في ليلة التنقلات الرهيبة بين المدارس، وضع بعضنا مُنبها ليصحو في الثانية عشرة ليلا وفضل بعضٌ آخر أن يسهر ليلته تلك رفقة «السستم»! وفي مشهد شديد السريالية، هنالك من ظفر بمقعد وهنالك من نام صفر اليدين!
ولأنّ ابني كان أقلّ حظًا، توجب عليَّ أن أقف في طابور طويل، تكدس فيه الآباء والأمهات في صباح أول يوم مدرسي، وذلك ليُدلي كل منا بدلوه أمام مُدخلة البيانات. بدا لي المشهد مُناقضًا إلى حد كبير لما نُشيعه عن «عُمان الرقمية»! فإن كان «السستم» الجبار يحل مسائلنا العالقة باقتدار، فما الدعوى لأن نترك أشغالنا وأعمالنا لنبث الشكوى لمُدخلة البيانات؟!
بقليل من الإصغاء، وجدتُ أنّنا نحن الواقفين، جئنا لأسباب مُماثلة تتعلقُ بافتتاح مدارس مجاورة لمنازلنا، لكن «السستم» العجيب فضّل أن يُلقي بأبنائنا في مدارس أبعد، ولا أدري إن كان مرد العشوائية، يرجع لأنّ «السستم» لم يُغذ بالبيانات الدقيقة التي تؤدي لفرز الطلاب بحسب أماكن إقامتهم أم لخلل إداري بحت!
تلك الإشارة المتفائلة -هذا العام- بافتتاح مدارس جديدة، أعادت الأمل باقتراب انتهاء زمن التعليم المسائي بمساوئه الكثيرة، لكن كما يبدو ضاع الأسبوع الأول -على البعض منهم- في التنقل من مدرسة لأخرى، ولم يكن ثمّة رد واضح عدا أنّ: «الطاقة الاستيعابية للمدرسة اكتملت!»
عندما دخلتُ الفصل بصحبة ابني، هالني عدد الطلبة فيه، وقبل أن أستفيق من شرودي، كان ابني قد اختفى بين الجموع، وفي خروجي المضطرب فكرت: عدد سُكاننا بأكمله لا يُشكل سوى عدد سكان مدينة صغيرة في بلدان أخرى، فلماذا نشعرُ ونحن نتجه إلى المدارس بأننا إزاء انفجار سكاني مهول؟!! ولماذا لا تُبنى المدارس وفق إحصائيات عدد المواليد المُتغيرة من عام لآخر، وبالنظر للكثافة السكانية من محافظة لأخرى؟
وليس لي أن ألوم مُدخلة البيانات، التي وقفت بوجه شاحب عاجزة عن تلبية الطلبات اللامتناهية من كل حدب وصوب، ولكنها عندما أشارت بصلف إلى أنّ: «الناس لم يكتفوا بحصولهم على مقاعد صباحية، وهاهم الآن يتذمرون لأنّ أبناءهم نقلوا إلى مدارس بعيدة عن منازلهم، وكأنَّ رضاهم غاية لا تدرك». آنذاك وحسب، استشاط غضبي، شعرتُ بشيء من الغليان الداخلي وأنا أجيبها: «هل تعرفين كم مشكلة ستُحل لو أنّ كل طفل درس في المدرسة التي تجاور بيته؟ إنّه ليس الطمع كما تظنين. إنّها نقطة نظام».
شعرتُ بحرقة وبخفقان شديد في قلبي، فهذه الخدمة الحكومية هي حق لكل مواطن وليس من حق أحد أن يتفضل بها علينا. وعدا ذلك فهذا «الاستحقاق» لو توفر، سيوفر الجهد والتعب على الأطفال الذين يُغامرون بحياتهم في تلك الحافلات المتهالكة كل يوم.
في الحقيقة لا يمكنني تجاوز موضوع الحافلات مجددًا، تلك التي لم تأخذ حقها من الصيانة، فتعطل بعضها في الأسبوع الأول. فليس بمقدور الجميع أن يدفعوا أجرة سيارة خاصة! والسؤال: كيف يُترك أطفال الحلقة الأولى - بهشاشة بعضهم وتنمر البعض الآخر- دون مشرفة؟! ولنا أن نتصور عدد المنتظرات لمهنة من هذا النوع -يمكن أن تفتح بيوتا حقا- لو أتيحت فكرة العقود لمشرفات الحافلات الحكومية، لكيلا نهلع كل عام بنسيان أحدهم أو دهسه، كما حدث بداية هذا العام، وفي كل الأعوام الماضية!
على الضفة الأخرى من النهر، يُراوغُ بعض الأهالي بتزييف أماكن سكنهم، بتزييف إيجارات منازل ليسوا من مستأجريها، فيتجشم أبناؤهم المسافات البعيدة، وليس لنا أن نلومهم أيضا، فهم ينقذون ما يستطيعون إنقاذه من رحلة فلذات أكبادهم، فلو تحصلوا على صفوف بكثافة أقل، وإدارة قوية، سيتحصلون على انتباهة عين واعية ومُحرضة، ولن يتحولوا -على أفضل تقدير- لمجرد رقم في عداد الصف، وإنّما سيُنظر لفرديتهم بكل تمايزها -أو على الأقل هذا ما يُراهن عليه الآباء المخذولون! لكن وفي استدراك أخير: أليس من المُخجل حقًا أن نخوض كل هذه المعارك من أجل مدرسة قريبة أو صف بكثافة أقل!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
ولأنّ ابني كان أقلّ حظًا، توجب عليَّ أن أقف في طابور طويل، تكدس فيه الآباء والأمهات في صباح أول يوم مدرسي، وذلك ليُدلي كل منا بدلوه أمام مُدخلة البيانات. بدا لي المشهد مُناقضًا إلى حد كبير لما نُشيعه عن «عُمان الرقمية»! فإن كان «السستم» الجبار يحل مسائلنا العالقة باقتدار، فما الدعوى لأن نترك أشغالنا وأعمالنا لنبث الشكوى لمُدخلة البيانات؟!
بقليل من الإصغاء، وجدتُ أنّنا نحن الواقفين، جئنا لأسباب مُماثلة تتعلقُ بافتتاح مدارس مجاورة لمنازلنا، لكن «السستم» العجيب فضّل أن يُلقي بأبنائنا في مدارس أبعد، ولا أدري إن كان مرد العشوائية، يرجع لأنّ «السستم» لم يُغذ بالبيانات الدقيقة التي تؤدي لفرز الطلاب بحسب أماكن إقامتهم أم لخلل إداري بحت!
تلك الإشارة المتفائلة -هذا العام- بافتتاح مدارس جديدة، أعادت الأمل باقتراب انتهاء زمن التعليم المسائي بمساوئه الكثيرة، لكن كما يبدو ضاع الأسبوع الأول -على البعض منهم- في التنقل من مدرسة لأخرى، ولم يكن ثمّة رد واضح عدا أنّ: «الطاقة الاستيعابية للمدرسة اكتملت!»
عندما دخلتُ الفصل بصحبة ابني، هالني عدد الطلبة فيه، وقبل أن أستفيق من شرودي، كان ابني قد اختفى بين الجموع، وفي خروجي المضطرب فكرت: عدد سُكاننا بأكمله لا يُشكل سوى عدد سكان مدينة صغيرة في بلدان أخرى، فلماذا نشعرُ ونحن نتجه إلى المدارس بأننا إزاء انفجار سكاني مهول؟!! ولماذا لا تُبنى المدارس وفق إحصائيات عدد المواليد المُتغيرة من عام لآخر، وبالنظر للكثافة السكانية من محافظة لأخرى؟
وليس لي أن ألوم مُدخلة البيانات، التي وقفت بوجه شاحب عاجزة عن تلبية الطلبات اللامتناهية من كل حدب وصوب، ولكنها عندما أشارت بصلف إلى أنّ: «الناس لم يكتفوا بحصولهم على مقاعد صباحية، وهاهم الآن يتذمرون لأنّ أبناءهم نقلوا إلى مدارس بعيدة عن منازلهم، وكأنَّ رضاهم غاية لا تدرك». آنذاك وحسب، استشاط غضبي، شعرتُ بشيء من الغليان الداخلي وأنا أجيبها: «هل تعرفين كم مشكلة ستُحل لو أنّ كل طفل درس في المدرسة التي تجاور بيته؟ إنّه ليس الطمع كما تظنين. إنّها نقطة نظام».
شعرتُ بحرقة وبخفقان شديد في قلبي، فهذه الخدمة الحكومية هي حق لكل مواطن وليس من حق أحد أن يتفضل بها علينا. وعدا ذلك فهذا «الاستحقاق» لو توفر، سيوفر الجهد والتعب على الأطفال الذين يُغامرون بحياتهم في تلك الحافلات المتهالكة كل يوم.
في الحقيقة لا يمكنني تجاوز موضوع الحافلات مجددًا، تلك التي لم تأخذ حقها من الصيانة، فتعطل بعضها في الأسبوع الأول. فليس بمقدور الجميع أن يدفعوا أجرة سيارة خاصة! والسؤال: كيف يُترك أطفال الحلقة الأولى - بهشاشة بعضهم وتنمر البعض الآخر- دون مشرفة؟! ولنا أن نتصور عدد المنتظرات لمهنة من هذا النوع -يمكن أن تفتح بيوتا حقا- لو أتيحت فكرة العقود لمشرفات الحافلات الحكومية، لكيلا نهلع كل عام بنسيان أحدهم أو دهسه، كما حدث بداية هذا العام، وفي كل الأعوام الماضية!
على الضفة الأخرى من النهر، يُراوغُ بعض الأهالي بتزييف أماكن سكنهم، بتزييف إيجارات منازل ليسوا من مستأجريها، فيتجشم أبناؤهم المسافات البعيدة، وليس لنا أن نلومهم أيضا، فهم ينقذون ما يستطيعون إنقاذه من رحلة فلذات أكبادهم، فلو تحصلوا على صفوف بكثافة أقل، وإدارة قوية، سيتحصلون على انتباهة عين واعية ومُحرضة، ولن يتحولوا -على أفضل تقدير- لمجرد رقم في عداد الصف، وإنّما سيُنظر لفرديتهم بكل تمايزها -أو على الأقل هذا ما يُراهن عليه الآباء المخذولون! لكن وفي استدراك أخير: أليس من المُخجل حقًا أن نخوض كل هذه المعارك من أجل مدرسة قريبة أو صف بكثافة أقل!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى