يقول أبو درة، أحد الأصدقاء الرائعين الذين اعتادوا على السفر بكثرة: إنك حين تنتقل من مكان لآخر في هذا الكوكب فهناك جانبان يشعرانك بالغربة وبحاجة لكي تعتاد عليهما: الأرض والسماء، لكنك إذا كنت فلكيا أو عارفا بـ«صناعة النجوم» كما أسماه العرب قديما، فإن جانب السماء سيختصر نصف غربتك تقريبا ويخبرك بمكانك في الأرض، وستشعر بألفة المكان سريعا لأنك عرفت نصف ما يحيط بك تقريبا، فتـَصوَّر فقط أنك بمجرد النظر للسماء وأجرامها تستطيع -بالتقريب- معرفة الوقت، وإحداثياتك على الأرض، وكذلك في أي من شهور السنة أنت، وغيرها من معطيات الزمان والمكان، وهذه هي ميزة أن تتقن علم الفلك ولو بأسس المعرفة فيه فقط، وأرى أن أخذ جرعة متوسطة من علم الفلك يوفر لك فهما واسعا لما حولك في الطبيعة، لأنك في الأساس تعيش في حياة يحكمها هذا العلم، فأنت تنام وتستيقظ وتعرف مرور الزمن من خلال حركة الشمس في السماء ودوران الأرض حول نفسها، ويتبدل الحال في الجو المحيط بك عبر فصول السنة من كمية الإشعاع الشمسي الذي يسقط على منطقتك الجغرافية، وكذلك تستطيع فهم الأضواء التي تراها في السماء وما إذا كانت نجوم أو كواكب أو أقمار صناعية أو طائرات وغيرها.

ولأن الفلك وعلوم الفضاء يمثلان مظلة واسعة تندرج تحتها الكثير والكثير من التخصصات العلمية والهندسية، فيمكننا اعتبارهما مظلة لفهم كل تلك العلوم، فالبشر لم يخترعوا التلسكوب إلا في القرن السابع عشر بعد أن تكوّن لديهم فهم كافٍ لسلوك الضوء من انكسار وانعكاس وغيره، وكيف يمكنهم صناعة زجاج نقي وصقله بشكل جيد لصناعة مرايا وعدسات يمكن من خلالها أن نشاهد الأجرام البعيدة.

ثم استغرق الأمر حوالي 4 قرون كي نخترع الأجهزة الإلكترونية، ونفهم ميكانيكا المدارات بشكل دقيق، ونطور الصواريخ المعقدة من أجل وضع تلسكوب هبل الفضائي في مدار حول الأرض ليستطيع رؤية ما لا يمكننا رؤيته من سطح الأرض، أي أن هناك جيشا من العلماء والباحثين والمهندسين الذين طوروا كل هذه العلوم ومشتقاتها على مدى قرون طويلة ليجعلوا هذا الإنجاز ممكنا، بحيث شكل الفلك وعلوم الفضاء أحد المحركات الفعالة لتطوير كل هذه التقنيات في سبيل سعينا لفهم الكون ومعرفة مكاننا فيه وماضينا ومستقبلنا.

الأمر الجميل والذي كنت ولا زلت مقتنعا به أنه رغم الغموض الذي يحيط بعلم الفلك -لمن لم يقترب منه- والذي يبدو وكأنه عبارة عن مجرد ظلام ومعادلات رياضية وحسابات معقدة، فإنه يمكن بسهولة إيصال الأفكار الأساسية المتعلقة به إلى أذهان أغلب الناس، والتبسيط دائما سبيل لدخول الفكرة إلى عقول الآخرين، فممكن مثلا بسهولة أن توضح لابنك الذي لم يتجاوز السادسة من عمره كيف يتقلب الليل والنهار من خلال كرة صغيرة ومصباح هاتفك الجوال، وبالأدوات نفسها تستطيع أن تشرح له اختلاف الفصول عبر السنة، وكذلك أن توضح لماذا تنطلق الصواريخ بشكل مائل إلى الفضاء. وعن طريق حبل قصير وحجارة صغيرة مربوطة به أن توضح لماذا لا تسقط الأقمار الصناعية على الأرض وتبقى في مدارها بشكل مستمر، وأيضا أن تنطلق من مبدأ أن الكتلة والطاقة هي وجهان لنفس العملة لتشرح له أن سبب حرارة وسطوع الشمس والنجوم هو الاندماج النووي.

هناك أمر آخر أساسي يجب أن نؤمن به، خصوصا في هذا الزمن الذي تحيط بنا فيه أساليب الوصول للمعرفة، وهو أنك حتما ستتقن ما تكرس له وقتك، لذلك، كلما كرست المزيد من الوقت لتعلم أي شيء، ستتقنه أكثر، وعلم الفلك -بالطبع- ليس استثناء.

في عام 2007م وعندما سكنت مع بعض الزملاء بعد قبولي للدراسة في الجامعة، تفاجأت بأن أحدهم يعرف برنامجا حاسوبيا مذهلا جدا، لدرجة أنني احترت كيف أنه فاتني كل تلك السنين رغم اهتمامي الشديد بالفلك وكل ما يتعلق به، وتمنيت لو أنني كنت أعرفه منذ 10 سنوات، أي عُمر استخدامي للحاسوب آنذاك. البرنامج اسمه Starry Night، وهو عبارة عن محاكاة لمنظر السماء ومكوناتها كما لو كنت تشاهدها من أي مكان على الأرض، أو زمان فائت أو قادم تختارهما، وبعد أن فهمت فكرته بعد بضع دقائق -لسهولته- كان مثل الصدمة لي لأنه، وبكل بساطة، يمكنه أن يجيب على أسئلة كانت تدور ببالي دائما، من قبيل: ما ذاك النجم اللامع في السماء؟ ومتى ستشرق الشمس أو تغرب غدا أو بعد غد؟ وكيف بدا منظر مذنب هيل-بوب الذي رأيته عام 1997م عندما كان عمري 8 سنوات؟ وكيف يمكنني التأكد من رواية كسوف الشمس التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف تاريخ حدوثها ومكان رؤيتها بالضبط؟ ومتى سيكون أقرب كسوف للشمس أستطيع رؤيته من مكاني؟ وهل صحيح أنه في عام 1509م أخضع كريستوفر كولومبوس سكان جامايكا الأصليون عندما قال لهم أنه يستطيع خسف القمر، وهل حصلت تلك الحادثة فعلا؟

هذه الأسئلة وغيرها الكثيرة المترامية في أزمنة سابقة وقادمة، وأمكنة مختلفة على ظهر الكوكب يمكن أن تحصل على أجوبتها بكل بساطة من خلال ذلك البرنامج، والذي أصبحت هناك بدائل كثيرة له يمكن تحميلها على الهاتف الجوال، وهي أول بداية تعينك على معرفة كل أجرام السماء التي تسقط عينك عليها، ليجبرك فضولك على سحب جوالك من جيبك دائما في كل مرة ترى فيها ضوءًا يلمع في السماء، وتصبح مشاركة هذه المعلومة ديدنًا دائمًا مع من حولك.

وسابقا كنت أرى أن فهم ميكانيكا المدارات وتبسيطها هي عملية معقدة نوعا ما، لأنها تختلف عن التصور البديهي والمعتاد عند البشر في أنك إذا رميت كذا سيسقط بطريقة كذا، وزيادة السرعة أو إنقاصها سيؤدي للنتيجة الفلانية، وغيره. فميكانيكا المدارات تتحكم في حركة الأجسام عند تعرضها لجاذبية الأجرام الكبيرة مثل الكواكب والنجوم وهو شيء لا نشاهده في حياتنا اليومية، وقبل سنتين وجدت أبسط سبيل لذلك: لعبة خفيفة للهاتف الجوال اسمها “Orbit”. هذه اللعبة تخبرك كيف سيتحرك الجسم الصناعي حول الأرض لو وضعته بسرعة أو زاوية معينة، وكيف سيختلف الوضع لو أخذت في الحسبان وجود القمر، وماذا لو كان الدوران حول الشمس، أو وجود نجم آخر مع الشمس، وما هو الاختلاف الذي سيحدث عند وضع جسمين بدلا من جسم واحد، وغيرها من الافتراضات، فأصبحت هذه اللعبة الخفيفة هي أداتي المثلى التي أستعين بها لتوضيح فكرة ميكانيكا المدارات بعد شرح أساسيات قوانين نيوتن وكبلر.

الأمر الآخر هو ضرورة مشاركة الهواية مع المهتمين الآخرين، فوجود أناس سبقوك إلى الاهتمام بأي علم يمثل طريقا مختصرا إلى معلومات قد تحتاج إلى ساعات طويلة للبحث عنها في الكتب أو على شبكة الإنترنت، وأذكر أنه تقريبا في عام 1998م جاء والدي -رحمه الله- من خارج البيت وأخبرني عن مشاهدته وأصحابه لضوء ساطع ومحيّر ظهر في السماء بشكل تدريجي ثم اختفى، وظل الوصف الذي ذكره عالقا في ذهني حتى عام 2011 عندما شاركت في المخيم الفلكي العائلي في جبل هاط بولاية الحمراء والذي نظمته الجمعية الفلكية العمانية، حينها ظهر ضوء ساطع في السماء يشبه تماما الوصف العالق في الذاكرة، وأجابني حينها أحد أعضاء الجمعية أن ما رأيناه كان لمعانا لأحد أقمار منظومة إريديوم الصناعية للاتصالات! كانت تلك إجابة سريعة لشيء عالق لمدة 13 سنة.

في عام 2004م كنت أتابع بشغف كبير هبوط الجوالين المريخيين سبيريت وأوبورتيونيتي على المريخ، وكانت تلك اللقطات سيئة الجودة المنقولة على التلفاز أو على شبكة الإنترنت لا تشبع النهم الذي بداخلي لمعرفة ما تفاصيل تلك المركبات الروبوتية المذهلة في تعقيدها والتي تم تسديدها في الفضاء بواسطة صاروخ ضخم -ربما هو الآخر أكثر تعقيدا منها- لتصل إلى ذلك الكوكب بعد أن قطعت مسار دقيق طوله 480 مليون كيلومتر، ولم أجد إجابات واضحة لما كان في بالي من تساؤلات، لكن عندما تكرر الأمر في عام 2008م وشاهدت هبوط مركبة فينيكس على سطح المريخ، وجدت هذه المرة حساب البروفيسور بيتر سميث على موقع فيسبوك، وهو الباحث الرئيس المسؤول عن الدور العلمي لتلك المركبة، وكان من السهل التواصل معه والدردشة بشكل مباشر كما أتواصل مع أحد الأصدقاء، والحديث عن المركبة وكل ما يتعلق بمهمتها العلمية على الكوكب الأحمر، وهذه أحد أهم محاسن هذه الوسائل الحديثة، أي الوصول المباشر لأغلب الأشخاص مهما علا منصبهم أو مسؤوليتهم وري العقل بما يحتاجه من معلومات.

وفي الأخير، ستجد أن تعلّم هذا العلم الواسع يمثل دهشة متواصلة تغوص بك في كل مرة بين ماضٍ سحيق كان البشر ينظرون فيه إلى السماء بأعينهم المجردة فقط وتختلط في أدمغتهم مختلف التساؤلات عنها ولا يجدون سبيلا للإجابة عليها، وزمن حاضر أرسل البشر فيه مركبات إلى أعماق الفضاء لتجيب على تلك التساؤلات غير المنتهية، أما أنت، فهناك من اختصر لك كل هذه المهمة الشاقة والطويلة من الحسابات والنظريات والاختراعات إلى تطبيقات ووسائل تواصل تجدها في جوالك الذي بين يديك، وكل ما عليك فعله هو الاغتراف منها لتسبح في مكنونات هذا الكون المذهل.

عيسى بن سالم آل الشيخ صاحب مبادرة ناسا بالعربية، وعضو مجلس إدارة الجمعية الفلكية العُمانية