الدولة المركزية هي الدولة القُطرية القائمة على وحدة المساواة في ذات المواطنة، لهذا تسمى الدولة المركزية أو الدولة القطرية أو الدولة الوطنية، والجامع بينها هي الوحدة المركزية الواحدة من حيث القوة، والحامية للجميع، مع المساواة من حيث الذات، ومن حيث الحقوق والواجبات، في ضوء صورة التعاقد المتفق عليها وفق قانون البلد الواحد.
وأما الميليشيات كما يعرفها المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات (ECCI) هي «جماعة منظمة، لديها هيكل تنظيمي محدد، وقيادة منظمة للعمل خارج سيطرة الدولة باستخدام القوة لتحقيق أهدافها السياسية، وتستخدم العنف لتحقيق أهدافها، فهي بشكل عام جيش أو منظمة قتالية أخرى تتكون من جنود غير محترفين أو مواطنين من دولة أو رعايا دولة».
لهذا بتكون الميليشيات في دولة ما، لا يوجد في الواقع دولة مركزية واحدة، وبالتالي لا يمكن تحقق وحدة القوة، ولا وحدة المواطنة، وإنما هناك دولة أو أكثر في قطر معين، مما يؤدي إلى الصراع والعنف، وضعف أو انهيار الدولة المركزية ذاتها، وهذا ملحظ بشكل كبير، في الدول التي تجد فيها الميليشيات أرضا خصبة للنمو؛ يسودها الاضطراب والصراع، وقد يؤدي ذلك إلى الاحتراب والانشقاقات الداخلية المؤدية إلى حروب أهلية، ينتج عنها الفقر والمرض وتشريد مواطنيها بحثا عن الأمن ولقمة العيش.
والخطورة إذا التصقت هذه الميليشيات بتوجهات أيدلوجية معينة، أو ارتبطت بحركات خارجية، فالأولى حراكها وولاؤها وفق الأيديولوجيا الضيقة، وهذا يتعارض مع المساواة في ضوء المواطنة، وقد تمارس العنف لمن خالف هذه الأيديولوجيا، وإن تمكنت مارست الإقصاء والاستبداد، والثانية لا يكون حراكها وولاؤها في ضوء الوطن أيضا، وإنما هي تتحرك وفق أجندات خارجية، وإن تظاهرت بالمواطنة حينا، ولكن ما إن تتمكن يظهر أين يكون اتجاهها، وعليه لا يكون هناك استقلال حقيقي للدولة المركزية.
ولا يمكن بحال المقارنة بين الأحزاب البرلمانية والسياسية وبين الميلشيات، وإن كانت قبل تبلورها تحمل ذات الصبغة الأيديولوجيا كما يرى وجيه قانصو في بحثه «الأحزاب السياسية» حيث كانت «كلمة الأحزاب قبل ظهور التمثيل البرلماني تطلق على الرمز والطوائف والفرق الاعتقادية، والجماعات المغلقة التي تشاكلت أهواء أفرادها، وعلى الولاءات التي تتمحور حول شخص ذي صفات كاريزمية، أو شخص مقتدر ماديا، أو ذي صفة معنوية، مثل قادة المرتزقة إبان عصر النهضة في إيطاليا، أو النبلاء والأمراء في العصر الوسيط، والفرق التي ظهرت لاحقا وتمحورت حول التجار والصناعيين وأصحاب البنوك ورجال الأعمال».
ويرى قانصو أنه «رغم دور الأحزاب في تفعيل العملية الديمقراطية، فقد بقت الأحزاب تحمل بطبيعتها صفة متناقضة، فهي من جهة هيئة منظمة يفترض بها أن تعبر عن تطلعات الناس، وتمثل قضاياهم، وتنقل همومهم بشفافية وأمانة ... وهي من جهة أخرى تحمل أجندتها الخاصة، وشبكة مصالحها ومعتقداتها الذاتية، وتعمد إلى استقطاب الجماهير على أساسها، وإدارة حملات انتخابية لكسب التأييد والولاء لشخصية مرشحة، تكون منابرها ووسائل إعلامها أدوات أيديولوجية وتوجيهية»، لهذا إذا ضعفت الدولة المركزية؛ قد تتحول هذه الأحزاب مع مرور الوقت إلى ميلشيات مسلحة، مستغلة توجهات أيدلوجية معينة، يمينية كانت أم يسارية.
لهذا وجدت العديد من النظريات التي توسع من دائرة الشراك الاجتماعي، مع المحافظة على مركزية الدولة، كنظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو (ت 1778م)، ونظرية العقد الاجتماعي تطور لنظرية توماس هوبز (ت 1679م)، فهو وإن كان مع الملكية المطلقة، إلا أنها لابد أن ترتبط بعقد اجتماعي، وهذا لا يتعارض في نظره «حين يتنازل عن سلطتهم لصاحب السيادة»؛ لأن هذه السلطة «تشكل بها إرادتهم لصياغة السلام في الداخل، والدفاع عن الداخل أمام الخارج».
كما استفاد أيضا روسو من جون لوك (ت 1704م)، فنظرية الحكامة عنده لا تقوم «على أساس القوة والإكراه، بل تقوم على أساس الاختيار والرضى المتبادل بين الأفراد، وإن الغاية من ذلك الاجتماع المدني هي المحافظة على الملكية التي تعني حق الحياة والحرية والتملك»، وهو وإن كان لاهوتيا، إلا أنه مع علمنة الدولة، بمعنى «كل سلطات الحكومة المدنية لا تتعلق إلا بالمصالح المدنية».
وكل النظريات اللاحقة هو تطور أو شرح لنظرية العقد الاجتماعي، وهي نظرية تحفظ مركزية الدولة، وفي الوقت ذاته توسع من دائرة الشراك الشعبي في ضوء المواطنة، كما أنها توسع من دائرة الحريات، والاستفادة من الجانب النقدي، في وسائل مدنية، أو عن طريق الأدوات البرلمانية، بحيث يكون الحراك بشكل مدني إيجابي، لا يقود إلى العنف واستخدام القوة من أطراف متباينة عدا مركزية الدولة، قد تقود إلى حروب أهلية، أو انتماءات ولائية خارجية.
وعليه التدافع في الدولة المركزية الواحدة كلما اتسعت فيه الحريات المدنية، وتقلص فيه دائرة الاستبداد، وفق رؤية قانونية واحدة وواضحة، تحمي التعددية والشراك التعاقدي المدني؛ ابتعد المجتمع عن تكون الميلشيات، وحافظ على مركزية الدولة القطرية ذات المركزية الواحدة، والعكس صحيح، إذا توسع فيه دائرة الاستبداد الشامل، قد تنمو فيه بعد فترة جماعات ذات توجه ميليشي، إذا تجد بذوره تربة خصبة لنمو مثل هذه الجماعات المتطرفة، وفق انتماءات ولائية لشخص أو مذهب أو دين أو توجه سياسي واقتصادي واجتماعي، تتحول لاحقا إلى جماعات مسلحة، تستخدم القوة في الحراك السياسي والمدني، مما لا يكون للدولة المركزية لها حضورها الذي يحمي مظلة الدولة، وبالتالي انهيارها ودخولها في دائرة الفوضى والصراع والاحتراب، الذي ينتج عنه التشريد والفقر والمجاعة والجهل، فحتى تعود إلى مركزيتها يحتاج إلى شيء من الوقت، والذي تخسر فيه إبداعاتها وتقدمها واستقرارها.
*مراجع المقالة: بحث الأحزاب السياسية لوجيه قانصو، وكتاب نظريات الحكم والدولة لمحمد مصطفوي.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»
وأما الميليشيات كما يعرفها المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات (ECCI) هي «جماعة منظمة، لديها هيكل تنظيمي محدد، وقيادة منظمة للعمل خارج سيطرة الدولة باستخدام القوة لتحقيق أهدافها السياسية، وتستخدم العنف لتحقيق أهدافها، فهي بشكل عام جيش أو منظمة قتالية أخرى تتكون من جنود غير محترفين أو مواطنين من دولة أو رعايا دولة».
لهذا بتكون الميليشيات في دولة ما، لا يوجد في الواقع دولة مركزية واحدة، وبالتالي لا يمكن تحقق وحدة القوة، ولا وحدة المواطنة، وإنما هناك دولة أو أكثر في قطر معين، مما يؤدي إلى الصراع والعنف، وضعف أو انهيار الدولة المركزية ذاتها، وهذا ملحظ بشكل كبير، في الدول التي تجد فيها الميليشيات أرضا خصبة للنمو؛ يسودها الاضطراب والصراع، وقد يؤدي ذلك إلى الاحتراب والانشقاقات الداخلية المؤدية إلى حروب أهلية، ينتج عنها الفقر والمرض وتشريد مواطنيها بحثا عن الأمن ولقمة العيش.
والخطورة إذا التصقت هذه الميليشيات بتوجهات أيدلوجية معينة، أو ارتبطت بحركات خارجية، فالأولى حراكها وولاؤها وفق الأيديولوجيا الضيقة، وهذا يتعارض مع المساواة في ضوء المواطنة، وقد تمارس العنف لمن خالف هذه الأيديولوجيا، وإن تمكنت مارست الإقصاء والاستبداد، والثانية لا يكون حراكها وولاؤها في ضوء الوطن أيضا، وإنما هي تتحرك وفق أجندات خارجية، وإن تظاهرت بالمواطنة حينا، ولكن ما إن تتمكن يظهر أين يكون اتجاهها، وعليه لا يكون هناك استقلال حقيقي للدولة المركزية.
ولا يمكن بحال المقارنة بين الأحزاب البرلمانية والسياسية وبين الميلشيات، وإن كانت قبل تبلورها تحمل ذات الصبغة الأيديولوجيا كما يرى وجيه قانصو في بحثه «الأحزاب السياسية» حيث كانت «كلمة الأحزاب قبل ظهور التمثيل البرلماني تطلق على الرمز والطوائف والفرق الاعتقادية، والجماعات المغلقة التي تشاكلت أهواء أفرادها، وعلى الولاءات التي تتمحور حول شخص ذي صفات كاريزمية، أو شخص مقتدر ماديا، أو ذي صفة معنوية، مثل قادة المرتزقة إبان عصر النهضة في إيطاليا، أو النبلاء والأمراء في العصر الوسيط، والفرق التي ظهرت لاحقا وتمحورت حول التجار والصناعيين وأصحاب البنوك ورجال الأعمال».
ويرى قانصو أنه «رغم دور الأحزاب في تفعيل العملية الديمقراطية، فقد بقت الأحزاب تحمل بطبيعتها صفة متناقضة، فهي من جهة هيئة منظمة يفترض بها أن تعبر عن تطلعات الناس، وتمثل قضاياهم، وتنقل همومهم بشفافية وأمانة ... وهي من جهة أخرى تحمل أجندتها الخاصة، وشبكة مصالحها ومعتقداتها الذاتية، وتعمد إلى استقطاب الجماهير على أساسها، وإدارة حملات انتخابية لكسب التأييد والولاء لشخصية مرشحة، تكون منابرها ووسائل إعلامها أدوات أيديولوجية وتوجيهية»، لهذا إذا ضعفت الدولة المركزية؛ قد تتحول هذه الأحزاب مع مرور الوقت إلى ميلشيات مسلحة، مستغلة توجهات أيدلوجية معينة، يمينية كانت أم يسارية.
لهذا وجدت العديد من النظريات التي توسع من دائرة الشراك الاجتماعي، مع المحافظة على مركزية الدولة، كنظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو (ت 1778م)، ونظرية العقد الاجتماعي تطور لنظرية توماس هوبز (ت 1679م)، فهو وإن كان مع الملكية المطلقة، إلا أنها لابد أن ترتبط بعقد اجتماعي، وهذا لا يتعارض في نظره «حين يتنازل عن سلطتهم لصاحب السيادة»؛ لأن هذه السلطة «تشكل بها إرادتهم لصياغة السلام في الداخل، والدفاع عن الداخل أمام الخارج».
كما استفاد أيضا روسو من جون لوك (ت 1704م)، فنظرية الحكامة عنده لا تقوم «على أساس القوة والإكراه، بل تقوم على أساس الاختيار والرضى المتبادل بين الأفراد، وإن الغاية من ذلك الاجتماع المدني هي المحافظة على الملكية التي تعني حق الحياة والحرية والتملك»، وهو وإن كان لاهوتيا، إلا أنه مع علمنة الدولة، بمعنى «كل سلطات الحكومة المدنية لا تتعلق إلا بالمصالح المدنية».
وكل النظريات اللاحقة هو تطور أو شرح لنظرية العقد الاجتماعي، وهي نظرية تحفظ مركزية الدولة، وفي الوقت ذاته توسع من دائرة الشراك الشعبي في ضوء المواطنة، كما أنها توسع من دائرة الحريات، والاستفادة من الجانب النقدي، في وسائل مدنية، أو عن طريق الأدوات البرلمانية، بحيث يكون الحراك بشكل مدني إيجابي، لا يقود إلى العنف واستخدام القوة من أطراف متباينة عدا مركزية الدولة، قد تقود إلى حروب أهلية، أو انتماءات ولائية خارجية.
وعليه التدافع في الدولة المركزية الواحدة كلما اتسعت فيه الحريات المدنية، وتقلص فيه دائرة الاستبداد، وفق رؤية قانونية واحدة وواضحة، تحمي التعددية والشراك التعاقدي المدني؛ ابتعد المجتمع عن تكون الميلشيات، وحافظ على مركزية الدولة القطرية ذات المركزية الواحدة، والعكس صحيح، إذا توسع فيه دائرة الاستبداد الشامل، قد تنمو فيه بعد فترة جماعات ذات توجه ميليشي، إذا تجد بذوره تربة خصبة لنمو مثل هذه الجماعات المتطرفة، وفق انتماءات ولائية لشخص أو مذهب أو دين أو توجه سياسي واقتصادي واجتماعي، تتحول لاحقا إلى جماعات مسلحة، تستخدم القوة في الحراك السياسي والمدني، مما لا يكون للدولة المركزية لها حضورها الذي يحمي مظلة الدولة، وبالتالي انهيارها ودخولها في دائرة الفوضى والصراع والاحتراب، الذي ينتج عنه التشريد والفقر والمجاعة والجهل، فحتى تعود إلى مركزيتها يحتاج إلى شيء من الوقت، والذي تخسر فيه إبداعاتها وتقدمها واستقرارها.
*مراجع المقالة: بحث الأحزاب السياسية لوجيه قانصو، وكتاب نظريات الحكم والدولة لمحمد مصطفوي.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»