«رب ضارة نافعة». العمل الإجرامي الجبان الذي قامت به إسرائيل يومي الثلاثاء والأربعاء من الأسبوع الماضي بتفجير أجهزة النداء الآلي «البيجر» فـي لبنان، الذي أدى إلى قتل وجرح الآلاف من اللبنانيين، فتح عيون العالم، ومن المفترض أن يكون قد فتح عيون وعقول العرب على وجه التحديد، على مخاطر الاعتماد المستمر والمبالغ فـيه على استيراد الأجهزة الإلكترونية عموما، وأجهزة الاتصالات على وجه الخصوص من مختلف أنحاء العالم دون فحص أمني صارم، ووضعهم أمام خيار واحد يبدو طويل المدى للحفاظ على الأمن القومي العربي، وهو توطين التكنولوجيا داخل الدول العربية، وتغطية احتياجاتها من الأجهزة الرقمية من الداخل الوطني.
إذا كنا قد تأخرنا كثيرا فـي توطين الصناعات التكنولوجية، واكتفـينا بتوطين صناعات رقائق البطاطس والمشروبات الغازية والمنظفات الصناعية، عندما كانت مواردنا المادية متاحة وكبيرة، فقد حان الوقت للخروج من الصندوق الضيق الذي وضعنا أنفسنا فـيه، واتخاذ خطوات عملية فـي توطين الصناعات الثقيلة، وعلى رأسها صناعة تقنيات الاتصال والأجهزة الإلكترونية التي يستخدمها ملايين الناس، والتي يمكن أن يحولها أعداؤنا فـي لحظات إلى قنابل موقوتة يلقونها علينا عندما يريدون، مثلما حدث فـي لبنان.
حقيقة الأمر أن هجوم أجهزة «البيجر» يجب أن يدفعنا إلى إعادة النظر فـي كل ما نستورده من الخارج، يستوي فـي ذلك الأسلحة والذخائر بجميع أنواعها، وحتى الأطعمة والمشروبات والملبوسات، مرورا بالأجهزة الإلكترونية والأدوية والمعدات الطبية. كل هذه المنتجات التي نستهلكها بشكل يومي ثبت من الجريمة الإسرائيلية فـي لبنان أنه من السهل تفخيخها أو تسميمها لتكون أدوات قتل لمستخدميها، أو الحد من قدراتها حتى لا نستطيع مواجهة أعدائنا بها، ما لم نشدد الرقابة على عمليات فحصها والتأكد من سلامتها.
يحضرني هنا قضية شغلت الرأي العام المصري فـي نهاية أربعينيات القرن الماضي، عندما دخل الجيش المصري على عجل ودون استعداد كامل حرب فلسطين (1948) فـي مواجهة العصابات الصهيونية. القضية عرفت تاريخيا باسم «قضية الأسلحة الفاسدة». وقد فجرها تقرير لديوان المحاسبة صدر فـي أوائل عام 1950 وردت فـيه مخالفات مالية فـي صفقات أسلحة وذخائر للجيش تمت فـي عامي 1948 و1949 وتم استيرادها من خلال لجنة كانت قد شكلت على عجل وأطلق عليها «لجنة» احتياجات الجيش. التقط الكاتب الصحفـي والأديب المعروف إحسان عبد القدوس عندما كان رئيسا لتحرير مجلة «روز اليوسف»، التي كانت تملكها والدته فاطمة اليوسف، التقط التقرير وقام بنشره فـي سلسلة تحقيقات صحفـية، وحول الأمر من خلال النشر، إلى قضية رأي عام، أدت فـي نهاية الأمر ليس إلى محاسبة الفاسدين، ولكن إلى استقالة رئيس ديوان المحاسبة! ومن بعدها انهيار النظام الملكي فـي مصر. صحيح أن القضية كانت تتعلق بممارسات فساد مالي شابت صفقات الأسلحة التي تمت على عجل بسبب الحرب، ولكن الموروث الشعبي، وفـي إطار تبرير الهزيمة، ظل لفترة طويلة أسير ما كتبه إحسان عبد القدوس ويصور الأمر على أن الأسلحة والذخائر نفسها كانت فاسدة وأن المدفع أو القنبلة التي كان يستخدمها الضابط والجندي المصري كانت ترتد إلى صدورهم قبل انطلاقها إلى العدو وقتلتهم بدلاً من قتل العدو.
ربما يبدو الأمر طبيعيا مقبولا ومبررا فـي الشؤون الدفاعية والعسكرية، إذ لا يمكن تصور أن تمنحنا أمريكا أو الدول الغربية التي ترعى الدولة الصهيونية أسلحة يمكن بها مواجهة الترسانة المحدثة دوما من الأسلحة والذخائر التي يقدمونها بأسعار أقل وربما مجانا لإسرائيل عبر جسور جوية وبحرية، أما غير الطبيعي وغير المقبول وغير المبرر فـيتمثل فـي الأجهزة المدنية التي يتم استيرادها دون حدود للاستخدام اليومي من جانب المواطنين، مثل أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية التي قد يتم استخدامها كوسيط تفجير قاتل سواء من خلال التلاعب فـي صناعتها وزرع متفجرات بها داخل المصانع المنتجة لها، أو تعقب سلسلة توريدها والتدخل فـي نقطة معينة فـي هذه السلسلة للتلاعب فـيها وزرع المتفجرات بها، وهذان هما الاحتمالان اللذان يفسران تفجير أجهزة «البيجر» فـي لبنان حتى الآن.
يمكن القول إن تحويل الصهاينة المجرمين لأجهزة النداء الآلي «البيجر» لأدوات قتل جماعي ولحظي فـي لبنان كان هجوما غير مسبوق فـي تاريخ الجاسوسية العالمية سواء من حيث نطاقه أو من حيث عدد الضحايا. وقد يغري نجاح هذا العمل الإجرامي دولا ومنظمات أخرى بتكرار الجريمة الإسرائيلية واستخدام السلاح نفسه أو أسلحة مشابهة، من خلال التلاعب بالإلكترونيات الاستهلاكية خاصة مع تزايد تعقيد تصنيع هذه الأجهزة وتداخل سلاسل التوريد العالمية، التي تضم دولا عديدة، وأعدادا هائلة من الصناعات المغذية والموردين والمقاولين الرئيسيين ومقاولي الباطن. ولعل هذا ما يجعل معرفة من أين جاء جهاز ما بالضبط أمرا صعبا أو مستحيلا.
من المرجح أن يدفع الهجوم الذي شنته إسرائيل بأجهزة «البيجر» أجهزة ووكالات الأمن والمخابرات فـي مختلف أنحاء العالم إلى إعادة تقييم التهديدات المحتملة التي تواجهها. وليس أمامنا- كعرب مستهدفـين من أعداء كثر- لمواجهة هذه التهديدات سوى طريقين لا ثالث لهما، الأول يتمثل فـي اتخاذ إجراءات عاجلة، تشمل زيادة عمليات التفتيش على شحنات الأجهزة والمعدات والسلع الاستهلاكية الداخلة والخارجة من المطارات والموانئ والنقاط الحدودية والنظر فـي أي ثغرات قد تكون قائمة فـي الضوابط الجمركية وإجراءات الإفراج عن الأجهزة والمواد المستوردة، وذلك لحين اكتمال الطريق الثاني والأصعب والأطول وهو طريق توطين الصناعات التكنولوجية، الذي يتطلب تخصيص الموارد الكافـية وجلب الاستثمارات لإقامة مصانع تلبي احتياجات أسواقنا من هذه الصناعات، سعيا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وربما يكفـي هنا أن نذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي تقود الصناعات التقنية الجديدة أصبحت تركز فـي السنوات الأخيرة، وبشكل متزايد على تأمين أنظمة الاتصالات الأمريكية ضد العمليات الاستخباراتية أو الهجمات التي يمكن أن تتعرض لها من الصين. وقد شملت هذه الجهود- وفقا لتقارير منشورة- دعم الإنتاج المحلي لتقنيات أبراج الهاتف النقال والرقائق التي تعمل على تشغيل أنظمة الاتصالات، مع فرض حظر على استيراد معدات الاتصالات الصينية التي تصنعها شركات مثل «هواوي»، وتقييد استخدام الهواتف الذكية من العلامات التجارية الصينية من قبل موظفـي الحكومة. وتسير الدول الأوروبية والصين على الدرب نفسه فـي توطين الصناعات الإلكترونية الحساسة.
لا نريد أن نرى ما حدث فـي لبنان مرة أخرى فـي أية دولة عربية. علينا أن نتعلم الدرس رغم قسوته، وأن ندرك قبل فوات الأوان أن استمرار الاعتماد على الشركات المصنعة فـي الخارج فـي كل شيء من «الإبرة إلى الصاروخ» كما يقال، قد يعرضنا لمخاطر أمنية تهدد استقرار الأنظمة والمجتمعات العربية. لقد أضعنا فـي زمن الوفرة فرصا عديدة لتوطين الصناعات الحيوية التي تجعلنا نأمن شرور أعدائنا الذين قد يمنعون منتجاتهم عنا أو يتلاعبون بها ليقتلونا، والفرصة ما زالت قائمة على الأقل لتأمين الأجيال القادمة من تهديدات الأعداء.
إذا كنا قد تأخرنا كثيرا فـي توطين الصناعات التكنولوجية، واكتفـينا بتوطين صناعات رقائق البطاطس والمشروبات الغازية والمنظفات الصناعية، عندما كانت مواردنا المادية متاحة وكبيرة، فقد حان الوقت للخروج من الصندوق الضيق الذي وضعنا أنفسنا فـيه، واتخاذ خطوات عملية فـي توطين الصناعات الثقيلة، وعلى رأسها صناعة تقنيات الاتصال والأجهزة الإلكترونية التي يستخدمها ملايين الناس، والتي يمكن أن يحولها أعداؤنا فـي لحظات إلى قنابل موقوتة يلقونها علينا عندما يريدون، مثلما حدث فـي لبنان.
حقيقة الأمر أن هجوم أجهزة «البيجر» يجب أن يدفعنا إلى إعادة النظر فـي كل ما نستورده من الخارج، يستوي فـي ذلك الأسلحة والذخائر بجميع أنواعها، وحتى الأطعمة والمشروبات والملبوسات، مرورا بالأجهزة الإلكترونية والأدوية والمعدات الطبية. كل هذه المنتجات التي نستهلكها بشكل يومي ثبت من الجريمة الإسرائيلية فـي لبنان أنه من السهل تفخيخها أو تسميمها لتكون أدوات قتل لمستخدميها، أو الحد من قدراتها حتى لا نستطيع مواجهة أعدائنا بها، ما لم نشدد الرقابة على عمليات فحصها والتأكد من سلامتها.
يحضرني هنا قضية شغلت الرأي العام المصري فـي نهاية أربعينيات القرن الماضي، عندما دخل الجيش المصري على عجل ودون استعداد كامل حرب فلسطين (1948) فـي مواجهة العصابات الصهيونية. القضية عرفت تاريخيا باسم «قضية الأسلحة الفاسدة». وقد فجرها تقرير لديوان المحاسبة صدر فـي أوائل عام 1950 وردت فـيه مخالفات مالية فـي صفقات أسلحة وذخائر للجيش تمت فـي عامي 1948 و1949 وتم استيرادها من خلال لجنة كانت قد شكلت على عجل وأطلق عليها «لجنة» احتياجات الجيش. التقط الكاتب الصحفـي والأديب المعروف إحسان عبد القدوس عندما كان رئيسا لتحرير مجلة «روز اليوسف»، التي كانت تملكها والدته فاطمة اليوسف، التقط التقرير وقام بنشره فـي سلسلة تحقيقات صحفـية، وحول الأمر من خلال النشر، إلى قضية رأي عام، أدت فـي نهاية الأمر ليس إلى محاسبة الفاسدين، ولكن إلى استقالة رئيس ديوان المحاسبة! ومن بعدها انهيار النظام الملكي فـي مصر. صحيح أن القضية كانت تتعلق بممارسات فساد مالي شابت صفقات الأسلحة التي تمت على عجل بسبب الحرب، ولكن الموروث الشعبي، وفـي إطار تبرير الهزيمة، ظل لفترة طويلة أسير ما كتبه إحسان عبد القدوس ويصور الأمر على أن الأسلحة والذخائر نفسها كانت فاسدة وأن المدفع أو القنبلة التي كان يستخدمها الضابط والجندي المصري كانت ترتد إلى صدورهم قبل انطلاقها إلى العدو وقتلتهم بدلاً من قتل العدو.
ربما يبدو الأمر طبيعيا مقبولا ومبررا فـي الشؤون الدفاعية والعسكرية، إذ لا يمكن تصور أن تمنحنا أمريكا أو الدول الغربية التي ترعى الدولة الصهيونية أسلحة يمكن بها مواجهة الترسانة المحدثة دوما من الأسلحة والذخائر التي يقدمونها بأسعار أقل وربما مجانا لإسرائيل عبر جسور جوية وبحرية، أما غير الطبيعي وغير المقبول وغير المبرر فـيتمثل فـي الأجهزة المدنية التي يتم استيرادها دون حدود للاستخدام اليومي من جانب المواطنين، مثل أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية التي قد يتم استخدامها كوسيط تفجير قاتل سواء من خلال التلاعب فـي صناعتها وزرع متفجرات بها داخل المصانع المنتجة لها، أو تعقب سلسلة توريدها والتدخل فـي نقطة معينة فـي هذه السلسلة للتلاعب فـيها وزرع المتفجرات بها، وهذان هما الاحتمالان اللذان يفسران تفجير أجهزة «البيجر» فـي لبنان حتى الآن.
يمكن القول إن تحويل الصهاينة المجرمين لأجهزة النداء الآلي «البيجر» لأدوات قتل جماعي ولحظي فـي لبنان كان هجوما غير مسبوق فـي تاريخ الجاسوسية العالمية سواء من حيث نطاقه أو من حيث عدد الضحايا. وقد يغري نجاح هذا العمل الإجرامي دولا ومنظمات أخرى بتكرار الجريمة الإسرائيلية واستخدام السلاح نفسه أو أسلحة مشابهة، من خلال التلاعب بالإلكترونيات الاستهلاكية خاصة مع تزايد تعقيد تصنيع هذه الأجهزة وتداخل سلاسل التوريد العالمية، التي تضم دولا عديدة، وأعدادا هائلة من الصناعات المغذية والموردين والمقاولين الرئيسيين ومقاولي الباطن. ولعل هذا ما يجعل معرفة من أين جاء جهاز ما بالضبط أمرا صعبا أو مستحيلا.
من المرجح أن يدفع الهجوم الذي شنته إسرائيل بأجهزة «البيجر» أجهزة ووكالات الأمن والمخابرات فـي مختلف أنحاء العالم إلى إعادة تقييم التهديدات المحتملة التي تواجهها. وليس أمامنا- كعرب مستهدفـين من أعداء كثر- لمواجهة هذه التهديدات سوى طريقين لا ثالث لهما، الأول يتمثل فـي اتخاذ إجراءات عاجلة، تشمل زيادة عمليات التفتيش على شحنات الأجهزة والمعدات والسلع الاستهلاكية الداخلة والخارجة من المطارات والموانئ والنقاط الحدودية والنظر فـي أي ثغرات قد تكون قائمة فـي الضوابط الجمركية وإجراءات الإفراج عن الأجهزة والمواد المستوردة، وذلك لحين اكتمال الطريق الثاني والأصعب والأطول وهو طريق توطين الصناعات التكنولوجية، الذي يتطلب تخصيص الموارد الكافـية وجلب الاستثمارات لإقامة مصانع تلبي احتياجات أسواقنا من هذه الصناعات، سعيا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وربما يكفـي هنا أن نذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي تقود الصناعات التقنية الجديدة أصبحت تركز فـي السنوات الأخيرة، وبشكل متزايد على تأمين أنظمة الاتصالات الأمريكية ضد العمليات الاستخباراتية أو الهجمات التي يمكن أن تتعرض لها من الصين. وقد شملت هذه الجهود- وفقا لتقارير منشورة- دعم الإنتاج المحلي لتقنيات أبراج الهاتف النقال والرقائق التي تعمل على تشغيل أنظمة الاتصالات، مع فرض حظر على استيراد معدات الاتصالات الصينية التي تصنعها شركات مثل «هواوي»، وتقييد استخدام الهواتف الذكية من العلامات التجارية الصينية من قبل موظفـي الحكومة. وتسير الدول الأوروبية والصين على الدرب نفسه فـي توطين الصناعات الإلكترونية الحساسة.
لا نريد أن نرى ما حدث فـي لبنان مرة أخرى فـي أية دولة عربية. علينا أن نتعلم الدرس رغم قسوته، وأن ندرك قبل فوات الأوان أن استمرار الاعتماد على الشركات المصنعة فـي الخارج فـي كل شيء من «الإبرة إلى الصاروخ» كما يقال، قد يعرضنا لمخاطر أمنية تهدد استقرار الأنظمة والمجتمعات العربية. لقد أضعنا فـي زمن الوفرة فرصا عديدة لتوطين الصناعات الحيوية التي تجعلنا نأمن شرور أعدائنا الذين قد يمنعون منتجاتهم عنا أو يتلاعبون بها ليقتلونا، والفرصة ما زالت قائمة على الأقل لتأمين الأجيال القادمة من تهديدات الأعداء.