبّاتُ الأرزّ الثمينة من يد الولد ذي الخمسة عشر عامًا، ارتعشت شقيقتُه التي تصغُرُه بعاميْن وتوقّفت عن الأكل، صاح الأبُ الوجيهُ: «ما تخجل تجلس على صحن أبيك؟ كُلْ من كَدِّ هذي الزند، أبوك ما تلقاه دوم»». مَحَقَ العَوَزُ نخوةَ الفارس عامر وبطشت وسوسةُ الزوجة الجديدة بمروءة عامر الأب؛ فطردَ ابنَه الصبي وأعرضَ عن مُحيّا طفلته المخذولة التي طالما عاشت مرفَّهَة ومعتادةً على ممازحة أبيها لها والتي أدركت، بحاسةٍ حاذِقةٍ مرهفةٍ يقظةٍ قبل الأوان، أنها هي أيضًا قد قُصِدت بالضربة وبالتخلِّي وبالتَّرْكِ الساحق، فمضى الصغيران، يتيما الأم، يدًا بيد، إلى تشرُّدهما. وسيستكثر الناسُ، بطبعهم، على الطفلة الطريدة اسمَها الشخصي فيسمُّونها «بنت عامر». ومثل «ابنة عمران»، التي التجأت إلى مغارةٍ في بيت لحم لِتلِدَ فيها، التجأت «بنت عامر» إلى خرابة تأويها برفقة أخيها الذي استُؤجِر في بناء الجدران مقابل أجرٍ بخس، ومات بعد سنتين. ولم يسترد الأبُ ابنتَه من التشرد والوحدة بعد موت أخيها، ولا ريب في أنّ الرواية قد عاقبته بإغفالها لمصيره وانصرافها عن أخباره وبِترْكِهِ للهباء إلّا من خبرٍ عن حريقٍ أَلَمَّ ببيتِه. ستكبر بنتُ عامر عذراءً، لكنها ستصير أُمّا لمنصور ولن تسمح بلوْمِهِ من أحدٍ؛ ذلك أن عقيدتها في محبته تشتمل على أنّ منصور «لا يُلام»، وقد أشبعته من حنانها كأنّما احتالت لِتُسرِّبَ عَبْره حنانا من لدُنها إلى أخيها، فقيدها. وعلى الرغم من عدم معرفتها بالقراءة والكتابة فإنها ستتلقّى، في سنتِها التاسعة والثلاثين، كتابَ الإنجيل من يد تبشيرية أمريكية بيضاء اسمها «بِث توماس» تساعد زوجها «طومس» في تسطير معجزاته الطبية بالأنحاء العُمانية. تجد فكرةُ الأم الكبيرة مُستندَها في مَوجودية السيدة مريم العذراء، وفي مرجعية الأم إيزيس (إيزه) من قبلها. ومن المدهش أن ترتقي مقامَ الأم الكبيرة ومسؤولياتِها طفلةٌ شبَّت شريدةً مخذولةً من الأب ويتيمة الأم.
ثُم إنّ سُميَّة كانت هناك طافرة مثل وعدٍ مسبوكٍ بالنور وماء الياسمين. تعلّقت الصبيّةُ، ابنةُ منصور، في فروع النارنجة كثمرةٍ شرِهةٍ للنسغ الريّان، وتأرجحت ملء قلبها. شمَّرت أكمامَها ولعبت مع الصبيان. شيَّدت من الطمي مقابرَ للسحالي والعصافير الميتة. حشرت دشداشتَها في سروالها وتسلَّقت الجدران، ورعت شقيقتَها بطرفِ عينِها رعايةَ القائد الناصر.
من عبقِ الجوافة صِيغت ريميديوس، ومن شذى النارنجة استوت سُميّة، فكانتا مثل اليانجِ والينِّ. انسابت أقنومُ الجوافة في صعودها، إلّا أنّ أقنومَ النارنج، وقد قُهِرت، انخرست وأُطفِئ نورُها وأُسقِطت أرضا وهي سماءٌ مُصغَّرة.
تُكتَبُ القصصُ الكبيرة الأساسية كيفما يليق بالقصص الكبيرة الأساسية - همسا. ويلْهجُ بشرُ الأرض بأفكار الحق والخير والجمال ويتشوَّقونها غير أنهم يعودون فلا يطيقون متطلَباتِها، ثم إنهم يبتهلون إلى فكرة الخلاص حتى إذا دانت لهم اضطهدوها وأهلكوا رُعاتِها. وإني ما زلتُ أسعى، في خيالي، بدرّاجتي القديمة على طُرقاتٍ اندثرت في قريتي، وأرفعُ طائراتي الورقية صوب سماواتٍ تقادمَت، وأُلاحِق العلاماتِ المائية أو تُلاحقني، ولئن كنتُ فهمتُ شيئا من «شانجري لا»، المأوى الخيالي الخلّاب الذي وَهَبَهُ جيمس هيلتون في رواية الأفق المفقود، فهو أنّ القلبَ الإنساني لا يتسع، في الأصل، لأكثر من فكرة واحدة تستحوذ عليه بالرضا والهيام والامتلاء والاكتفاءِ، فيتجذّر فيه الشغفُ الذي هو غيرُ عابرٍ، بل مقيمٌ، حتى إنه يُعطِّل الأثرَ الهدّام للزمن.
عاطف سليمان كاتب مصري
تذكَّرتُ تلك الرسوماتِ الماثلةِ بين الأبيض والأكثر اِبيضاضا، وقد بدا لي أنّ هذا الضربَ نفسَه من الإخفاء يَسري في الأدب؛ ذلك أنّ الكاتبَ قد ينسجُ أحيانًا على منواليْن لإسباغِ نصوصِه ولإمتاع قارئيه واصطفاءِ أشباهِهِ منهم ولإشباع نَهَمِه الإبداعي؛ فإذا أفكارُه اقترنت وإذا فنونُه تراكبت لاحت -أو كادت- آنئذٍ علامةٌ مائيةٌ مُوُدَعَةٌ تحت سطور كتابته، بمثابةِ لزومِ ما لا يلزم. فيا لها من تيّاراتٍ ثانوية مُعمّاة تَدُسُّها دسّا قدراتٌ إبداعية مفرطة للكاتب، بانتباهِهِ أو بغير انتباهه، داخل جريان السرد العام الظاهري. ويخبرني حدسي بأنّ هذا عادةً يكون إبداعا لا يُخطَّط له إنّما هو فيْضٌ، فتُرى ما الذي قد عساه يظهر من علاماتٍ كامنة أو وشوماتٍ مخبوءة إذا رُفِعت -مثلاً- روايةُ مائة عام من العُزلة في الضوء؛ ونُظِرَ إلى الكولونيل أوريليانو بوينديا، وقد جِيءَ به، في فجر يوم ثلاثاء، إلى ساحة كتيبة الإعدام لتنفيذ الحُكم بحقِهِ، وقتما كان شقيقُه خوسيه أركاديو يطلُّ عليه من شباك بيته الكائن قُرب المقابر، ويراه راضيا بل راضِخا لأقداره، «مترجرجا في ضياء الفجر، ببنطالٍ كان له في شبابه». لعل جابرييل جارثيا ماركيز أراد، من بعيد، أن يُذكِّر بالمعنى القارِّ للأسى إذْ يناظِر بـ«أوريليانِهِ» المشهدَ الأبرز في حياة وممات وقيامة يسوع المسيح، حيث يغمزُ تلميحًا في علامته المائية إلى شوْط العذاب الذي خاضه الرجلُ ابنُ العذراء المحكومُ بالصَّلْب؛ حاملا الخشبةَ، مُترنِّحا بثِقلِها، عاثِرا، مَهِيضا، ماضيا بلا حوْلٍ إلى الجلجثة. تُرى ما كانت تلك الخشبة! ما شجرتُها! أكانت زيتونةً فوّاحةً من زمن الأجداد؟ أم تَخالَطَ فيها الصنوبرُ والأَرزُ والسرو؟ في عُزلة الاقترابِ من الموت عاش أوريليانو لحظةً أغمض فيها عينيْه لصرخةٍ هائلةٍ سمعها، ولربما ظنَّ لهُنيهةٍ أنّ الفصيلةَ أعدمته وأنه قد سمعَ صيحة القيامة، إلا أنه -مثله مثل فيودور دوستويـﭭـسكي الشاب الثوري المسوُق صُبْحا إلى منصّة الإعدام- أُنقِذَ قبل أن يتحقّق موتُه؛ لأن الصرخة كانت لشقيقه خوسيه أركاديو الذي وصلَ ومنعَ تنفيذَ الإعدام، فلَكأن أوريليانو في ذلك كان قد مات ثم أُحيِيَ، ولَكأن حالَه ماثَلت حالةَ القوْمة. إنه هو أوريليانو نفسُه الذي كان أول مَن وُلِد في «ماكوندو»، والذي خرج من بطن أمه بعلاماتٍ وأمارات وبعينين مفتوحتين ورأسٍ يتحرّك ليتعرّف على الموجودات وليتفحّص وجوهَ الناس ويكاد في المهد يكلِّمهم كشأنِ ابن «بيت لحم».
وكذلك كان «سانتياجو نصّار»، في رواية قصة موت مُعلَن، بريئا من التهمة التي قُذِف بها، والتي صدر الحكمُ الثأريُّ فورا عليه بالقتل العاجل، بناءً عليها. ولقد علم الجميعُ بأنّ هنالك مَنْ ينتظر سانتياجو نصّار ليقتله، ولم يتقدّم أحدٌ ليمنع هذا القتْل، ليس عن تواطؤ ولا عن جُبن، وليس عن تكاسُل ولا عن أي دوافع شريرة؛ بل إنّ العديد من الأفراد قد قاموا ببعض الإجراءات، غير الكافية، من أجل منع حدوث مقتل سانتياجو نصّار، بمن في ذلك الشخصان المتجهِّزان لقتله، اللذان كانا يتمنيان صراحةً أن يردعهما أحدٌ فيمنعهما من ارتكاب هذه الجريمة ويكُفُّهما عن هذا الإيذاء! لكن بدا أن كل الأمور كانت مُيسّرة لإنجاز هذا القتل.
ما يبدو لي هو أن ماركيز قد وارَى في روايته علامةً مائية عن مسيحٍ يُعاد صَلْبُه، علنا، على مرأى من كل الآخرين، وبعِلمهم، بل بمساعداتٍ غير مقصودة منهم، على الرغم من محبتهم له، وعلى الرغم من براءته. رواية قصةُ موت مُعلَن هي -في أعرافِ لزوم ما لا يلزم- مَرويةُ ماركيز الأدبية عمّا يمكنني اعتباره السيرة المحتَّمة في وجودية المسيح عليه السلام، وهي كذلك مُصادَقةُ ماركيز -بالإيماء- على رواية المسيح يُصلَب من جديد لمؤلِّفِها نيكوس كازنتزاكيس. ولا يُغفَل عن اختيار الكاتب، في روايته، أن يكون «سانتياجو نصّار» من أصولٍ شامية التي كانت هي نفسها أصولَ أسرة السيد المسيح، وأن يشتمل اسمُ الفتى -ضِمنا- على معنى القداسة، «سانت ياجو»، ناهيك عن أنْ يكون لقبُه «نصّار» الذي هو من جذر لقب يسوع «الناصري»، وعن أنّ الأمَّ في القصَّتيْن لم يسعفهما جلاءُ غريزة الأمومة وبديهتها الرهيفة لمنع الرّدى عن ابنيْهما. ما رُصِدَ آنفا من تماثُلات هو ليس من قبيل الحصر، بل لعل العلامةَ المائية لهذه الرواية تنطوي دوما على المزيد مما قد يُفشَى ويُباحُ كلّما عاودَ القارئُ النظرَ في أوراقها مرفوعةً أمام ضوء.
أَوَتدري الأشجارُ عن مآلاتِها وتَشابُكاتها؟ هل كُتِبَ في الأدب عن أشجارٍ صارت صُلبانا؟ أَعُرِفت شجرةٌ خُرِطَ منها صندوقٌ على قياس قامة أوزوريس توطئةً لِحبْسِه ومن ثَم إلقائه في النهر؟ تحضرُ الأشجارُ بالروايات فتعنيني، لا سيّما إذا كانت الأشجارُ شجرةً واحدة كبرى ذات حَوْلٍ وتوشك أن تكون ذات بطولة، على حال «شجرة الكستناء» مثلا في رواية نرسيس وجولدموند لمؤلِّفها هيرمان هِسه، وكذلك «كستناء» مائة عام من العُزلة، و«شجرة النارنج» في رواية نارنجة لمؤلِّفتها جوخة الحارثي.
إنْ تشعُّ الشمسُ صهدا ووهجا فإنّها تطبخُ الوجودَ وتُفكِّكه وتُـحْييه وتُطلِق شذى الجوافة، حيث كان خوسيه أركاديو بوينديا، مؤسِّس ماكوندو، يقطنُ بأخريات عُمرِه تحت شجرة كستناء؛ يأكل وينام ويموت. وفي نصفٍ آخر من الأرض، قُرب «مَسفاة العَبريين»، تشعُّ الشمسُ كذلك صهدَها ووهجَها وتُطلِق شذى نارنج من شجرةٍ زرعتها امرأةٌ عذراءُ، تفوحُ منها رائحةُ الزباد، كاد أن يكون لها خطيبٌ في غابر الأيام، ولعل خطيبَها الخافتَ، غيرَ المذكور إلا قليلا، ليس سوى حَذْوٍ للنجّار يوسف. ومَن هي إلا «بنت عامر» التي تُبِينُ علامتُها المائية أنها قد تُناهِزُ -من جهة اسمِها- ابنةَ عِمران أو ابنة آل عِمران، والفتى -فتاها- الذي لم يدرك لنفسِه أُمّا غيرها ووَسَمَها أبدا بندائه «ماه، ماه» هو «منصور»، الآتي جرسُ اسمِه من تخوم «الناصري» و«نصّار». والمدهش هو أن بنت عامر هي التي أبدلت الاسمَ الأصلي للوليد من «صالح» إلى منصور، بقصدِ إنفاذ التوافق مع نجمِه، وما كان ذلك التبديل، في ظنِّي، بلا مغزى. وعلى أية حال فإنّ اسم «عمران» لم يغب عن فصول الرواية إنّما تزحزحَ ليكون اسمَ العاشِق المعشوق الباكستاني الفقير الذي دخلَ، ذات ليلة مبارَكة، وهو يافع جريح ومُهان، مقامَ الإمام، مُفتِّشا عن السرداب الخفيِّ الذي سيخرج منه المهدي المنتظَر، ففاجأه النورُ مُتشعشعا من موضعٍ بأرضية المقام، وبانَ له السردابُ وانفتحَ أمامه فأُتيحَ له أنْ يرى الإمامَ الذي التقاه ورعاه وداواه وأغناه وأنارَ له.
بظهور «سلمان»، التاجر، في رواية نارنجة ترسّخ حضورُ العذراء بنت عامر في الحياة، وتنامى نُضجُها، بل تشكّلت ملامحُ أسطورةٍ لها منبثقة من مقبوليتها، ومن يدها الخضراء التي لا تخيب لها زَرعةٌ، ومن يقين الناس بأنها، وهي العذراء، قد أرضعت من صدرها منصورَ، الوليدَ، ابن «سلمان» و«الثريّا»، الذي عافته أمُّه السادرةُ في اكتئابها، ورأى الناسُ ذلك الرضيعَ يكبر ويمسك العقارب ويرصِّصها على ذراعه آمنا من لدغاتها فأيقنوا وأشاعوا بأن بنت عامر كانت قد أغرقت عقربا في لبنِ صدرها، الذي سَقت الرضيعَ منه، فحازَ مُسالَمةَ العقارب. أربعون سنة عاشتها بنتُ عامر ضيفةً في بيت سلمان، وبجدارتها غدت هي الأم الكبيرة المعتنية بشؤون جميع رعاياها مع حرصها الراشِد الأكيد الـمُتنبِّه على ألّا تتجاوز لياقةَ وضْعِها كضيْفة، وعلى مدى العُمر ظلّت نارنجتُها لا تثمرُ إلا بعد أن تمسحها هي بيديها، وما إن ماتت المرأة حتى ذوت النارنجة وبادت، شاهِدةً بأنّ روح بنت عامر هي التي كانت تُقِيمُها.
ولئن اشتطَّ «منصور» الرومانسي فتمادى في عشق «كافّة» مُتعبِّدًا فلقد بادلت كافّةُ عطاياه بضجرها من شخصِه ومن تَوَلُّهِه بها ومن عِشقِه لها ومن تعبُّدِه إياها. منصورُ مُتسامٍ؛ لَكأن الكيانَ الذي له كان يضمرُ جَليليّا يكرزُ بالروح، بينما كانت كافّة تريده أرضيًّا؛ لَكأن كيانَها قد أضمرَ سَمْتَ مجدليّة. غسلَ هو لها قدميْها وفرَكَهما بأوراق الورد، وهي لا تلتذُ بتقْدِماتِه وقُرباناتِه، إنّما لعلها اشتهت لو أنها هي التي، كمجدليّة، تغسل له قدميْه وتمسحهما بجدائلها. رُبَّ ما كان يتوجّب على منصور أن يكرز به هو الحُريّة التي عرفتها وعاشتها كافّةُ سليلةُ البادية وابنةُ ما لا يُحَدُّ. لكنه، وقد أنزلها في بساتين وعرائش، لم يظفر منها بغير اضمحلالها ونُكرانها وهجرانها، ولم يكن غريبا أن يفقدَ حصانتَه بعد أن هجرته مجدليتُه فلدغته عقرب، ولم تتشفّع له حتى تعويذةُ بنت عامر «يا حُمّى لا تقربي منصور بن سلمان»، غير أنه -بآلامِه- استفاقَ وعاد بَشرا سويّا.
وُلِدت بنت عامر في شقاواتِ الحرب التي تتشعَّب شرورُها وتتفاقم وتَجِنُّ فلا يُحاطُ بها؛ ومن ذلك ما أفضت إليه معاركُ الحرب العالمية الأولى من غلاء أسعار السلع وضِيق العيْش وشحِّ الغذاء على الأرض بما فيها البلاد العُمانية، حيث ترمَّل بجريرتها «عامر»، الفارسُ، ذو الجاه، وقد ماتت عنه زوجتُه تاركةً له الصبي والطفلة، فتزوَّج ثانيةً، ثم تردّى في مقامرةٍ سياسية محلية حاربَ فيها السلطانَ وعارَكَ الإنجليز، وناوأَ عشيرتَه، وخالفَ أهلَ مذهبِه، فجُرِحَ وقُتِلت فرسُه وتبدّدت ثروتُه وبيعت خيولُه، وانتهى مُمتثِلاً إلى تحريض امرأتِه الجديدة الحريصة على قصْر القوت على أبنائها وحدهم، فتكتب جوخة الحارثي في نارنْجتها: «ضربَ الأبُ على زِندِ ابنِه في اللحظة التي امتدت فيها يدُه لتناوُل اللقمة من الصحن العائليّ المشترك، تناثرت حبّاتُ الأرزّ الثمينة من يد الولد ذي الخمسة عشر عامًا، ارتعشت شقيقتُه التي تصغُرُه بعاميْن وتوقّفت عن الأكل، صاح الأبُ الوجيهُ: «ما تخجل تجلس على صحن أبيك؟ كُلْ من كَدِّ هذي الزند، أبوك ما تلقاه دوم»». مَحَقَ العَوَزُ نخوةَ الفارس عامر وبطشت وسوسةُ الزوجة الجديدة بمروءة عامر الأب؛ فطردَ ابنَه الصبي وأعرضَ عن مُحيّا طفلته المخذولة التي طالما عاشت مرفَّهَة ومعتادةً على ممازحة أبيها لها والتي أدركت، بحاسةٍ حاذِقةٍ مرهفةٍ يقظةٍ قبل الأوان، أنها هي أيضًا قد قُصِدت بالضربة وبالتخلِّي وبالتَّرْكِ الساحق، فمضى الصغيران، يتيما الأم، يدًا بيد، إلى تشرُّدهما. وسيستكثر الناسُ، بطبعهم، على الطفلة الطريدة اسمَها الشخصي فيسمُّونها «بنت عامر». ومثل «ابنة عمران»، التي التجأت إلى مغارةٍ في بيت لحم لِتلِدَ فيها، التجأت «بنت عامر» إلى خرابة تأويها برفقة أخيها الذي استُؤجِر في بناء الجدران مقابل أجرٍ بخس، ومات بعد سنتين. ولم يسترد الأبُ ابنتَه من التشرد والوحدة بعد موت أخيها، ولا ريب في أنّ الرواية قد عاقبته بإغفالها لمصيره وانصرافها عن أخباره وبِترْكِهِ للهباء إلّا من خبرٍ عن حريقٍ أَلَمَّ ببيتِه. ستكبر بنتُ عامر عذراءً، لكنها ستصير أُمّا لمنصور ولن تسمح بلوْمِهِ من أحدٍ؛ ذلك أن عقيدتها في محبته تشتمل على أنّ منصور «لا يُلام»، وقد أشبعته من حنانها كأنّما احتالت لِتُسرِّبَ عَبْره حنانا من لدُنها إلى أخيها، فقيدها. وعلى الرغم من عدم معرفتها بالقراءة والكتابة فإنها ستتلقّى، في سنتِها التاسعة والثلاثين، كتابَ الإنجيل من يد تبشيرية أمريكية بيضاء اسمها «بِث توماس» تساعد زوجها «طومس» في تسطير معجزاته الطبية بالأنحاء العُمانية. تجد فكرةُ الأم الكبيرة مُستندَها في مَوجودية السيدة مريم العذراء، وفي مرجعية الأم إيزيس (إيزه) من قبلها. ومن المدهش أن ترتقي مقامَ الأم الكبيرة ومسؤولياتِها طفلةٌ شبَّت شريدةً مخذولةً من الأب ويتيمة الأم.
ثُم إنّ سُميَّة كانت هناك طافرة مثل وعدٍ مسبوكٍ بالنور وماء الياسمين. تعلّقت الصبيّةُ، ابنةُ منصور، في فروع النارنجة كثمرةٍ شرِهةٍ للنسغ الريّان، وتأرجحت ملء قلبها. شمَّرت أكمامَها ولعبت مع الصبيان. شيَّدت من الطمي مقابرَ للسحالي والعصافير الميتة. حشرت دشداشتَها في سروالها وتسلَّقت الجدران، ورعت شقيقتَها بطرفِ عينِها رعايةَ القائد الناصر.
من عبقِ الجوافة صِيغت ريميديوس، ومن شذى النارنجة استوت سُميّة، فكانتا مثل اليانجِ والينِّ. انسابت أقنومُ الجوافة في صعودها، إلّا أنّ أقنومَ النارنج، وقد قُهِرت، انخرست وأُطفِئ نورُها وأُسقِطت أرضا وهي سماءٌ مُصغَّرة.
تُكتَبُ القصصُ الكبيرة الأساسية كيفما يليق بالقصص الكبيرة الأساسية - همسا. ويلْهجُ بشرُ الأرض بأفكار الحق والخير والجمال ويتشوَّقونها غير أنهم يعودون فلا يطيقون متطلَباتِها، ثم إنهم يبتهلون إلى فكرة الخلاص حتى إذا دانت لهم اضطهدوها وأهلكوا رُعاتِها. وإني ما زلتُ أسعى، في خيالي، بدرّاجتي القديمة على طُرقاتٍ اندثرت في قريتي، وأرفعُ طائراتي الورقية صوب سماواتٍ تقادمَت، وأُلاحِق العلاماتِ المائية أو تُلاحقني، ولئن كنتُ فهمتُ شيئا من «شانجري لا»، المأوى الخيالي الخلّاب الذي وَهَبَهُ جيمس هيلتون في رواية الأفق المفقود، فهو أنّ القلبَ الإنساني لا يتسع، في الأصل، لأكثر من فكرة واحدة تستحوذ عليه بالرضا والهيام والامتلاء والاكتفاءِ، فيتجذّر فيه الشغفُ الذي هو غيرُ عابرٍ، بل مقيمٌ، حتى إنه يُعطِّل الأثرَ الهدّام للزمن.
عاطف سليمان كاتب مصري