خيط أفقي ملون لمّاع، يناور خلد الشاعر حسن نجمي، ليكوّن حوارًا سريًا صامتًا بين شاعر ونهر، في علاقة جوار بينه وبين نهر «أبو رقراق» الذي يصب في المحيط الأطلسي.
والنهر في الآداب الإنسانية استعارة عن الزمن؛ كيف نعيش وجودا كاملا من نقطة بدء من منبع ما، ونمضي جميعا نحو مصب ما، فأحيانا يتكلم النهر عن نفسه وعن مجراه، وعن نبعه، وحنينه ورغبته، ليعود إلى منبعه الأول إلى طفولته.
وأنه لا يريد أن يلقي بنفسه في الماء المحيط، وكأنه سينتحر، ويضع حدا لحياته، وهناك شذرات يتحدث فيها الشاعر عن مجراه أيضا بوجوده في الحياة، وفي متن القصيدة نرى شذرات متبادلة بينهما.
هذا النص الحوار، هذا الأخذ والرد، هذا الذهاب والإياب في العلاقة؛ كان يمنح الشاعر باستمرار تدوين بعض الشذرات على مراحل، فقد كتبت أولى الشذرات في أوائل الألفية الثانية، كما قال الشاعر.
وعلى الرغم من أن كل شذرة تكوّن رؤية ذاتية، إلا أنها مجتمعة تندرج ضمن أفق واحد، مما أسهم في تأطير قصيدة مطولة كانت القصيدة الكتاب.
ومما يُذكر؛ استحضار الشاعر حسن نجمي لتأمل أنهر أخرى لشعراء وفكرتهم عن النهر كالشاعر الأرجنتيني بورخيس والشاعر الإيطالي جوزيبي أونغاريتي. مما أوجد اتساعا في جوانب متعددة للتأمل، كما قال.
على الرغم من أن هناك أنهرا في التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة ومنهم، (بدر شاكر السياب/ نهر بويب، ميخائيل نعيمة/ النهر المتجمد، شعراء شاميون كثر/ نهر بردى، شعراء عراقيون كثر/ دجلة...)، لكن لا أثر لهم في حوار الشاعر مع النهر الذي يراه كل يوم ويعايشه، ربما كان هذا التصاقا بالتجربة الشخصية أكثر.
(1)
فكرة النهر؛ عنوان فلسفي يفتح ملاذا لسؤال محتمل، ماهي فكرة النهر؟
إن التأمل في عنوان «فكرة النهر» يكشف إرهاصًا للفكرة في كينونة تخلّق الكتابة عند الشاعر حسن نجمي في إعلانه «فكرة الخلق» مكتنزًا الفكرة في النهر، فالنهر كينونته نبع، ورفده جريان، ومآله بحر!
في الديوان القصيدة يطبِق الشاعر على فكر القارئ جاعلًا منه استنفارًا للحصافة، طارقًا لمنفذ تكويني، بين توليفين متقابلين، النهر مكان، والنهر تفسير للحركة، والنهر تفسير لولادة أخرى «بحر»، والنهر حكاية زمان، ترتبط بحوادث وامتدادات تاريخية، تراوغ الزمان والمكان، كونه مكانًا مطلوبًا للحياة.
الفلسفة التي أراها قائمة متحررة؛ متحررة لمصب آخر أكبر وأوسع وأشمل.
لا ريب أن الكثيرين سيفتحون الهمز واللمز؛ أللمعنى أفق كهذا؟ إن أردنا أن نؤسس ونعالج عنوان الديوان «فكرة النهر» فإن علينا أن نقترب من مفهوم الفكرة أولا ثم القصد من اختيار النهر وتكوينه، ثم إعطاء التميز في إلقام المفهوم والقصد في إطار جامع يقودنا إلى قراءة الديوان القصيدة بناء على هذا الفهم المزدوج، وتضمين هذا الفهم للكينونة والتكوين.
ولهذا فإن المفتتح لبداية الديوان القصيدة، فلسفي بالدرجة الأولى؛ في الشرفة...
الشرفة مكان إطلال لفضاء في أغلبه، الشرفة ارتقاء في اختيار ذلك الإطلال، والشرفة تماه مع فكرة النهر، وكأن اختيار «الشرفة» تناسق معنوي وفكري مع معنى «النهر».
والشرفة نماء في النظر بمعاينة المشاهِد والشواهد، وبالتالي نرى خلال هذه الإطلالة أن حسن نجمي مارس العيش الحر في تجربة شعرية مفتوحة، إنني أرى أن الشاعر يعيش الشعر بشكله المبجل، وأعني بالمبجل الانسياق في كتابة الشعر بإيقاع أوبرالي في بوتقة شعبية في بناء المغنى وفق تركيبة تصويرية، فالفكرة تمثل النوتة الثابتة والنهر «الإيقاع المتحرك».
هل كان اختيار البدء «في الشرفة» واجهة خلفية لما يريد قوله الشاعر «في النهر».
(2)«في الشرفة
أنظر إلى النهر يمر هناك
قدماي تلامسان الماء
سموا هذا النهر باسمي
فأنا غريق ويدي نقية كيد شاعر»
بداية تمثل خطًا مفتوحًا بين الشاعر والقارئ، هناك تفاعل مهيأ له، خط كتابة وخط حياة، فكان مبتدأ الكتابة «في الشرفة» ومبتدأ خط الحياة «كيد شاعر» وبهذا لم يحدد الشاعر العلاقة بل فتح العلاقة على مصراعيها، وأنتج استهلالًا مفتوحًا للقادم من فكرة النهر وأسميها «شهية الحضور».
وإذا كان الشعر فلسفة وجودية، فإن حسن نجمي نحّى تلك الفلسفة الموغلة بالمصطلحات والتبعات المغرقة في التقعر، واختار فلسفته الخاصة التي تقدم الفكرة بوضوح، وتخترق جدار التثبت بالمعنى إلى نضارة شعرية خالصة:
هنا قرب النهر
أسقي عيني كل صباح وأجدد نظراتي
تعالي نتحاب، بيتي ليس بعيدا عن الماء
بجوار العشب والشجر والثغاء
قلبانا ضاريان في السر
أنا عطش إلى النبع البعيد
إلى هذا المجرى صوبنا
تعالي نغن العالم بالقبلات
هي ذي أمواهك تتلطف بالضفاف
تقترب أكثر من الحافات لتتكئ على لون التراب.
ألاحظ أن المقطع جاء بكامله دون تشتت أو بعثرة، كنت ناظرًا إلى مكان فاصلة أو نقطة، علّها تكون إراحة لإلقام الحديث نوعا من التعدد الحدثي، إلا أن الشاعر هنا جعل تعدد الصور ينصب في نفس الفكرة التي مركزها «هنا قرب النهر» دون أن نحس بالانفصال الطبقي بين كل انتقالة وأخرى.
أكان هذا المقطع معبرًا عن حساسية المسار كشاعر!
تلك الحساسية هي ما جعلت التأمل بوصلة لإنتاج البوح، وما ألاحظه أن الشاعر وتعدد قرائه يبسط نفاذا مفتوحا لرؤيته الخاصة، وفي الوقت نفسه يشطر هذه الرؤية بنفس مكوناتها لاتجاهين لتعدد القراءة، القارئ المتأمل العميق، والقارئ المتحرر من الفلسفة، وهذا الأمر يمنح زخما للفكرة والطريقة، ويأتي هذا التعدد في صالح التنوع الكمي والكيفي.
صباح آخر في الشرفة
شرفة أخرى في هذا الضوء
عيناي ممتلئتان بالنهر
أراك تتكئ في خط الأفق
كي تنام كشهيد يسحبه خط الدم إلى المحيط
كم فجعنا الموت، معا -
أنت أكثر (من فرط ما سمعت من لغات)!
الامتلاء يعني الشبع أو الكينونة، وهذا ما قلته قبلا، في أن الشرفة متماهية في المعنى مع «النهر»، ولذا أرى أن قول «شرفة أخرى في هذا الضوء» لا يعني بالضرورة وجود شرفة مادية أخرى، بل هي إطلالة من نفس الشرفة، باتجاه آخر وزاوية أخرى، ولذا كان الحديث عن الامتلاء في قوله «عيناي ممتلئتان بالنهر»،
وما يؤيد قولي هي تلك الانتقالة المباغتة:
«كي تنام كشهيد يسحبه خط الدم إلى المحيط
كم فجعنا الموت معا»
انتقالة فلسفية ومدارية، حيث الانتقال من العشب والشجر... إلخ. إلى حالة صوفية مكونة لخط ثلاثي «الشهيد-الدم-الموت»، وكأنها تعلن سيرة ذاتية للمعنى؛ المعنى الظاهر والمبطن.
ثمة انفتاح أفقي بين السيرة والمعنى، فالشاعر يمثل السيرة، والمعنى هو النهر، لذا فإن اتخاذ وصف «يا رفيقي» وصف لمرحلة زمكانية، وليس اتساعًا في المشهد، وإلا لكان اتخاذ الوصف أعم وأشمل.
لكننا نواصل القراءة، فنفاجأ باتخاذ وصف آخر «يا صديقي»، ولذا فإننا سنعمل على الاتكاء على المرتكز الأساسي وهو «الشرفة» الثابتة على الرغم من تغير الإطلالات، فمرة يستخدم الشاعر انتقالاته: «في الشرفة- من الشرفة- شرفتي- حديد الشرفة- شرفة المكتبة- شرفة الحكاية».
يضفي حسن نجمي تمازجا رائقا وتراتبيا من كأس القهوة، الليلة الضحكة... الوردة الخطوة...
للتكوين المعني «كأنهم وضعوا الشرفة هنا» وفي مقابل هذا ينبلج إخراج مؤقت، وهذا ما نراه في:
جئت، لكي لا تموت الشرفة
ولا تموت النطفة
ولنقتسم خضرة الربيع
وحصتنا من قبور المرينيين والأضرحة واللقالق.
(3)أيها النهر،
أدعوك إلى أغنيتي
جنت يدي من فرط التلويح
واتكأت خلف حائط الشرفة لأنام
ولكن فضة الشهداء لمعت في هبة نعاسي
فنهضت كي أراك على فرس الليل
ومواكب الضوء خلفك
فركت نظرتي،
فمنذ وقت لم أعد أثق في يقيني
أيها النهر،
يا ماءك الأعمى،
من أين جئت بهؤلاء كلهم؟
بكل هذا الدم والضوء؟
أيها النهر،
وهذه القمصان الملونة التي ترفرف كحبل غسيل
لماذا أراك تعرضها في الليل بلا جماجم؟
نهر يسترسل في مياهه
ممتلئ بالفجر
من هنا
-أراه يعبر،
كقطار مفضض يصل آخر الليل،
(كنت أريد أقول له شيئا
وكان قد ابتعد)
ألاحظ في هذا المقطع المواءمة بين لغة منفتحة على الحياة اليومية بالمعنى الواقعي والمتداول وتقترب من الغنائية، وما سمي «نثر العالم»، وبين لغة شعرية نخبوية، مما أنتج انصهارًا بين خامية الكلام وبلورة اللغة الواضحة.
لا يغيب عن هذا المقطع النبرة الفلسفية للعنوان، إلا أن الشاعر أراد انكشاف العلاقة التخاطبية، إلا أنني أرى أن التخاطب مزدوج، فعلى الرغم من أن استخدام النداء في منمنمات لكن جزءًا من تركيبة الجملة كان للنهر صوت فيه، وأرى ذلك في:
-ولكن فضة الشهداء لمعت في هبة نعاسي
-وهذه القمصان الملونة التي ترفرف كحبل الغسيل
-كقطار مفضض يصل آخر الليل
كنت أريد أقول له شيئًا:
وكان قد ابتعد.
هذا التنوع بين البساطة والترميز يحتاج إلى قريحة نافذة ثرية تستنطق الموروث لتكوين قراءة ذات إيقاع ثقافي متمهل بتناول لمّاح.
(4)أثناء قراءتي للديوان القصيدة «فكرة النهر» لم تبرح نظرتي أن هناك أبعادًا ثلاثيةً للطريقة لفكرة النهر، «الجمالية-الفلسفة-الجرأة».
تنبع الجمالية في القصيدة من خلال إذكاء «روح الهندسة» وهذا يندرج ضمن مسمى «عبقرية التموين الجمالي للنص» العبقرية في نظري تشمل عدة محاور:
1- اختيار النمط التسلسلي المتناسق بالفكرة والطريقة الذاتية للنص، فلو أردنا أن نستبدل أي مقطع بآخر، فإن النسق سيختل ويستحدث انتقاصًا في جسم النص وهيكلته.
2- اختيار المعجم اللغوي من حيث البلاغة والبساطة، فقد اتسم «فكرة النهر» بالبساطة والعمق الوجداني المشتبك مع التأمل.
3- أعتبر أن الأرضية للفكرة والطريقة كالنباتات الخام، وانتقالها من مسمى نباتات إلى مسمى حديقة؛ هو الفارق، إنني أشبه بعمل الطبيب، فالدواء متوفر في وجوده العلاجي، لكن الفارق هو التشخيص، فإني أرى أن الكلمات والتركيبات للجمل متاحة في تموضعها الطبيعي، ثم تمر بعملية الصقل، والإنضاج اللغوي والتقني وصولا للأبعاد الثلاثية.
4- الشعر إمتاع للذائقة، والذائقة تقر لزوم الإمتاع، وتستلطف زيادته بالمعرفة، سواء العلمية البحتة أو استنكاه ذلك بالتوابل الفنية وغيرها.
5- الجرأة، وهذا الأمر يمكن من خلاله استنطاق الكثير من المحاور الأخرى، فالجرأة في الشعر حجر لمعرفة فكرة وطريقة الشاعر.
أراه يخطو كقافلة تحمل الماء إلى البحر
في الليل،
عندما أذهب لأنام-
لا أعرف ما يفعله النهر،
ما يقلقني-
أنني سأذهب لأنام الآن.
ولست مطمئنا إلى أن النهر سيحرسه الظلام.
حتى قبل أن أستيقظ،
حتى قبل أن أطل من شرفتي-
يصل النهر مبكرا
كأنه خط طباشير-
أتى من نقطة الأبد
جيش ماء يتقدم-
أطل فأرى طلائعه
جيش ماء مهزوم-
هارب إلى مصبه
شجرة خضراء داكنة-
تحجب على من يلاحقه.
أرى النهر هناك.
لا أقول شيئًا
عيني خرساء.
حتى عندما ستبقى لي كلمة واحدة صغيرة
حتى ولو كانت مجرد (آه!)-
سأقولها له، للنهر.
أعتقد أن الشاعر حسن نجمي شغوف بما يكتب، ويكتب نفسه؛ ما أحدث للقارئ الحصيف اتساعا في جماليات حرية الاحتمالات وتنوعها، وهذا الأمر لا يتأتّى إلا لشاعر يكتب دون أن يكون مجسّ شعره مرتبطا برقابة القارئ، فهناك من يقيم شعره بمدى استقبال القارئ لشعره، وهذا أمر يحدث خلالا للفكرة والطريقة لشعره.
أراه يخطو كقافلة تحمل الماء إلى البحر
في الليل.
هل أقام حسن نجمي بهذا التصوير المرئي صراعا بينه وبين النهر أم هو استنساخ مقصود في ملمس فلسفي خاص، وهذا من أراه في تفاعلات الرؤية والحركة:-
أراه-في الليل-أطل- أتى-يتقدم-هارب-تحجب..
إلى اشتباك آخر مقصود بقوله «عيني خرساء».
وما تلك الفواصل والنقاط المتعددة إلا إراحة لذلك التدفق السردي، بالشكل الذي يلملم ويفرش الأرضية المناسبة لكل تدفق. فلولاها ما عرفنا كيف نوثق عرى القصيدة أو نفكها، ناهيك عن اختيار ترتيب وقياسات الطول والعرض لكل تدفق في القصيدة، مما شكل رافدا مؤنسا للقارئ.
إنني أرى أن حسن نجمي حوّل بناء قصيدته من بناء باللبنات إلى مختلط متسارع أشبه بعمل المفراك في القِدر، وهذا يتطلب جهدا في معرفة توقيت البدء حتى النضج، عبر سياق يتشكل بنمو فكري وفلسفي بين المبدع ومستقبل إبداعه.
إني أرى أن تحويل القصيدة إلى كائن حي هو مبتغى الشاعر، وبذلك يعطي دفقة التفاعل الثنائي، من جهة وتجدد غريزة البقاء من جهة أخرى.
فالنهر حاضر على الدوام في زمن الشاعر، بتعدد أعماله وممارسة حياته. ولا يرتبط ذلك بزمن الرؤية الواضحة (النهار)، بل وحين يلفه الليل، وهذا يدعونا إلى تأمل تأثير آخر؛ المكان على الكينونة الإنسانية حتى يكون هناك إبصار تكويني للرمز وآخر للحواس، وإكساب هذا التكوين للنص المائي المتعدد المشارب.
طلعت قديح كاتب فلسطيني من غزة
والنهر في الآداب الإنسانية استعارة عن الزمن؛ كيف نعيش وجودا كاملا من نقطة بدء من منبع ما، ونمضي جميعا نحو مصب ما، فأحيانا يتكلم النهر عن نفسه وعن مجراه، وعن نبعه، وحنينه ورغبته، ليعود إلى منبعه الأول إلى طفولته.
وأنه لا يريد أن يلقي بنفسه في الماء المحيط، وكأنه سينتحر، ويضع حدا لحياته، وهناك شذرات يتحدث فيها الشاعر عن مجراه أيضا بوجوده في الحياة، وفي متن القصيدة نرى شذرات متبادلة بينهما.
هذا النص الحوار، هذا الأخذ والرد، هذا الذهاب والإياب في العلاقة؛ كان يمنح الشاعر باستمرار تدوين بعض الشذرات على مراحل، فقد كتبت أولى الشذرات في أوائل الألفية الثانية، كما قال الشاعر.
وعلى الرغم من أن كل شذرة تكوّن رؤية ذاتية، إلا أنها مجتمعة تندرج ضمن أفق واحد، مما أسهم في تأطير قصيدة مطولة كانت القصيدة الكتاب.
ومما يُذكر؛ استحضار الشاعر حسن نجمي لتأمل أنهر أخرى لشعراء وفكرتهم عن النهر كالشاعر الأرجنتيني بورخيس والشاعر الإيطالي جوزيبي أونغاريتي. مما أوجد اتساعا في جوانب متعددة للتأمل، كما قال.
على الرغم من أن هناك أنهرا في التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة ومنهم، (بدر شاكر السياب/ نهر بويب، ميخائيل نعيمة/ النهر المتجمد، شعراء شاميون كثر/ نهر بردى، شعراء عراقيون كثر/ دجلة...)، لكن لا أثر لهم في حوار الشاعر مع النهر الذي يراه كل يوم ويعايشه، ربما كان هذا التصاقا بالتجربة الشخصية أكثر.
(1)
فكرة النهر؛ عنوان فلسفي يفتح ملاذا لسؤال محتمل، ماهي فكرة النهر؟
إن التأمل في عنوان «فكرة النهر» يكشف إرهاصًا للفكرة في كينونة تخلّق الكتابة عند الشاعر حسن نجمي في إعلانه «فكرة الخلق» مكتنزًا الفكرة في النهر، فالنهر كينونته نبع، ورفده جريان، ومآله بحر!
في الديوان القصيدة يطبِق الشاعر على فكر القارئ جاعلًا منه استنفارًا للحصافة، طارقًا لمنفذ تكويني، بين توليفين متقابلين، النهر مكان، والنهر تفسير للحركة، والنهر تفسير لولادة أخرى «بحر»، والنهر حكاية زمان، ترتبط بحوادث وامتدادات تاريخية، تراوغ الزمان والمكان، كونه مكانًا مطلوبًا للحياة.
الفلسفة التي أراها قائمة متحررة؛ متحررة لمصب آخر أكبر وأوسع وأشمل.
لا ريب أن الكثيرين سيفتحون الهمز واللمز؛ أللمعنى أفق كهذا؟ إن أردنا أن نؤسس ونعالج عنوان الديوان «فكرة النهر» فإن علينا أن نقترب من مفهوم الفكرة أولا ثم القصد من اختيار النهر وتكوينه، ثم إعطاء التميز في إلقام المفهوم والقصد في إطار جامع يقودنا إلى قراءة الديوان القصيدة بناء على هذا الفهم المزدوج، وتضمين هذا الفهم للكينونة والتكوين.
ولهذا فإن المفتتح لبداية الديوان القصيدة، فلسفي بالدرجة الأولى؛ في الشرفة...
الشرفة مكان إطلال لفضاء في أغلبه، الشرفة ارتقاء في اختيار ذلك الإطلال، والشرفة تماه مع فكرة النهر، وكأن اختيار «الشرفة» تناسق معنوي وفكري مع معنى «النهر».
والشرفة نماء في النظر بمعاينة المشاهِد والشواهد، وبالتالي نرى خلال هذه الإطلالة أن حسن نجمي مارس العيش الحر في تجربة شعرية مفتوحة، إنني أرى أن الشاعر يعيش الشعر بشكله المبجل، وأعني بالمبجل الانسياق في كتابة الشعر بإيقاع أوبرالي في بوتقة شعبية في بناء المغنى وفق تركيبة تصويرية، فالفكرة تمثل النوتة الثابتة والنهر «الإيقاع المتحرك».
هل كان اختيار البدء «في الشرفة» واجهة خلفية لما يريد قوله الشاعر «في النهر».
(2)«في الشرفة
أنظر إلى النهر يمر هناك
قدماي تلامسان الماء
سموا هذا النهر باسمي
فأنا غريق ويدي نقية كيد شاعر»
بداية تمثل خطًا مفتوحًا بين الشاعر والقارئ، هناك تفاعل مهيأ له، خط كتابة وخط حياة، فكان مبتدأ الكتابة «في الشرفة» ومبتدأ خط الحياة «كيد شاعر» وبهذا لم يحدد الشاعر العلاقة بل فتح العلاقة على مصراعيها، وأنتج استهلالًا مفتوحًا للقادم من فكرة النهر وأسميها «شهية الحضور».
وإذا كان الشعر فلسفة وجودية، فإن حسن نجمي نحّى تلك الفلسفة الموغلة بالمصطلحات والتبعات المغرقة في التقعر، واختار فلسفته الخاصة التي تقدم الفكرة بوضوح، وتخترق جدار التثبت بالمعنى إلى نضارة شعرية خالصة:
هنا قرب النهر
أسقي عيني كل صباح وأجدد نظراتي
تعالي نتحاب، بيتي ليس بعيدا عن الماء
بجوار العشب والشجر والثغاء
قلبانا ضاريان في السر
أنا عطش إلى النبع البعيد
إلى هذا المجرى صوبنا
تعالي نغن العالم بالقبلات
هي ذي أمواهك تتلطف بالضفاف
تقترب أكثر من الحافات لتتكئ على لون التراب.
ألاحظ أن المقطع جاء بكامله دون تشتت أو بعثرة، كنت ناظرًا إلى مكان فاصلة أو نقطة، علّها تكون إراحة لإلقام الحديث نوعا من التعدد الحدثي، إلا أن الشاعر هنا جعل تعدد الصور ينصب في نفس الفكرة التي مركزها «هنا قرب النهر» دون أن نحس بالانفصال الطبقي بين كل انتقالة وأخرى.
أكان هذا المقطع معبرًا عن حساسية المسار كشاعر!
تلك الحساسية هي ما جعلت التأمل بوصلة لإنتاج البوح، وما ألاحظه أن الشاعر وتعدد قرائه يبسط نفاذا مفتوحا لرؤيته الخاصة، وفي الوقت نفسه يشطر هذه الرؤية بنفس مكوناتها لاتجاهين لتعدد القراءة، القارئ المتأمل العميق، والقارئ المتحرر من الفلسفة، وهذا الأمر يمنح زخما للفكرة والطريقة، ويأتي هذا التعدد في صالح التنوع الكمي والكيفي.
صباح آخر في الشرفة
شرفة أخرى في هذا الضوء
عيناي ممتلئتان بالنهر
أراك تتكئ في خط الأفق
كي تنام كشهيد يسحبه خط الدم إلى المحيط
كم فجعنا الموت، معا -
أنت أكثر (من فرط ما سمعت من لغات)!
الامتلاء يعني الشبع أو الكينونة، وهذا ما قلته قبلا، في أن الشرفة متماهية في المعنى مع «النهر»، ولذا أرى أن قول «شرفة أخرى في هذا الضوء» لا يعني بالضرورة وجود شرفة مادية أخرى، بل هي إطلالة من نفس الشرفة، باتجاه آخر وزاوية أخرى، ولذا كان الحديث عن الامتلاء في قوله «عيناي ممتلئتان بالنهر»،
وما يؤيد قولي هي تلك الانتقالة المباغتة:
«كي تنام كشهيد يسحبه خط الدم إلى المحيط
كم فجعنا الموت معا»
انتقالة فلسفية ومدارية، حيث الانتقال من العشب والشجر... إلخ. إلى حالة صوفية مكونة لخط ثلاثي «الشهيد-الدم-الموت»، وكأنها تعلن سيرة ذاتية للمعنى؛ المعنى الظاهر والمبطن.
ثمة انفتاح أفقي بين السيرة والمعنى، فالشاعر يمثل السيرة، والمعنى هو النهر، لذا فإن اتخاذ وصف «يا رفيقي» وصف لمرحلة زمكانية، وليس اتساعًا في المشهد، وإلا لكان اتخاذ الوصف أعم وأشمل.
لكننا نواصل القراءة، فنفاجأ باتخاذ وصف آخر «يا صديقي»، ولذا فإننا سنعمل على الاتكاء على المرتكز الأساسي وهو «الشرفة» الثابتة على الرغم من تغير الإطلالات، فمرة يستخدم الشاعر انتقالاته: «في الشرفة- من الشرفة- شرفتي- حديد الشرفة- شرفة المكتبة- شرفة الحكاية».
يضفي حسن نجمي تمازجا رائقا وتراتبيا من كأس القهوة، الليلة الضحكة... الوردة الخطوة...
للتكوين المعني «كأنهم وضعوا الشرفة هنا» وفي مقابل هذا ينبلج إخراج مؤقت، وهذا ما نراه في:
جئت، لكي لا تموت الشرفة
ولا تموت النطفة
ولنقتسم خضرة الربيع
وحصتنا من قبور المرينيين والأضرحة واللقالق.
(3)أيها النهر،
أدعوك إلى أغنيتي
جنت يدي من فرط التلويح
واتكأت خلف حائط الشرفة لأنام
ولكن فضة الشهداء لمعت في هبة نعاسي
فنهضت كي أراك على فرس الليل
ومواكب الضوء خلفك
فركت نظرتي،
فمنذ وقت لم أعد أثق في يقيني
أيها النهر،
يا ماءك الأعمى،
من أين جئت بهؤلاء كلهم؟
بكل هذا الدم والضوء؟
أيها النهر،
وهذه القمصان الملونة التي ترفرف كحبل غسيل
لماذا أراك تعرضها في الليل بلا جماجم؟
نهر يسترسل في مياهه
ممتلئ بالفجر
من هنا
-أراه يعبر،
كقطار مفضض يصل آخر الليل،
(كنت أريد أقول له شيئا
وكان قد ابتعد)
ألاحظ في هذا المقطع المواءمة بين لغة منفتحة على الحياة اليومية بالمعنى الواقعي والمتداول وتقترب من الغنائية، وما سمي «نثر العالم»، وبين لغة شعرية نخبوية، مما أنتج انصهارًا بين خامية الكلام وبلورة اللغة الواضحة.
لا يغيب عن هذا المقطع النبرة الفلسفية للعنوان، إلا أن الشاعر أراد انكشاف العلاقة التخاطبية، إلا أنني أرى أن التخاطب مزدوج، فعلى الرغم من أن استخدام النداء في منمنمات لكن جزءًا من تركيبة الجملة كان للنهر صوت فيه، وأرى ذلك في:
-ولكن فضة الشهداء لمعت في هبة نعاسي
-وهذه القمصان الملونة التي ترفرف كحبل الغسيل
-كقطار مفضض يصل آخر الليل
كنت أريد أقول له شيئًا:
وكان قد ابتعد.
هذا التنوع بين البساطة والترميز يحتاج إلى قريحة نافذة ثرية تستنطق الموروث لتكوين قراءة ذات إيقاع ثقافي متمهل بتناول لمّاح.
(4)أثناء قراءتي للديوان القصيدة «فكرة النهر» لم تبرح نظرتي أن هناك أبعادًا ثلاثيةً للطريقة لفكرة النهر، «الجمالية-الفلسفة-الجرأة».
تنبع الجمالية في القصيدة من خلال إذكاء «روح الهندسة» وهذا يندرج ضمن مسمى «عبقرية التموين الجمالي للنص» العبقرية في نظري تشمل عدة محاور:
1- اختيار النمط التسلسلي المتناسق بالفكرة والطريقة الذاتية للنص، فلو أردنا أن نستبدل أي مقطع بآخر، فإن النسق سيختل ويستحدث انتقاصًا في جسم النص وهيكلته.
2- اختيار المعجم اللغوي من حيث البلاغة والبساطة، فقد اتسم «فكرة النهر» بالبساطة والعمق الوجداني المشتبك مع التأمل.
3- أعتبر أن الأرضية للفكرة والطريقة كالنباتات الخام، وانتقالها من مسمى نباتات إلى مسمى حديقة؛ هو الفارق، إنني أشبه بعمل الطبيب، فالدواء متوفر في وجوده العلاجي، لكن الفارق هو التشخيص، فإني أرى أن الكلمات والتركيبات للجمل متاحة في تموضعها الطبيعي، ثم تمر بعملية الصقل، والإنضاج اللغوي والتقني وصولا للأبعاد الثلاثية.
4- الشعر إمتاع للذائقة، والذائقة تقر لزوم الإمتاع، وتستلطف زيادته بالمعرفة، سواء العلمية البحتة أو استنكاه ذلك بالتوابل الفنية وغيرها.
5- الجرأة، وهذا الأمر يمكن من خلاله استنطاق الكثير من المحاور الأخرى، فالجرأة في الشعر حجر لمعرفة فكرة وطريقة الشاعر.
أراه يخطو كقافلة تحمل الماء إلى البحر
في الليل،
عندما أذهب لأنام-
لا أعرف ما يفعله النهر،
ما يقلقني-
أنني سأذهب لأنام الآن.
ولست مطمئنا إلى أن النهر سيحرسه الظلام.
حتى قبل أن أستيقظ،
حتى قبل أن أطل من شرفتي-
يصل النهر مبكرا
كأنه خط طباشير-
أتى من نقطة الأبد
جيش ماء يتقدم-
أطل فأرى طلائعه
جيش ماء مهزوم-
هارب إلى مصبه
شجرة خضراء داكنة-
تحجب على من يلاحقه.
أرى النهر هناك.
لا أقول شيئًا
عيني خرساء.
حتى عندما ستبقى لي كلمة واحدة صغيرة
حتى ولو كانت مجرد (آه!)-
سأقولها له، للنهر.
أعتقد أن الشاعر حسن نجمي شغوف بما يكتب، ويكتب نفسه؛ ما أحدث للقارئ الحصيف اتساعا في جماليات حرية الاحتمالات وتنوعها، وهذا الأمر لا يتأتّى إلا لشاعر يكتب دون أن يكون مجسّ شعره مرتبطا برقابة القارئ، فهناك من يقيم شعره بمدى استقبال القارئ لشعره، وهذا أمر يحدث خلالا للفكرة والطريقة لشعره.
أراه يخطو كقافلة تحمل الماء إلى البحر
في الليل.
هل أقام حسن نجمي بهذا التصوير المرئي صراعا بينه وبين النهر أم هو استنساخ مقصود في ملمس فلسفي خاص، وهذا من أراه في تفاعلات الرؤية والحركة:-
أراه-في الليل-أطل- أتى-يتقدم-هارب-تحجب..
إلى اشتباك آخر مقصود بقوله «عيني خرساء».
وما تلك الفواصل والنقاط المتعددة إلا إراحة لذلك التدفق السردي، بالشكل الذي يلملم ويفرش الأرضية المناسبة لكل تدفق. فلولاها ما عرفنا كيف نوثق عرى القصيدة أو نفكها، ناهيك عن اختيار ترتيب وقياسات الطول والعرض لكل تدفق في القصيدة، مما شكل رافدا مؤنسا للقارئ.
إنني أرى أن حسن نجمي حوّل بناء قصيدته من بناء باللبنات إلى مختلط متسارع أشبه بعمل المفراك في القِدر، وهذا يتطلب جهدا في معرفة توقيت البدء حتى النضج، عبر سياق يتشكل بنمو فكري وفلسفي بين المبدع ومستقبل إبداعه.
إني أرى أن تحويل القصيدة إلى كائن حي هو مبتغى الشاعر، وبذلك يعطي دفقة التفاعل الثنائي، من جهة وتجدد غريزة البقاء من جهة أخرى.
فالنهر حاضر على الدوام في زمن الشاعر، بتعدد أعماله وممارسة حياته. ولا يرتبط ذلك بزمن الرؤية الواضحة (النهار)، بل وحين يلفه الليل، وهذا يدعونا إلى تأمل تأثير آخر؛ المكان على الكينونة الإنسانية حتى يكون هناك إبصار تكويني للرمز وآخر للحواس، وإكساب هذا التكوين للنص المائي المتعدد المشارب.
طلعت قديح كاتب فلسطيني من غزة