خَـرَجَ بـلال الحسـن عن مألوفٍ عائـلي في مشايـعـة حـركة «فـتـح» والاصـطفـافِ تحت سـقيـفـتها؛ وهو تـقـليدٌ كان قـد دشنه أبو السعيد (خالد الحسن) وتَـقَـفـاهُ فـيه أخـواهُ اللذان تَـلَـوَاهُ عُـمُـرًا وانـتـسابـًا إلى الحركـة (علي وهاني) والتـزامًا بما شرَعه كـبيـرُ العائـلة الذي له في العمل الفتحاوي القُـدْمـةُ والسابقـةُ وطولُ الباع، بحسبانـه واحدًا من أَظْـهَـر رجالات الرعيـل الأول المؤسسـيـن. اختار بلال الحسن أن يرى نفسه سابحًا في فـلكٍ سياسي آخـر، فكان أن وجـدهُ في مساحةٍ بَـرْزَخـيـة بين فـلسطيـنَ ووطنها العربي الأكـبر اجترحتْها حركةٌ سياسيـةٌ فلسطينيـةٌ- عربيـة مسكونـةٌ بفكرة الوحدة القـوميـة العربيـة هي «حركة القـوميـيـن العرب»، التي تـلـقَـن مؤسِـسُها جورج حبـش ورفاقُـه (وديع حـداد، أحمد الخطيـب، حامـد الجبـوري، هاني الهندي...) تعاليـمَها (= الفـكرة) من المرجع الكبيـر قسطنطيـن زريق خلال دروسه في الجامعة الأمريكـيـة في بيروت. من حينها؛ من لحظـةٍ تـقع في منتصـف خمسـيـنـيـات القرن الماضي أيـام انضـمام بلال إلى الحركـة يافـعًا، اقـتـرنـتْ عنـده فـلسطيـنُ بالعـروبة اقـتـرانَ تـمـاهٍ مطلق، وصار الاقـتـرانُ معـتـقـدًا سياسيـًا لـديـه ما حـاد عنـه، يـومـًا، قِـيـدَ أَنْـمُـلـة حتى حـينما جنـحـتْ بـه ريـاحُ السياسـة نحو ضـفاف اليسـار.
ابـتـعـد بـلال الحسـن عـن «فـتـح» ولم يـبـتـعـد؛ أخـذ منها المسافـة الضروريـة لحيازةِ موطـئِ قـدمٍ نـقـدي ممـا يحتاج إلى نـقـدٍ في سيـرتها وفي سيـرة الحركة الوطنـيـة الفلسـطيـنيـة رُمـةً. تَـعَـلَـم كيف يـمْـتَح مـن منـاهـلَ مختـلـفـة؛ تَـشَـرَبَ الفكـرة الوطـنيـة من مـعـلِـمـه الأول (خـالـد الحسن)، ثـم مـن «حركـة القـومـيـيـن العـرب» و«حركـة التـحريـر الفلسطيـني» («فـتـح»)؛ وتَـشَـرَب المبـدئـيـةَ الثـوريـة مـن «الجبـهـة الشـعبـيـة»، التي انضـم إليـها بـعـد انـفـراط عـقـد «حركـة القـوميـيـن العـرب»، والواقـعيـةَ السـياسيـة مـن «الجبهـة الديـمـقـراطيـة» التي صار إليها بعد انشـقـاق العام 1969 الذي وُلِـدتْ من أحشائـه، وقـد اتـفَـقَ أن خـطتِ «الجـبهـةُ الديـمـقـراطيـة» خـطـوةً أطْـول نـحـو ترسيـخ المـزيـد مـن الواقـعيـة السياسيـة في العـمـل الوطـنـي، حيـن إنـضاجـها مشـروع الحـل المرحـلي، الذي عُـرِف - في حيـنـه - باسـم «برنامج النـقاط العشر» (= وهـو عيـنُـه الذي ستـتـبـنـاهُ منظـمة التـحرير في مجلسـها الوطـني للعـام 1974 ليصبح سياسـةً رسـميـة)، في اللـحظة عـيـنِـها التي كـان فـيها خـالـد الحسـن وصـلاح خـلف (أبـو إيـاد) وآخـرون من قـادة «فـتـح» يحاولـون، كـلٌ بما ملك، الإفصـاحَ عـن أفـكارٍ عـمليـة نظيـر تلك التي كـانت «الديـمـقراطيـة» شـارعـةً في التـنـظيـر لها. ولمـا كـان الفـقـيد بـلال عضـوًا في اللـجـنـة التـنـفـيذيـة لمـنـظـمـة التـحرير الفلسطيـنـيـة - ممـثِـلًا لِـ «الجبـهـة الديـمـقـراطيـة» - في تلك السـنـوات الأولى من السـبعـيـنـيـات، كان عـبءُ التـعـبـيـر عن تـلك الخيارات السياسيـة الجديدة يـقـع عليه.
هـكـذا وجَـدَ نـفـسه يـلـتـقي بـ «فـتـح»، مـرةً أخـرى، في بـرنامج العـمـل السياسي الذي بـات عليه، منـذ أحداث أيـلول في الأردن (1970) ونتـائـج حـرب أكـتـوبر (1973)، أن يـرسم أولويـاتـه وخريطـةَ عـمله بـدقـة. لم يكـتـشـف بـلال فـقـط حاجـةَ المشـروع الوطـني وبرنامجِه المرحلـي إلى حامـلٍ سياسـي وازن بحجـم «فـتـح»، بـلِ اكـتـشـف أيضـًا أنها تـتـنـزل من الحركـة الوطـنيـة الفلسطيـنيـة منـزلـةَ العمـود الفِـقْـري مـن هيـكـلها. مع ذلك، لـم ينـضـم إلى «فـتـح» حين اختـار أن يـغادر صفـوف «الجبهـة الديـمـقـراطيـة» ويـتـفـرغ للعـمـل الصِـحـفي كرئـيس تحـريـرٍ لجـريـدة «السـفيـر» حين تأسيسها، بـل أصـر على استـقـلال المـوقـع الذي منـه يـتـحرك عـن أي فـصـيـلٍ فـلسطيـني متـمـسـكًا، فـقـط، بالأطـر الوطـنـيـة الجامعـة (مؤسـسات مـنـظـمـة التـحريـر الفـكريـة والإعلاميـة، المجلس الوطـنـي)، محمـولًا على صهـوة إيـمانٍ عميـق بأن دورَه - انـطـلاقـًا مـن هـذا المـوقع المستـقـل - سيكـون أجزلَ فاعـليـةً وتـأثيـرًا؛ لأنـه - ببـساطـة - دورٌ وطـني لا فصائلـي، يـلـتـفـت إلى الجامع المشتَـرَك ويُـعْـرِض عـمـا عـداه.
صانـتْ عـلاقـتُـه بيـاسر عرفات علاقـتَـه بـ «فـتـح» مـن الانـحلال في منـاسـبـاتٍ عـدة من سـياسـاتٍ مهـزولـة أَتَـتْـها الحركـة قبـل «أوسلـو» وبـعـد «أوسلـو» وخلـفـتْ فـي النـفـوس خيـبـةً ويـآسَـةً؛ فـلـقـد كـان أبو عمـار ضـمـانـتَـه الوحيـدة في تـنـظيـم التـوازن بيـن العـرْض والطـلـب السـياسـيـيْـن، بيـن مطـلوب الثـورة والمطلـوب منـها، بيـن مـا عليها أن تـدفع ومـا لَـها أن تـطـلُب. كـان عـنـده في مـقام التـرمومتر الذي يقـيـس بـه درجة الصـحـة والتـماسُك في المـوقـف الوطـني. لذلك أصابَ بـلال، دائـمـاً، الحـظ الكافي من النُـجْـح في تحيـيـد شخص ياسـر عـرفـات وحُـرمـةِ مَـقامـه كـلما وجـد نفـسَـه مـدفوعـًا إلى نـقـد سياسات «فـتـح» ومنظـمـة التـحرير الخاطئـة وتـنازلاتـهـما عـن بـرنامج الإجمـاع الوطـني، فلـم ينـزلـق - شأن كـثيـرٍ من المعارضيـن - إلى عـنـفٍ لـفظـي تَـرْذُل بـه عبـارات النـقـد أو يَطْـفـح منه ما تُـشْـتَـمُ فيـه رائحـةُ شتيمـةٍ في قـائـد الشـعـب والثـورة. وقد عَـرَف لـه أبـو عمـار ذلك ولم يَـنْـسَـه لـرجـلٍ اعتـاد منـه الوفـاء للثـورة ورجالاتها ورموزهـا.
*
انتـبـه بـلال الحسـن، منـذ وقـتٍ مبكـر، إلى سلطـة الرأي والفكـرة والقلـم في حيـاة الثـورة الفلـسطيـنـيـة في وقـتٍ كـانت تحظـى فيـه البـنـدقـيـةُ والرصـاصـةُ بأعلى مكـانـةٍ اعـتـبـاريـة في منـظومـة قيـمِ تلك الثـورة في لحـظـة انـدفـاعـتـها الكبرى بيـن العاميـن 1965 و1973. كـان، قبـل انـطلاقـة الثـورة المسلحـة (1965)، قـد خَـبُـرَ هـذا الاعـتـقـاد ودَرَجَ علـيـه - بالدُرْبـة والمِـراس - حيـن الْتـحـق بالصِحـافـة والدوريـات القـوميـة وعَـمِـل فـيها. هنـاك تَـلقـى التأهيـل الضروري لمـباشَـرةِ أداءِ الدور الذي كـانت تـعـتازُه الثـورةُ الوليـدة: دور اللـسان النـاطـق الذي بـه يفـشو صيـتُ الثـورة في المجتـمـع الفلسطـيـني، المقيـمِ في الوطـن واللاجـئِ في الجـوار العربي والشـتات العالمي؛ ولكـنـه - أيـضًا - اللسـانُ الذي يقـول ما يـنـبغي أن يَـنْـقـال إنْ حَصَـل وأخطـأتِ السياسـةُ سبيلها إلى الغايات المهـدوفِ إليها.
ولـقد نَهـض بأداء الدوريْـن مـعًـا، أحسـن الأداء، مـوطِـنًا النـفـسَ على أنهـما دوران متـكامـلان يصطحـبُ الواحـدُ منـهما الثـاني اصطـحـابَ تَـلازُمٍ وتَـمـاهٍ، وأن رسـالةَ صاحـب القـلم ليست تكـمَـن في تـنـزُلـه من محيـطِـه منـزلـةَ لسـان قـبـيلـتِـه يَـذِبُ عنـها ويَـدْفَـع، في سـرائها والضـراء، في ظُـلامتِـها وظالمـيـتـها، بـل هي تَـكْـمَـن - على التحـقيـق - في إصـداقِـها القـول في مـا يكـونُ بـه صـلاحُ أمْـرهـا، حتى وإنْ عـرَضَه ذلك للملامَـة أو لِحـيْـفِ حـائـفٍ عليـه. وما أكـثـر ما وقَـعَـتْ أفـعـالُ الملامَـة على الراحـل الكبـير بـلال مـن زيـدٍ وعـمرو، من ذوي القـرابـة السياسيـة والوطـنيـة، مـن وراء ما جَـهَـر بـه على سـبيـلِ الجَـراءَة فَـعُـدَ نَـهْـكًـا للـدارج والمألوف لا يـجـوز؛ لكـنـه تَـلَـقَـى خشونـةَ مَـن أَخْـشَـن عليه اللـومَ بالاصـطـبـار والتـرفُع فـما بَـنَى عليها ما تـقـتضيـه مـن رد فـعْـل.
امـتـشـق الرجـلُ النـقـدَ سـلاحـًا منـذ البـواكيـر، وسـرعـان ما اتسـع نطـاقُ رِحـاب ذلك النـقـد باتـساع مساحـة حـريـتِـه واسـتـقـلالـيـتِـه بعـد إِذِ انـتـزعـهـما مـن الأطـر التـنـظيـميـة التي نَـشِـط فيـها وتحـرَك تـفكـيرُهُ تحـت سـقـف ثـوابـتـها شطـرًا من الزمـن. حيـنـها، صار وازِعُ النـقـد الوطـنَ والثـورةَ بإطـلاق، لا جـهـة فصائـلـيـة بـعيـنـهـا تـفـرض الأحكـامَ والأَخـتـام والتـخـوم. وما مـن شيءٍ يـبـعث على الاستـغـراب، حيـنـها، إذْ يصيـر الوازعُ الوطـنيُ هـذا واعِـزًا داخـليـًا يُـوعِـزُ إلى الفـكر- بقـوة الآمِـرِيـة الذاتـيـة - بأن يختار هذا أو ذاك من السُـبـل؛ إذْ تَـستَـبـطِـن فـرديـةُ المرء، في مثـل هـذه الحـال، الضميـرَ الجمـعـيَ وتـنـتـحلُـه لـنفـسها من غيـرِ خشيـةِ قـيْـدٍ على ذلك من جمـاعـةٍ أو فـئـةٍ أو مؤسـسـة، سالكـةً ما وطـنَـتْ نـفسَـها على السـير فيـه طلـبًا للبُـغْـيـة وبَـرًا منـها بنـداء الواجـب الذي إليـه مـرجـعُـها.
فـرض بـلال الحسـن نفـسَـه مدرسـةً في الصِـحافـة والكـتابـة في الاجتـماع الفـلسطيـني. معـه، وبيـن أصابـعـه بـات للنـقـد معـنًـى آخـر ومـذاقٌ مختـلف. كـان دارجـًا، ولـفـتـرة مـمـتـدة بيـن السـتيـنـيـات والتـسـعيـنـيـات (هي الحـقـبة الذهـبـيـة للكـتابـة عـنـد بـلال الحسـن)، أن تـتـحـرك الكـتابـةُ الصـحـفـيـة العربيـة بيـن حـديْـن متـقابـليْـن (وإنْ كـانـا متـنـاظـريْـن في المضمـون): بيـن المشايَـعَـة والتلـميـع وتدبيـج المـدائـح زُلفـى لشخـصٍ أو مـؤسـسـةٍ أو تـنـويـهـًا بمـوقـفٍ أو سياسـة، من جهـة، والنـقـدِ المُـسِـف الذي يـتـوسـل أسـلوب السجـال اللـفـظي المنـصـرف إلى الاغـتـيـال المـعـنـوي للخصـم من جهـة أخرى. أَعـرضَ بـلال عـن ركـوب هـذيْـن المَـرْكـبيْـن فـكان لا يـمْـدح إلا نضـال شعـبـه وثـورتـه الوطنـيـة، وكـان لا يـنـتـقـد ابتـغـاءَ التـشنـيع أو التـجريـح، بـل مـن أجـل الانـتصـار للمـوقـف السـليم. ولـقـد كـان الغـالـبُ على مطالـعـاتـه النـقـديـة أن تـقـدِم نفـسَـها في صـورة نصـوصٍ مُضَـرَجـة بجميـلِ العـبـارة ورصيـنِ الأفـكـار مـيـزتْـهُ عـن غـيـره مـمـن كـانوا يـأتـون قضايا السـياسـة بالنـقـد مـن غيـر عُـدة.
لا يَـعْـزُب عـن ذهـن أحـدٍ من القارئيـن في تحـولات الصِـحافـة العربـيـة، في السـتـين عـامًا الأخيـرة، مـا كـان لنـموذج الكتـابـة الصِـحفـيـة عـنـد محمـد حسنـيـن هيـكـل من بـالغ الأثـر على أسلـوب الكـتـابـة عـند بـلال؛ فـلـقـد سار الثـاني على مِـطْمـار الأول حتى بـات رديـفـًا لـه في الفعـل والسَـمْـت. يـرُدُ ذلك إلى شَـبَـهٍ بـيـنهـما على أكـثـر من صـعيـد: كِـلاهـما مـلتـزمٌ قـضيـةً لا يـحيـد عـنـها (= التـحرُر)؛ وكِـلاهما يـستـنـد إلى ثـقـافـةٍ واسـعـة ارْتَـفَـدَتْ بـها الصِحـافة وزادت مـعيـنًا؛ ثـم كـلاهـما كـان قـريـبًا من صـانـع القـرار (عبد الناصـر، ياسـر عرفـات) و بالتـالي، مـن معـرفة المـوقـف في مظـانِـه؛ وأخيـرًا كـلاهُـما هـذَب الكـتابـة الصِـحَـفـيـة وهَـوَى لـغـتَـها تـهـويـةً نـظـفـت داخـلَـها المـلـوَث مـن طـريـق تـوطـيـن لغـة الأدب فيها. هـكـذا كـنـت لا تـقـرأ في مقـالاتـهـما نصوصًا سياسيـة جـافـة على منـوال غيـرها، بـل تـقـرأ قِـطَـعـًا بـديـعـة من الأدب السـياسي الرفـيع.
ابـتـعـد بـلال الحسـن عـن «فـتـح» ولم يـبـتـعـد؛ أخـذ منها المسافـة الضروريـة لحيازةِ موطـئِ قـدمٍ نـقـدي ممـا يحتاج إلى نـقـدٍ في سيـرتها وفي سيـرة الحركة الوطنـيـة الفلسـطيـنيـة رُمـةً. تَـعَـلَـم كيف يـمْـتَح مـن منـاهـلَ مختـلـفـة؛ تَـشَـرَبَ الفكـرة الوطـنيـة من مـعـلِـمـه الأول (خـالـد الحسن)، ثـم مـن «حركـة القـومـيـيـن العـرب» و«حركـة التـحريـر الفلسطيـني» («فـتـح»)؛ وتَـشَـرَب المبـدئـيـةَ الثـوريـة مـن «الجبـهـة الشـعبـيـة»، التي انضـم إليـها بـعـد انـفـراط عـقـد «حركـة القـوميـيـن العـرب»، والواقـعيـةَ السـياسيـة مـن «الجبهـة الديـمـقـراطيـة» التي صار إليها بعد انشـقـاق العام 1969 الذي وُلِـدتْ من أحشائـه، وقـد اتـفَـقَ أن خـطتِ «الجـبهـةُ الديـمـقـراطيـة» خـطـوةً أطْـول نـحـو ترسيـخ المـزيـد مـن الواقـعيـة السياسيـة في العـمـل الوطـنـي، حيـن إنـضاجـها مشـروع الحـل المرحـلي، الذي عُـرِف - في حيـنـه - باسـم «برنامج النـقاط العشر» (= وهـو عيـنُـه الذي ستـتـبـنـاهُ منظـمة التـحرير في مجلسـها الوطـني للعـام 1974 ليصبح سياسـةً رسـميـة)، في اللـحظة عـيـنِـها التي كـان فـيها خـالـد الحسـن وصـلاح خـلف (أبـو إيـاد) وآخـرون من قـادة «فـتـح» يحاولـون، كـلٌ بما ملك، الإفصـاحَ عـن أفـكارٍ عـمليـة نظيـر تلك التي كـانت «الديـمـقراطيـة» شـارعـةً في التـنـظيـر لها. ولمـا كـان الفـقـيد بـلال عضـوًا في اللـجـنـة التـنـفـيذيـة لمـنـظـمـة التـحرير الفلسطيـنـيـة - ممـثِـلًا لِـ «الجبـهـة الديـمـقـراطيـة» - في تلك السـنـوات الأولى من السـبعـيـنـيـات، كان عـبءُ التـعـبـيـر عن تـلك الخيارات السياسيـة الجديدة يـقـع عليه.
هـكـذا وجَـدَ نـفـسه يـلـتـقي بـ «فـتـح»، مـرةً أخـرى، في بـرنامج العـمـل السياسي الذي بـات عليه، منـذ أحداث أيـلول في الأردن (1970) ونتـائـج حـرب أكـتـوبر (1973)، أن يـرسم أولويـاتـه وخريطـةَ عـمله بـدقـة. لم يكـتـشـف بـلال فـقـط حاجـةَ المشـروع الوطـني وبرنامجِه المرحلـي إلى حامـلٍ سياسـي وازن بحجـم «فـتـح»، بـلِ اكـتـشـف أيضـًا أنها تـتـنـزل من الحركـة الوطـنيـة الفلسطيـنيـة منـزلـةَ العمـود الفِـقْـري مـن هيـكـلها. مع ذلك، لـم ينـضـم إلى «فـتـح» حين اختـار أن يـغادر صفـوف «الجبهـة الديـمـقـراطيـة» ويـتـفـرغ للعـمـل الصِـحـفي كرئـيس تحـريـرٍ لجـريـدة «السـفيـر» حين تأسيسها، بـل أصـر على استـقـلال المـوقـع الذي منـه يـتـحرك عـن أي فـصـيـلٍ فـلسطيـني متـمـسـكًا، فـقـط، بالأطـر الوطـنـيـة الجامعـة (مؤسـسات مـنـظـمـة التـحريـر الفـكريـة والإعلاميـة، المجلس الوطـنـي)، محمـولًا على صهـوة إيـمانٍ عميـق بأن دورَه - انـطـلاقـًا مـن هـذا المـوقع المستـقـل - سيكـون أجزلَ فاعـليـةً وتـأثيـرًا؛ لأنـه - ببـساطـة - دورٌ وطـني لا فصائلـي، يـلـتـفـت إلى الجامع المشتَـرَك ويُـعْـرِض عـمـا عـداه.
صانـتْ عـلاقـتُـه بيـاسر عرفات علاقـتَـه بـ «فـتـح» مـن الانـحلال في منـاسـبـاتٍ عـدة من سـياسـاتٍ مهـزولـة أَتَـتْـها الحركـة قبـل «أوسلـو» وبـعـد «أوسلـو» وخلـفـتْ فـي النـفـوس خيـبـةً ويـآسَـةً؛ فـلـقـد كـان أبو عمـار ضـمـانـتَـه الوحيـدة في تـنـظيـم التـوازن بيـن العـرْض والطـلـب السـياسـيـيْـن، بيـن مطـلوب الثـورة والمطلـوب منـها، بيـن مـا عليها أن تـدفع ومـا لَـها أن تـطـلُب. كـان عـنـده في مـقام التـرمومتر الذي يقـيـس بـه درجة الصـحـة والتـماسُك في المـوقـف الوطـني. لذلك أصابَ بـلال، دائـمـاً، الحـظ الكافي من النُـجْـح في تحيـيـد شخص ياسـر عـرفـات وحُـرمـةِ مَـقامـه كـلما وجـد نفـسَـه مـدفوعـًا إلى نـقـد سياسات «فـتـح» ومنظـمـة التـحرير الخاطئـة وتـنازلاتـهـما عـن بـرنامج الإجمـاع الوطـني، فلـم ينـزلـق - شأن كـثيـرٍ من المعارضيـن - إلى عـنـفٍ لـفظـي تَـرْذُل بـه عبـارات النـقـد أو يَطْـفـح منه ما تُـشْـتَـمُ فيـه رائحـةُ شتيمـةٍ في قـائـد الشـعـب والثـورة. وقد عَـرَف لـه أبـو عمـار ذلك ولم يَـنْـسَـه لـرجـلٍ اعتـاد منـه الوفـاء للثـورة ورجالاتها ورموزهـا.
*
انتـبـه بـلال الحسـن، منـذ وقـتٍ مبكـر، إلى سلطـة الرأي والفكـرة والقلـم في حيـاة الثـورة الفلـسطيـنـيـة في وقـتٍ كـانت تحظـى فيـه البـنـدقـيـةُ والرصـاصـةُ بأعلى مكـانـةٍ اعـتـبـاريـة في منـظومـة قيـمِ تلك الثـورة في لحـظـة انـدفـاعـتـها الكبرى بيـن العاميـن 1965 و1973. كـان، قبـل انـطلاقـة الثـورة المسلحـة (1965)، قـد خَـبُـرَ هـذا الاعـتـقـاد ودَرَجَ علـيـه - بالدُرْبـة والمِـراس - حيـن الْتـحـق بالصِحـافـة والدوريـات القـوميـة وعَـمِـل فـيها. هنـاك تَـلقـى التأهيـل الضروري لمـباشَـرةِ أداءِ الدور الذي كـانت تـعـتازُه الثـورةُ الوليـدة: دور اللـسان النـاطـق الذي بـه يفـشو صيـتُ الثـورة في المجتـمـع الفلسطـيـني، المقيـمِ في الوطـن واللاجـئِ في الجـوار العربي والشـتات العالمي؛ ولكـنـه - أيـضًا - اللسـانُ الذي يقـول ما يـنـبغي أن يَـنْـقـال إنْ حَصَـل وأخطـأتِ السياسـةُ سبيلها إلى الغايات المهـدوفِ إليها.
ولـقد نَهـض بأداء الدوريْـن مـعًـا، أحسـن الأداء، مـوطِـنًا النـفـسَ على أنهـما دوران متـكامـلان يصطحـبُ الواحـدُ منـهما الثـاني اصطـحـابَ تَـلازُمٍ وتَـمـاهٍ، وأن رسـالةَ صاحـب القـلم ليست تكـمَـن في تـنـزُلـه من محيـطِـه منـزلـةَ لسـان قـبـيلـتِـه يَـذِبُ عنـها ويَـدْفَـع، في سـرائها والضـراء، في ظُـلامتِـها وظالمـيـتـها، بـل هي تَـكْـمَـن - على التحـقيـق - في إصـداقِـها القـول في مـا يكـونُ بـه صـلاحُ أمْـرهـا، حتى وإنْ عـرَضَه ذلك للملامَـة أو لِحـيْـفِ حـائـفٍ عليـه. وما أكـثـر ما وقَـعَـتْ أفـعـالُ الملامَـة على الراحـل الكبـير بـلال مـن زيـدٍ وعـمرو، من ذوي القـرابـة السياسيـة والوطـنيـة، مـن وراء ما جَـهَـر بـه على سـبيـلِ الجَـراءَة فَـعُـدَ نَـهْـكًـا للـدارج والمألوف لا يـجـوز؛ لكـنـه تَـلَـقَـى خشونـةَ مَـن أَخْـشَـن عليه اللـومَ بالاصـطـبـار والتـرفُع فـما بَـنَى عليها ما تـقـتضيـه مـن رد فـعْـل.
امـتـشـق الرجـلُ النـقـدَ سـلاحـًا منـذ البـواكيـر، وسـرعـان ما اتسـع نطـاقُ رِحـاب ذلك النـقـد باتـساع مساحـة حـريـتِـه واسـتـقـلالـيـتِـه بعـد إِذِ انـتـزعـهـما مـن الأطـر التـنـظيـميـة التي نَـشِـط فيـها وتحـرَك تـفكـيرُهُ تحـت سـقـف ثـوابـتـها شطـرًا من الزمـن. حيـنـها، صار وازِعُ النـقـد الوطـنَ والثـورةَ بإطـلاق، لا جـهـة فصائـلـيـة بـعيـنـهـا تـفـرض الأحكـامَ والأَخـتـام والتـخـوم. وما مـن شيءٍ يـبـعث على الاستـغـراب، حيـنـها، إذْ يصيـر الوازعُ الوطـنيُ هـذا واعِـزًا داخـليـًا يُـوعِـزُ إلى الفـكر- بقـوة الآمِـرِيـة الذاتـيـة - بأن يختار هذا أو ذاك من السُـبـل؛ إذْ تَـستَـبـطِـن فـرديـةُ المرء، في مثـل هـذه الحـال، الضميـرَ الجمـعـيَ وتـنـتـحلُـه لـنفـسها من غيـرِ خشيـةِ قـيْـدٍ على ذلك من جمـاعـةٍ أو فـئـةٍ أو مؤسـسـة، سالكـةً ما وطـنَـتْ نـفسَـها على السـير فيـه طلـبًا للبُـغْـيـة وبَـرًا منـها بنـداء الواجـب الذي إليـه مـرجـعُـها.
فـرض بـلال الحسـن نفـسَـه مدرسـةً في الصِـحافـة والكـتابـة في الاجتـماع الفـلسطيـني. معـه، وبيـن أصابـعـه بـات للنـقـد معـنًـى آخـر ومـذاقٌ مختـلف. كـان دارجـًا، ولـفـتـرة مـمـتـدة بيـن السـتيـنـيـات والتـسـعيـنـيـات (هي الحـقـبة الذهـبـيـة للكـتابـة عـنـد بـلال الحسـن)، أن تـتـحـرك الكـتابـةُ الصـحـفـيـة العربيـة بيـن حـديْـن متـقابـليْـن (وإنْ كـانـا متـنـاظـريْـن في المضمـون): بيـن المشايَـعَـة والتلـميـع وتدبيـج المـدائـح زُلفـى لشخـصٍ أو مـؤسـسـةٍ أو تـنـويـهـًا بمـوقـفٍ أو سياسـة، من جهـة، والنـقـدِ المُـسِـف الذي يـتـوسـل أسـلوب السجـال اللـفـظي المنـصـرف إلى الاغـتـيـال المـعـنـوي للخصـم من جهـة أخرى. أَعـرضَ بـلال عـن ركـوب هـذيْـن المَـرْكـبيْـن فـكان لا يـمْـدح إلا نضـال شعـبـه وثـورتـه الوطنـيـة، وكـان لا يـنـتـقـد ابتـغـاءَ التـشنـيع أو التـجريـح، بـل مـن أجـل الانـتصـار للمـوقـف السـليم. ولـقـد كـان الغـالـبُ على مطالـعـاتـه النـقـديـة أن تـقـدِم نفـسَـها في صـورة نصـوصٍ مُضَـرَجـة بجميـلِ العـبـارة ورصيـنِ الأفـكـار مـيـزتْـهُ عـن غـيـره مـمـن كـانوا يـأتـون قضايا السـياسـة بالنـقـد مـن غيـر عُـدة.
لا يَـعْـزُب عـن ذهـن أحـدٍ من القارئيـن في تحـولات الصِـحافـة العربـيـة، في السـتـين عـامًا الأخيـرة، مـا كـان لنـموذج الكتـابـة الصِـحفـيـة عـنـد محمـد حسنـيـن هيـكـل من بـالغ الأثـر على أسلـوب الكـتـابـة عـند بـلال؛ فـلـقـد سار الثـاني على مِـطْمـار الأول حتى بـات رديـفـًا لـه في الفعـل والسَـمْـت. يـرُدُ ذلك إلى شَـبَـهٍ بـيـنهـما على أكـثـر من صـعيـد: كِـلاهـما مـلتـزمٌ قـضيـةً لا يـحيـد عـنـها (= التـحرُر)؛ وكِـلاهما يـستـنـد إلى ثـقـافـةٍ واسـعـة ارْتَـفَـدَتْ بـها الصِحـافة وزادت مـعيـنًا؛ ثـم كـلاهـما كـان قـريـبًا من صـانـع القـرار (عبد الناصـر، ياسـر عرفـات) و بالتـالي، مـن معـرفة المـوقـف في مظـانِـه؛ وأخيـرًا كـلاهُـما هـذَب الكـتابـة الصِـحَـفـيـة وهَـوَى لـغـتَـها تـهـويـةً نـظـفـت داخـلَـها المـلـوَث مـن طـريـق تـوطـيـن لغـة الأدب فيها. هـكـذا كـنـت لا تـقـرأ في مقـالاتـهـما نصوصًا سياسيـة جـافـة على منـوال غيـرها، بـل تـقـرأ قِـطَـعـًا بـديـعـة من الأدب السـياسي الرفـيع.