ربما لم يكن لجيلي الحظ نفسه، من التطلع إلى بيروت، لم نعرف منها غير حياتها الليلية التي نسمع عنها، وفنانيها الذين تعلقنا بهم منذ طفولتنا المبكرة، الغالبية منا حفظوا أغنية لبنانية قبل أن يعرفوا ما هي الموسيقى. مع مرور الوقت تتجلى بيروت فـي وجدان كل منا، وتُشرق حتى وهي مكلومة.

أتذكر المرات التي هرعتُ فـيها لأقرأ عن الحداثة فـي الشعر العربي، والمغامرات التي خاضها الشعراء من أجلها. تبدأ القصة دومًا من بيروت، فـي الخمسينيات والستينيات، ومجلة «شعر»، وبيروت كملاذ للأدباء من كل مكان فـي العالم العربي، حتى أن نجيب محفوظ كان ينشر أشهر رواياته فـي دار الآداب فـي بيروت، مثل «أولاد حارتنا». يظهرُ محمود درويش فـي بيروت، ويكتب عنها، ونزار قباني يكتب عن بيروت أيضًا، وسركون بولص يمر عبرها، وسعدي يوسف يقضي فـيها فترات طويلة، إحداها فترة الحرب الأهلية بداية الثمانينيات، حيث كتب أجمل قصائده بالنسبة لي، مثل «ثمل والموعد». بيروت دومًا وبيروت للأبد.

كتبت نوف السعيدي فـي مجموعتها القصصية الأولى «حكايات الفراغ والضجر»، التي حصلت على جائزة الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء عام 2016، عن رحلتنا الأولى إلى بيروت فـي العام نفسه، عندما كان علينا أن نقتصد كثيرًا من أجل رحلة نحلم بها، إذ لم نكن نملك المال، كنا نريد حصتنا من بيروت فهي حقنا جميعًا؛ لكن تلك الرحلة مزقتنا، مزقنا حال المدينة التي شُغلنا بها، ومع ذلك بيروت تحتفظ بسحرها الأخَّاذ مهما كانت الظروف.

يكتب الكاتب اللبناني هلال شومان فـي رواياته -التي قرأتها كلها- مثل، «ليمبو بيروت» و«كان غدًا»، عن هذه النظرة الرومانسية المبالغ بها لبيروت، عن السطح الذي نشاهده من المدينة، بينما يغلي كل ما فـيها تحت هذا السطح. «نستطيع نحن الزائرات لبيروت أن نتغنى بها كما لو أنها دمية، جماد، أو صورة ذهنية فحسب، لكن هل يمكننا فعل العكس؟

تعلقتُ بالأدب اللبناني أكثر من غيره من آداب العالم العربي، يحدث هذا عادة مع الأدب المصري، لكن فـي حالتي اكتشفت الأدب المصري متأخرا، قرأتُ العديد من الكتب من هناك، وأغرمت برواية جبور الدويهي «شريد المنازل»، حيث كان لاسم صبي القدرة على أن يتسبب فـي مقتله؛ الشاب المسلم الذي نشأ مع عائلة مسيحية، مع أي طرف عليه أن يقاتل فـي وقت الحرب؟ قرأت «أحلم يا سيدي» لهدى بركات، واختبرت الحُب فـيها مثل إبر تسحبها على طول الجلد، تخزك وتحدثك عن السحر فـي الحُب الذي تعرفه ولا تتحدث عنه. قرأت يوسف حبش الأشقر، الذي لا أستطيع بعد الحديث عنه. أما إلياس خوري، فقد تبعته كالمريدة منذ قرأت له روايته «الوجوه البيضاء»، التي أتذكر منها الآن عمال النظافة الذين يعرفون المدينة أكثر من أي أحد آخر.

كان لي علاقة أخرى ستتشكل مع مرور الوقت ببيروت، فالمرة الثالثة التي زرتها كانت فـي سبتمبر 2023، كنتُ قد قرأتُ الكثير من الأعمال لربيع جابر ورينيه الحايك، قرأت لربيع ثلاثيته «بيروت مدينة العالم»، التي سحرتني بتعددية هذه المدينة منذ التاريخ، وحكايات اللجوء إليها، وفرص أن تتغير فـيها حياة الهاربين والذين لم يكن لهم ملاذٌ آمن آخر، تعرفت على طوائفها وحروبها التي خاضتها، وعن كل الذين احتلوها واستعمروها، وعما كابدوه فـي مدينة محاربة منذ الأزل، كما قرأت له رواية «رالف رزق الله فـي المرأة»، الكاتب الذي انتحر من على صخرة فـي ساحل بيروت. كانت رزان عز الدين وليلى السيد حسن، وهما كاتبتان فـي عمري نفسه من لبنان وزميلتان لي فـي ورشة كتابة، قد عزمتا على تعريفـي بالمدينة، حتى وإن اضطرتا لأخذي إلى أطلالها، حيث ينام المتسولون الآن، كنا قد عبرنا بجانب صخرة الروشة عندما قالتا لي: «أمل، هل قرأتِ رالف فـي المرآة لربيع جابر؟ من هنا انتحر!»، بيروت تضع نقاط ارتكازها بآدابها وفنونها مجددًا، كنتُ محظوظة لأنني قرأتُ الرواية فعلًا، قلتُ لاهثة: «نعم، فعلت! ما الذي حدث بالضبط؟».

عبرنا معًا إلى مقاهٍ قديمة فـي المدينة، قالتا لي: «هنا كان يجتمع الشيوعيون، وما زال هذا المكان يحمل كل تلك النستالجيا». قلتُ لهما: «عليّ أن أكتب عن بيروت، هل تعرفا أن كاتبًا مصريًا معاصرًا كتب عن رحلته إلى هنا كتابًا بعنوان بيروت شي محل؟ وهو مصري يدعى يوسف رخا». قلت لهما: «أعرف مجلة رحلة وقرأت معظم أعدادها». كانت ليلى، التي تعمل فـيها، مندهشة، «كيف تعرفـين كل هذا عن بيروت وعن أدبنا ومجلاتنا بينما نكاد لا نعرف الكثير عن بلدك؟»، حان دوري حينها لأتحدث عن عُمان التي أهوى، وعن الطريقة المثالية لمعرفتها.

فـي هذه الرحلة عشتُ أجمل اللحظات، تسكعت فـي بيروت، وعندما دخلتُ إلى مكتبة برزخ، فوجئتُ بكتب قديمة يصعب الحصول عليها. افترشتُ الأرض بجانب قسم الشعر، فقال لي موظف المكتبة: «هل تحبين الشعر لهذه الدرجة؟ من تفضلين؟» وعندما تحدثنا عن تفضيلاتي قال لي: «تستحقين الدخول إلى المخزن إذًا»، أدخلني إلى تلك الغرفة المغبرة وغير المرتبة، لكنها كانت الغرفة الأجمل على الإطلاق، وقال لي: إن كثيرًا من النسخ هنا لا يمكن إخراجها من المكتبة لأنها النسخ الوحيدة التي بقيت من هذه الكتب. لكن إن كانت هناك نسخة إضافـية من أي كتاب أرغب فـيه، يمكنني الحصول عليه.

وعندما عرف أنني من عُمان، التقط أحد الجالسين فـي المقهى التابع للمكتبة الكلمة وهرع إليّ قائلًا إنه من عُمان أيضًا، كان يتحدث بلهجة لبنانية ممزوجة بالعُمانية، رجل كبير فـي السن يلوذ ببيروت منذ عقود واتخذها مدينة تخصه.

حضرتُ فـي هذه الرحلة حفلًا فـي مترو المدينة، قبو صغير يلتقي فـيه الشباب، كان «الفرعي»، الرابر الأردني الفلسطيني، يغني فـي ذلك المساء، وكلما التفتُ وجدتُ شخصًا يعمل فـي مجلة «ميجافون»، أو الفتاة التي تدون منذ سنوات عن النسوية التقاطعية، كنتُ لا أفوت الخروج إلى سلالم القبو، وهي مكان التدخين رغم أنني لا أدخن، لأسمع الناس هناك وأتعرف عليهم أكثر. بيروت، مار مخايل، والحمراء، والجميزة، والروشة، بيروت الغنية جدًا رغم جراحها.

لكنني لم أحدثكم عن المرة الثانية التي زرتُ فيها لبنان، عام 2018 أي بعد عامين على زيارتي الأولى. حضرتُ حفلاً لالياس الرحباني في بيت الدين بالجبل، الكثير من الشابات يرتدين "تي شيرت" أغنيته الأشهر "بلا ولا شي"، جمهور عريض يحفظ كل أغانيه، وهو يتقدم إلينا منحياً ظهره، متقدماً في العمر، ويجلس على البيانو ويتمايل مع نقره عليه. في هذه الرحلة تعرفتُ على سائق سيارة أجرة يدعى رضا، كان يعمل في البصرة العراقية، وعاد قبل عامين، أحب العراقيين كثيراً، لكنه عاد ليتزوج وأنجب ابنة يتحدث عنها طيلة الوقت. رضا يحلف برأسين فقط، السيد أمين حزب الله، وملحم بركات. يحدث هذا في بيروت أيضاً. لا يتحدث رضا عن الكيان المحتل والاستعداد للحرب ضده إلا وصوته يعلو. الأمر بالنسبة له محسوم، ونبدأ بالجدال أنا وهو عما يحدث في سوريا. أخذني رضا إلى الجنوب، شاهدت متحفاً لحرب 2006 وأكلت سمكاً وحدثني عن شهداء عائلته وطلب مني أن لا أنساه. بيروت التي صورها مارون بغدادي في أفلامه البديعة مثل فيلم "بيروت يا بيروت" عام 1975، هذه نفسها التي سينفجر ميناؤها ببشاعة دون أن يُحاسب أحد، وسُيغتال فيها المسؤولون، ستغلق المصارف في وجه من أودعوا فيها المال، ستثور وتقمع ثورتها، بيروت التي أغلقت أشهر مطاعمها وفنادقها بجانب الروشة، الأمر الذي لم يُتخيل قط، بيروت العملة التي تكادُ لا تساوي شيئاً، بيروت التي سيحتقن أهلها ضد اللاجئين السوريين كما يحدث في وقت الأزمات في أي مكان من هذا العالم، بيروت هذه تدخل كابوس إسرائيل مجدداً. فما الذي سنفعله؟ على سلالم الجامعة الأمريكية في بيروت، كبر مناضلون سيتوزعون في العالم العربي ليخوضوا معاركه. بينما بيروت تخوض معركتها لوحدها دوماً.