ترجمة: نهى مصطفى

بعد أقل من خمس سنوات من تفشي مرض كوفيد-19، لا يزال العالم عُرضة لجائحة أخرى. فعلى مدى الأشهر الماضية، تشكل سلالة متحولة من فيروس الإنفلونزا H5N1 تم اكتشافها في الأبقار الحلوب خطرا محتملا لفيروس مسبب للجائحة. ومع ذلك، لم تفعل الحكومات والمنظمات الدولية سوى القليل جدا للاستعداد لمثل هذا السيناريو، على الرغم من الدروس التي من المفترض أنها تعلمتها من المعركة العالمية ضد مرض كوفيد-19.

كشفت أزمة كوفيد-19 عن أوجه القصور في نظام الاستجابة الصحية العامة العالمي، وافترض كثيرون أن الحكومات والمنظمات الدولية ستسعى جاهدة لإصلاح المشاكل الواضحة. ونظرا للخسائر البشرية والاقتصادية الكارثية الناجمة عن الوباء، كان لدى البلدان حافز قوي للبدء في الإنفاق بكثافة على تطوير أجيال جديدة من لقاحات الإنفلونزا وفيروس كورونا أكثر حماية، فضلا عن توسيع شبكات التصنيع والتوزيع العالمية بشكل كبير.

ولكن هذا لم يحدث. وفقا لمستويات التمويل الحالية، من المرجح أن يستغرق الأمر عقدا من الزمان أو أكثر لتطوير لقاحات أكثر فعالية وأطول أمدا. ورغم وجود مجموعات تعمل على إيجاد علاجات جديدة ومبادرات أخرى مضادة للفيروسات، فإن المجتمع العالمي لا يبدو أكثر استعدادا لمواجهة جائحة فيروس كورونا أو الإنفلونزا في المستقبل مقارنة بما كان عليه منذ خمس سنوات.

سلطت عودة ظهور فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 بين البشر والحيوانات الضوء على هذه الإخفاقات. ورغم أن الفيروس تم التعرف عليه في تسعينيات القرن العشرين، إلا أنه استمر في التحور على مدى العشرين عاما الماضية، وأعاد اختراع نفسه مرارا. واليوم يصيب الفيروس الملايين من الطيور، ولكنه أصبح أكثر قدرة على الانتشار إلى أربعين نوعا -على الأقل- من الثدييات. ما زال الفيروس غير قادر على الانتقال بسهولة بين البشر، ولكن الإصابات بين الأبقار الحلوبة، التي تحتوي أضراسها على مستقبلات للفيروسات التي تصيب الطيور والبشر على حد سواء، تؤكد على خطر ظهور جائحة جديدة.

لا نستطيع أن نعرف متى قد تظهر جائحة جديدة، أو أي مسبب مرضي بعينه قد يكون السبب وراءها. فيروس H5N1 ليس سوى أحد الفيروسات التي قد تتحور إلى شيء قد يتسبب في ظهور جائحة. لذا فقد حان الوقت للتحول -بعيدا عن التوصيات الغامضة وأفضل الممارسات- إلى برنامج أوسع يهدف إلى إنتاج لقاحات جديدة أفضل، وأدوية مضادة للفيروسات، وغير ذلك من التدابير المضادة، وبناء البنية الأساسية على النطاق المطلوب لحماية السكان بالكامل. ورغم أن مثل هذه الجهود سوف تكون مكلفة، فإن الفشل في اتخاذ هذه الخطوات قد يكون كارثيا.

ورغم أن فيروس H5N1 لم يتسبب قط في حدوث جائحة بين البشر، فقد ظل على رادار الصحة العامة لعقود من الزمان، تم التعرف عليه لأول مرة في أواخر عام 1996، عندما بدأ فيروس إنفلونزا جديد، عُرف في البداية باسم H5N1 شديد العدوى بين الطيور بين أنواع الطيور في آسيا. وتصنف سلالات الإنفلونزا وفقا لخصائص بروتينيْن، هما الهيماجلوتينين والنورامينيداز، على سطح جسيم الفيروس. وقد اكتسب الفيروس اهتماما دوليا بعد أن تسبب في تفشيه عام 1997 في هونج كونج، مما أسفر عن موت ستة من المصابين الـ18. وللسيطرة على انتشاره، اضطرت هونج كونج إلى إعدام ملايين الدواجن في أسواقها ومن المزارع الموردة.

وفي ديسمبر 2003، عاود فيروس H5N1 الظهور. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، نقلت الطيور البرية الفيروس إلى الطيور المائية والدجاج في آسيا وإفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. كما أصاب الفيروس عددا محدودا من الثدييات، بما في ذلك النمور في حدائق الحيوان في تايلند، ثم انتقل في نهاية المطاف إلى 148 إنسانا في خمس دول آسيوية. وقد ثبت أن 79 من هذه الحالات ـ53%ـ كانت قاتلة. ومع انتشار الفيروس، ازداد قلق المسؤولين عن الصحة العامة من أن العالم أصبح على شفا جائحة مدمرة.

في عام 2005، وفي ذروة هذا الخوف، كتب أوسترهولم مقالا في Foreign Affairs يشرح فيه كيف ينبغي للحكومات أن تستعد لمثل هذا السيناريو. وأشار المقال إلى أن خطط الاستجابة للوباء التي وضعتها منظمة الصحة العالمية والعديد من البلدان غامضة ولم تقدم مخططا واقعيا لكيفية مساعدة السكان على تجاوز جائحة محتملة تتراوح مدتها من عام إلى ثلاثة أعوام. وأوصى المقال بمبادرة لتوفير اللقاحات للعالم أجمع، مع جدول زمني محدد جيدا لضمان تنفيذها في الوقت المناسب.

لحسن الحظ، لم يتسبب فيروس H5N1 في حدوث جائحة عام 2005، ولكن في أواخر عام 2019، تسبب فيروس مختلف في ذلك. كان فيروس COVID-19 فيروسا تاجيا جديدا -يُسمى بهذا الاسم بسبب الأشواك البروتينية على سطح الفيروس والتي تمنحه مظهرا يشبه الهالة أو التاج- بدأ في إصابة الآلاف من الناس في ووهان بالصين. وسرعان ما انتشر في جميع أنحاء الصين، ثم القارة، ثم العالم. في عامه الأول، أصاب فيروس COVID-19 مئات الملايين من الناس وقتل ثلاثة ملايين على الأقل.

إن أوبئة الإنفلونزا ليست ظاهرة جديدة. ففي الفترة من عام 2009 إلى عام 2010، انتشر فيروس H1N1 -المعروف شعبيا باسم إنفلونزا الخنازير- بسرعة في مختلف أنحاء العالم، فقتل نحو 575 ألف شخص. وفي الولايات المتحدة، قدرت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن 60.8 مليون شخص أصيبوا بالعدوى، وأن 273.300 شخص دخلوا المستشفيات، وأن 12.469 شخصا توفوا. وكان هذا المستوى من المرض والوفيات مأساويا، ولكن بالنسبة لجائحة إنفلونزا، كان معتدلا نسبيا. ففي نهاية المطاف، قتلت جائحة الإنفلونزا عام 1918، المعروف أيضا باسم H1N1، ما بين 50 مليونا و100 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم، أو ما لا يقل عن 2.7% من سكان العالم.

قد يكون من المغري أن نستنتج أن جائحة 2009 كانت أقل فتكا من نظيرتها في عام 1918 بسبب 90 عاما من التقدم الطبي، بما في ذلك اللقاحات المحسنة. ولكن من المؤسف أن هذا الاستنتاج غير صحيح. ذلك أن فيروس 2009 كان ببساطة أقل ضراوة من الفيروس الذي انتشر في عام 1918. فضلا عن ذلك فإن الفئة الأكثر ضعفا -الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما- كانت لديها بالفعل أجسام مضادة لفيروس H1N1، وذلك بفضل الإصابات السابقة بالفيروسات ذات الصلة.

كما أظهر انتشار كوفيد-19، فالعالم اليوم ليس أفضل استعدادا للأوبئة مما كان عليه قبل قرن من الزمان، بل إنه أسوأ حالا في بعض النواحي. فاليوم، أصبح عدد السكان ثلاثة أضعاف عددهم في عام 1918. ويعيش مئات الملايين بالقرب من الدواجن والخنازير. ويمكن للسفر الجوي أن ينقل حاملي العدوى إلى أي مكان في العالم في غضون ساعات. (هناك أكثر من مليار عبور حدودي دولي سنويا). بعبارة أخرى، أصبحت البشرية وعاء خلط بيولوجيا فعال بشكل غير عادي فضلا عن مصنع طفرات فيروسية عالي الإنتاجية.

لكن هذا لا يعني أن جائحة H5N1 وشيكة الحدوث، ذلك أن منظمة الصحة العالمية ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية تقدران المخاطر الحالية التي يشكلها فيروس H5N1 على البشر منخفضة. وحتى الآن، لا توجد أدلة دامغة على أن الفيروس الحالي أصبح أفضل في الالتصاق بمواقع المستقبلات الخاصة بالإنفلونزا في الجهاز التنفسي البشري، وهو الحاجز الحرج الذي يتعين على فيروس H5N1 أن يتجاوزه قبل أن يتسبب في حدوث جائحة. وحتى الآن، كانت النتيجة الأولية لإصابة البشر بفيروس H5N1 في الولايات المتحدة هي التهاب الملتحمة. وهذا ليس مفاجئا لأن البشر لديهم مواقع مستقبلات للفيروسات التي تصيب الطيور في أعينهم.

ولكن الطبيعة قد تتغير بسرعة. تتحور الفيروسات وتعيد ترتيب نفسها باستمرار. وقد يحدث إعادة ترتيب فيروسات الإنفلونزا عندما يصاب الإنسان أو الخنزير أو البقرة في وقت واحد بفيروسين مختلفين، مما يتيح الفرصة للفيروسات المسببة للأمراض لتبادل الأجزاء الجينية الحرجة وخلق سلالات جديدة. وبالتأكيد سيكون هناك المزيد من أوبئة الإنفلونزا وفيروس كورونا، وأي منها قد يكون أكثر كارثية من جائحة كوفيد-19.

حان الوقت لكي تستيقظ جميع الدول وتستعد لوباء جديد. ويجب أن يكون على رأس القائمة تحسين الإجراءات الطبية التي تتخذها الحكومات لمكافحة فيروسات الإنفلونزا وفيروسات كورونا. وهذا يعني على وجه التحديد اللقاحات والعلاجات الدوائية والاختبارات التشخيصية. كما سيكون تحسين التصميم والأنظمة اللازمة لتصنيع معدات الحماية الشخصية بسرعة وبأعداد كافية أمرا ضروريا أيضا. ويجب على الحكومات أن تبدأ في الاستثمار بكثافة في أبحاث وتطوير اللقاحات، بما في ذلك الدراسات التي تهدف إلى إنشاء لقاحات عالمية ضد الإنفلونزا وفيروس كورونا: تلك التي توفر الحماية ضد سلالات متعددة من أي من الفيروسين، وتوفر حماية دائمة لفترات طويلة، ويمكن تصنيعها بسرعة وتوزيعها عالميا.

ولكي تكون اللقاحات المحسنة فعّالة بالكامل، فلابد وأن تكون آمنة وتوفر حماية لسنوات عديدة ضد معظم سلالات الإنفلونزا المحتملة. ولا بد وأن تقلل بشكل كبير من احتمالات الإصابة بأمراض خطيرة، والاستشفاء، والوفاة، فضلا عن منع العدوى وانتقالها. ولا بد أن يتم إنتاجها وإعطاؤها بشكل روتيني للسكان بشكل عام قبل ظهور فيروس الجائحة، وأن تكون متاحة بسهولة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ولا يزال الباحثون بعيدين كل البعد عن ابتكار مثل هذا اللقاح، وإن كانت التطورات الحالية في المختبر تشير إلى أنه ممكن. ولكن على المستوى الحالي من الدعم للبحث والتطوير، فقد يستغرق الأمر عقدا من الزمان أو أكثر لإنتاج هذه اللقاحات. لكن مع دعم حكومي أكبر، فمن المؤكد أن هذا الجدول الزمني يمكن اختصاره.

وإلى أن يتم إنشاء هذه اللقاحات العالمية أو شبه العالمية، يحتاج صناع السياسات إلى العمل مع لقاحات الإنفلونزا وكوفيد-19 المتاحة حاليا. تفتقر لقاحات كوفيد-19 والإنفلونزا إلى الاستمرارية. ففي دراسة حديثة، وجدت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية أن تطعيمات كوفيد-19 توفر حماية بنسبة 54% تقريبا أمام الحاجة إلى الرعاية الطبية في المتوسط بعد 52 يوما من التطعيم. ووفقا لدراسة مختلفة، يفقد اللقاح كل قوته الوقائية تقريبا بعد عام. والحماية الحالية للقاح الإنفلونزا أقصر، حيث تبدأ في الانخفاض بعد شهر أو شهرين فقط.

يدرك خبراء الصحة العامة ومسؤولو الصحة الحكوميون التهديد الذي تشكله جائحة آخر، وقد أطلقوا مجموعة متنوعة من المبادرات للتخفيف من حدته. وقد حدد تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI) -الذي يركز على تطوير اللقاحات والعلاجات للأمراض المعدية- خطة لتقديم «لقاحات تتغلب على الأوبئة» في خلال 100 يوم من إعلان منظمة الصحة العالمية.

وقد حدد التحالف خمسة مجالات من الابتكار اللازمة لجعل هذا حقيقة واقعة: إنشاء مكتبة من اللقاحات النموذجية لمسببات الأمراض عبر عائلات فيروسية متعددة، وتجهيز شبكات التجارب السريرية، وتسريع تحديد علامات الاستجابة المناعية، وبناء القدرة العالمية على تصنيع اللقاحات، وتعزيز مراقبة الأمراض وأنظمة الإنذار المبكر العالمية. وإذا تحققت هذه الابتكارات، فإنها من شأنها أن تحسن بشكل كبير من استعداد العالم للأوبئة. ولكن مع مستويات التمويل الحالية، فإن هذا المشروع طموح للغاية ومن غير المرجح أن يتحقق خلال العقد المقبل سواء بالنسبة للإنفلونزا أو فيروسات كورونا.

حتى الآن، حددت المبادرة أكثر من 420 مشروعا تعالج هدفا استراتيجيا واحدا على الأقل، بإجمالي أكثر من 1.4 مليار دولار، حيث تمول وكالات الحكومة الأمريكية ما يقرب من 85٪ من دراسات البحث هذه.

للوهلة الأولى، قد تبدو التكاليف باهظة للغاية. ولكن مع حساب المخاطر، إذا تسبب فيروس H5N1، أو أي فيروس آخر ينتقل عبر الهواء ويبدأ في الانتشار بين البشر، في حدوث جائحة بمعدل وفيات أعلى بنسبة ثلاثة إلى خمسة في المائة من فيروس كوفيد، فإن العالم يخوض حربا ضد عدو ميكروبي مرعب.

بطبيعة الحال، من الممكن ألا ينشأ مثل هذا الوباء أبدا أو لا يحدث لسنوات عديدة. لكن الأمل ليس استراتيجية. يحتاج العالم إلى البدء في تخصيص الموارد اللازمة لتطوير لقاحات وعلاجات أفضل على الفور.

مايكل أوسترهولم عالم أوبئة أمريكي وأستاذ في كلية الصحة العامة في جامعة مينيسوتا.

مارك أولشاكر كاتب أمريكي متخصص في الكتابة حول علم النفس الجنائي والتحقيقيات.

الترجمة عن «Foreign Affairs»