كما هي النّـظـرةُ الماهـويّـة الجـوهرانيّـة إلى الأنـا والـتّـراث والماضي سائـدةٌ في الوعـي العـربيّ المعاصر، كذلك هي سائـدةٌ النّـظـرةُ عيـنُـها إلى الغـرب والرّؤى والـتّـمثّـلات المنسوجـة حـوله. الـنـظرُ إلى الغـرب - بوصـفـه مفهـومـًا مُـنَـمَّـطـًا دالاًّ على وضعيّـةٍ أو حالـةٍ ثابـتـة تـتـكرّر على مثـالـها - ليس سـمـةً خاصّـةً بتـيّـارٍ فـكـريّ بعـيـنـه يـنـفرد بها عن غيره، بـل هي شامـلـةٌ تـيّـارات الفـكـر جمـيعَـها. إنّـها عيـنُـها السّـمـةُ المشـتركـة بين تلك التـيّارات في مفهـومـها للأنـا والمـوروث من حيث هُـمـا حـالـتـان أو كيـنونـتـان متجـوهـرتـان. معنـى ذلك أنّ الوعـي النـاظـر إلى المـوضوعيـن (الأنـا والآخـر أو التّـراث والغـرب) يعـانـي نقـصـًا حـادًّا في الجـدلية وتسـكـنـه، في المقابـل، نـزعـةٌ مطلـقـية تـؤدّيـهِ إلى رؤيـة الأشيـاء في قـوالبـها المغلـقـة وتكـويـن صـورٍ عـنـها منـمَّـطَة لا يشـوبُـها تـبـدُّل! ومع أنّ الذي بين تـيّـارات الـفـكـر العـربـيّ من المُبايَـنَـة عـديـدٌ لا يمكـن حصْـرُه؛ ومع أنّ كـلًا منـها تَـعي الغـربَ على نحـوٍ يختلـف عن وعـي غـيـرها له، إلاّ أنّـها تجتمع كـلُّـها على النّـظر إليه بالعـيـنِ نفـسِـها: العـيْـنُ التي تُـجَـوْهِـرْهُ وتُـنَـمِّـطُـه وتُـعَـرِّفـه تـعريـفًا مـاهـويّـًا ثـابـتـًا لا وجْـه للتّـغـيُّـر فيـه!
يعـني الغـربُ، عنـد فـريـقٍ فـكـري، نـقيـضَ ما يـعـنيـه عنـد فـريـقٍ ثـانٍ، حتّى لَـيَخَـالُ القارئ في خـطابـَي الفـريقـيْـن أنّـهـما يـدوران على مـوضوعيْـن متـبايـنـيْـن لا على المـوضوع عيـنِـه! هذا هو ذاتُـه ذلك التّـقاطُـب في تـمـثُّـلات الأنـا والمـوروث الذي نصـطـدم بـه ونحـن نـقـرأ خطـابـيْـهـما في المسألـة: الانـقـسام على المـوضوع الواحـد في صورة رؤيـتـيْـن متـقـابلـتـيْـن. نحـن في هـذا الباب، إذن، إزاء سـرديّـتـيْـن عـن الغـرب تُـشـبهان في التّـباعُـد والتّـقاطُـب السّـرديّـتـيـن عن الماضـي والمـوروث، لـكنّهـما - في الآن عيـنِـه - تـتـواطـآن مـعًا على حجب «حقـيقـة» ذلك الموضوع المَـحْـكيِّ عنـه، أو على طَـمْس ما يُـداخِـله من تـعـدُّدٍ وتـناقـضٍ أو تـوتُّـر بين وجـهات التّـطوّر الـذّاتيّ، والإبـقاءِ فـقـط على ما يُـمْـتَـكَـن به القـولُ إنّ الغـرب هو، بالتّـعريف، هذا على وجْـه الإجمـال والحصر وليس شيئـًا آخـر. تـكـفينا نظـرةٌ سريعة نلـقيها على الخطابيـن الأشـدّ اشـتباكـًا، داخل الوعـي العـربيّ، والمتمـحوريْـن حـول الأصـالة والحـداثة لنـقـف على تلك الجـوهـرانيّـة الجامعـة وذلك التّـقاطُـب المُـبايِـن.
صورة الغـرب في خطاب الأصاليّـيـن صورةٌ مظلِـمـةٌ قاتمـة لا شيء في مـلامحـها يسُـرّ النّاظـريـن. إنّـه مـوطـن الغـزوات البـربريّـة لعالَـم العـروبة والإسلام؛ منذ الحمْـلات الصّـليـبـيّـة على فلسطيـنَ والمشرق العربـيّ حتّى غـزو العـراق وأفغـانستـان؛ مـرورًا بمـذابح العرب المـوريسكـيّـين وطردهم الجماعـيّ من أرضهم وديارهم؛ ثمّ بجرائم الاحتلال الاستعماريّ في حقّ شعوب مستعمَـرات العالَـم ذاك، واغتـصاب فلسطيـن من جماعات يهوديّـة مسلّـحة قادمـة من أوروبا وأمريكا ومـدعومة من قِـبَـل بريطانيا وقـوى الاستعمار. إنّـه منبع الشّـرور الحديثة التي ما تـوقّـفت فظاعاتُـها حتّى الآن؛ ومنها النّـهبُ والهيمنـة والعنصريّـة والصّـهيونيّـة والحـروب الظّالمة وصولًا إلى العـولمة وتـدميـر الكيانات أو تمـزيـقها. إنّ الغـرب، في هذه الرّواية الأصاليّـة النّـاقـدة والمعاديـة في آن، مجـرّدٌ من كـلّ أخلاقـيّـةٍ إنسانيّـة ولا يـردعـه مبـدأٌ أو عُـرْفٌ أو قـانون عن ركـوب مَرْكب القـوّة الغاشمـة والبطش لتحقيق مصالحـه، حتّى لو سَـلَـك إليها طريق الإبـادة التي ما تـورّع، في الماضي، عن القيام بها: في الأنـدلس العربيّـة؛ وفي القـارّة الأمـريكيّـة؛ وفي أسـتراليا؛ وأثـناء الحقـبة الكولونياليّـة في أفريـقيـا وآسيا وأمـريكا اللاّتيـنيّـة. وهو، قـبل هذا وبعده، يُـبدي أشـدّ العـداوة للإسلام، أكـثر من غيره من الأديان والإيـديولوجيّـات، وللمسلمـيـن أكـثـر من غيـرهم من أمـم الأرض. بكلمـة؛ ليس في السّرديّـة الأصاليّـة ما يمكن به تهـذيـبُ صـورة الغـرب أو، على الأقـلّ، التّـخفيـف من حِـدّة سوئـها وقـتامـتها ولو من طريـقِ استـدراكٍ يُـلـقـي الضّـوء على وجـهٍ آخـر للغـرب مغايـر للأوّل.
في المقابـل، تبـدو صورةُ الغـرب - في خطـاب دعـاة الحـداثة - أضْـوَأَ وأَشَـعَّ من الصّورة السّابقـة، حتّى لا نـقـول إنّها تكـاد أن تكون نورانيّـةً عنـد بعض هـؤلاء من فرط المغالاة فيها. الغـرب في هذه السّـرديّـة، هو الرّمز الأَشْـمـخُ للمدنـيّـة والحضارة الممتـدّتيـن منـذ خمسمـائـة عـام تُظَلِّـل أغصانُـهما الوارفة مساحةَ العالم كـلِّـه؛ هو النّهضـة التي أنجبت ذائقـةً رفيعة ورؤيـةً جديدة إلى الأدب والفـنّ؛ وهو الإصلاح الـدّينيّ الذي كَـبَـح سلطان رجال الـدّين؛ وهو الثّـورة العلميّـة التي طـوّحت بالرّؤى الخـرافيّـة إلى الطّبيـعة والإنسـان ويسّـرت شروط الحياة؛ وهو العـقلانيّـة التي أعـلتْ سلطة العـقـل ونصّـبـتْـه حاكـمًا؛ هو الثّورة الصّـناعيّـة التي قلبت وجْـه العالم والإنـتاج؛ وهو عصـر الأنـوار الذي طـوى صفحـةَ فـكـر العصـور الوسطى؛ والثّـورات السّياسيّـة التي أدخلت أمم الغـرب إلى قلب التّـاريخ. ثـمّ إنّـه ثـورات التّـوحيد القـوميّ التي أنهت عـهـد الـدّويـلات والإمارات؛ وهو العلمنـة التي انْـفـكَّ بها الاشـتـباكُ بين السّيـاسيِّ والـدّينـيّ؛ وهو الـدّيمقراطيّـة التي أعادت توزيع السّـلطة داخـل المجتمع على نحـوٍ مـتوازن. الغـرب، في هذه الرّوايـة، منـبـع القيـم الكبرى: التّسامـح، والحريّـة، والمساواة، والحـقّ في الاخـتلاف، والاعتـراف وسوى ذلك. بكلمة، ليس في سرديّـة المشـغوفين بالغـرب ما يسـتـثيـر استـفهامًا عـمّـا إذا كـان المَـحْـكيُّ عن هذا الغـرب يطابق، فـعلًا، واقـعه أو يعبّـر عنـه بـقدرٍ مّـا من الأمـانـة، أو عـمّا إذا كان غـربٌ آخرٌ كريـهُ الوجـهِ والسّـيرةِ يخـتفي وراء هذه الصّورة المُـلَمَّـعـة.
هل جـذّف هؤلاء وأولئك ضـدّ تـيّـار الحقيـقة وأَوْعبـوا فيما لديهم من رصيـدٍ لانـتـحال صـورةٍ للغـرب بـرّانيّـةٍ عنه؟ لا؛ قد يكونوا بالغـوا في التّـعريف بـه، على جهة السّلب وعلى جهة الإيجاب، لكنّـهم ما عَـدَوْا الحـقَّ فيما قـالوه عن الغـرب ولا زوّروا شيئـًا من سَـمْـتِـه الذي عُـرِف بـه في التّـاريخ. الشّيءُ الذي يؤاخَـذ به هـؤلاء وأولئك - وهو مـأخـذٌ ليس هيّـنـًا على أيّ حـال - هو أنّـهم قـدّمـوا، كـلٌّ من ناحيـتـه، سـرديّـةٌ انـتـقائـيّـة عنه اصطفى فيها كـلٌّ منهم ما عَـنَّ له أن يصطفيـه من سمات الغـرب لينتصـر به لروايتـه: وعنـدي أنّ هذا فـعْـلٌ إيـديولوجيّ صارخ. نعم، الغـرب هو كذلك: هو هذا وذاك؛ الغـربُ المرسوم بريشـة الأصالـيّيـن، بما فيه من بـؤسٍ وفظاعـة؛ والغـرب المنحـوتُ بإزميل الحـداثـيّـين، بما يُضـمِـرهُ من فاتـن المحاسـن. وعليه، حيث الغـربُ هذا ونقيـضُه معًا، فهو ليس ماهيـةً واحـدةً مغلـقـة على نـفسها، كما يـقـدّمـه الخطابـان معـًا، بل هو منطـوٍ على تَـعَـدُّدٍ؛ أعنـي على تـناقضاتٍ في تكوينـه واشتـغالـه وتطـوّره: في عـلاقـته بنفسه وكيانه الذّاتيّ، وفي علاقـته بالعالم من حـولـه.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب
يعـني الغـربُ، عنـد فـريـقٍ فـكـري، نـقيـضَ ما يـعـنيـه عنـد فـريـقٍ ثـانٍ، حتّى لَـيَخَـالُ القارئ في خـطابـَي الفـريقـيْـن أنّـهـما يـدوران على مـوضوعيْـن متـبايـنـيْـن لا على المـوضوع عيـنِـه! هذا هو ذاتُـه ذلك التّـقاطُـب في تـمـثُّـلات الأنـا والمـوروث الذي نصـطـدم بـه ونحـن نـقـرأ خطـابـيْـهـما في المسألـة: الانـقـسام على المـوضوع الواحـد في صورة رؤيـتـيْـن متـقـابلـتـيْـن. نحـن في هـذا الباب، إذن، إزاء سـرديّـتـيْـن عـن الغـرب تُـشـبهان في التّـباعُـد والتّـقاطُـب السّـرديّـتـيـن عن الماضـي والمـوروث، لـكنّهـما - في الآن عيـنِـه - تـتـواطـآن مـعًا على حجب «حقـيقـة» ذلك الموضوع المَـحْـكيِّ عنـه، أو على طَـمْس ما يُـداخِـله من تـعـدُّدٍ وتـناقـضٍ أو تـوتُّـر بين وجـهات التّـطوّر الـذّاتيّ، والإبـقاءِ فـقـط على ما يُـمْـتَـكَـن به القـولُ إنّ الغـرب هو، بالتّـعريف، هذا على وجْـه الإجمـال والحصر وليس شيئـًا آخـر. تـكـفينا نظـرةٌ سريعة نلـقيها على الخطابيـن الأشـدّ اشـتباكـًا، داخل الوعـي العـربيّ، والمتمـحوريْـن حـول الأصـالة والحـداثة لنـقـف على تلك الجـوهـرانيّـة الجامعـة وذلك التّـقاطُـب المُـبايِـن.
صورة الغـرب في خطاب الأصاليّـيـن صورةٌ مظلِـمـةٌ قاتمـة لا شيء في مـلامحـها يسُـرّ النّاظـريـن. إنّـه مـوطـن الغـزوات البـربريّـة لعالَـم العـروبة والإسلام؛ منذ الحمْـلات الصّـليـبـيّـة على فلسطيـنَ والمشرق العربـيّ حتّى غـزو العـراق وأفغـانستـان؛ مـرورًا بمـذابح العرب المـوريسكـيّـين وطردهم الجماعـيّ من أرضهم وديارهم؛ ثمّ بجرائم الاحتلال الاستعماريّ في حقّ شعوب مستعمَـرات العالَـم ذاك، واغتـصاب فلسطيـن من جماعات يهوديّـة مسلّـحة قادمـة من أوروبا وأمريكا ومـدعومة من قِـبَـل بريطانيا وقـوى الاستعمار. إنّـه منبع الشّـرور الحديثة التي ما تـوقّـفت فظاعاتُـها حتّى الآن؛ ومنها النّـهبُ والهيمنـة والعنصريّـة والصّـهيونيّـة والحـروب الظّالمة وصولًا إلى العـولمة وتـدميـر الكيانات أو تمـزيـقها. إنّ الغـرب، في هذه الرّواية الأصاليّـة النّـاقـدة والمعاديـة في آن، مجـرّدٌ من كـلّ أخلاقـيّـةٍ إنسانيّـة ولا يـردعـه مبـدأٌ أو عُـرْفٌ أو قـانون عن ركـوب مَرْكب القـوّة الغاشمـة والبطش لتحقيق مصالحـه، حتّى لو سَـلَـك إليها طريق الإبـادة التي ما تـورّع، في الماضي، عن القيام بها: في الأنـدلس العربيّـة؛ وفي القـارّة الأمـريكيّـة؛ وفي أسـتراليا؛ وأثـناء الحقـبة الكولونياليّـة في أفريـقيـا وآسيا وأمـريكا اللاّتيـنيّـة. وهو، قـبل هذا وبعده، يُـبدي أشـدّ العـداوة للإسلام، أكـثر من غيره من الأديان والإيـديولوجيّـات، وللمسلمـيـن أكـثـر من غيـرهم من أمـم الأرض. بكلمـة؛ ليس في السّرديّـة الأصاليّـة ما يمكن به تهـذيـبُ صـورة الغـرب أو، على الأقـلّ، التّـخفيـف من حِـدّة سوئـها وقـتامـتها ولو من طريـقِ استـدراكٍ يُـلـقـي الضّـوء على وجـهٍ آخـر للغـرب مغايـر للأوّل.
في المقابـل، تبـدو صورةُ الغـرب - في خطـاب دعـاة الحـداثة - أضْـوَأَ وأَشَـعَّ من الصّورة السّابقـة، حتّى لا نـقـول إنّها تكـاد أن تكون نورانيّـةً عنـد بعض هـؤلاء من فرط المغالاة فيها. الغـرب في هذه السّـرديّـة، هو الرّمز الأَشْـمـخُ للمدنـيّـة والحضارة الممتـدّتيـن منـذ خمسمـائـة عـام تُظَلِّـل أغصانُـهما الوارفة مساحةَ العالم كـلِّـه؛ هو النّهضـة التي أنجبت ذائقـةً رفيعة ورؤيـةً جديدة إلى الأدب والفـنّ؛ وهو الإصلاح الـدّينيّ الذي كَـبَـح سلطان رجال الـدّين؛ وهو الثّـورة العلميّـة التي طـوّحت بالرّؤى الخـرافيّـة إلى الطّبيـعة والإنسـان ويسّـرت شروط الحياة؛ وهو العـقلانيّـة التي أعـلتْ سلطة العـقـل ونصّـبـتْـه حاكـمًا؛ هو الثّورة الصّـناعيّـة التي قلبت وجْـه العالم والإنـتاج؛ وهو عصـر الأنـوار الذي طـوى صفحـةَ فـكـر العصـور الوسطى؛ والثّـورات السّياسيّـة التي أدخلت أمم الغـرب إلى قلب التّـاريخ. ثـمّ إنّـه ثـورات التّـوحيد القـوميّ التي أنهت عـهـد الـدّويـلات والإمارات؛ وهو العلمنـة التي انْـفـكَّ بها الاشـتـباكُ بين السّيـاسيِّ والـدّينـيّ؛ وهو الـدّيمقراطيّـة التي أعادت توزيع السّـلطة داخـل المجتمع على نحـوٍ مـتوازن. الغـرب، في هذه الرّوايـة، منـبـع القيـم الكبرى: التّسامـح، والحريّـة، والمساواة، والحـقّ في الاخـتلاف، والاعتـراف وسوى ذلك. بكلمة، ليس في سرديّـة المشـغوفين بالغـرب ما يسـتـثيـر استـفهامًا عـمّـا إذا كـان المَـحْـكيُّ عن هذا الغـرب يطابق، فـعلًا، واقـعه أو يعبّـر عنـه بـقدرٍ مّـا من الأمـانـة، أو عـمّا إذا كان غـربٌ آخرٌ كريـهُ الوجـهِ والسّـيرةِ يخـتفي وراء هذه الصّورة المُـلَمَّـعـة.
هل جـذّف هؤلاء وأولئك ضـدّ تـيّـار الحقيـقة وأَوْعبـوا فيما لديهم من رصيـدٍ لانـتـحال صـورةٍ للغـرب بـرّانيّـةٍ عنه؟ لا؛ قد يكونوا بالغـوا في التّـعريف بـه، على جهة السّلب وعلى جهة الإيجاب، لكنّـهم ما عَـدَوْا الحـقَّ فيما قـالوه عن الغـرب ولا زوّروا شيئـًا من سَـمْـتِـه الذي عُـرِف بـه في التّـاريخ. الشّيءُ الذي يؤاخَـذ به هـؤلاء وأولئك - وهو مـأخـذٌ ليس هيّـنـًا على أيّ حـال - هو أنّـهم قـدّمـوا، كـلٌّ من ناحيـتـه، سـرديّـةٌ انـتـقائـيّـة عنه اصطفى فيها كـلٌّ منهم ما عَـنَّ له أن يصطفيـه من سمات الغـرب لينتصـر به لروايتـه: وعنـدي أنّ هذا فـعْـلٌ إيـديولوجيّ صارخ. نعم، الغـرب هو كذلك: هو هذا وذاك؛ الغـربُ المرسوم بريشـة الأصالـيّيـن، بما فيه من بـؤسٍ وفظاعـة؛ والغـرب المنحـوتُ بإزميل الحـداثـيّـين، بما يُضـمِـرهُ من فاتـن المحاسـن. وعليه، حيث الغـربُ هذا ونقيـضُه معًا، فهو ليس ماهيـةً واحـدةً مغلـقـة على نـفسها، كما يـقـدّمـه الخطابـان معـًا، بل هو منطـوٍ على تَـعَـدُّدٍ؛ أعنـي على تـناقضاتٍ في تكوينـه واشتـغالـه وتطـوّره: في عـلاقـته بنفسه وكيانه الذّاتيّ، وفي علاقـته بالعالم من حـولـه.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب