(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) سورة الحج/46

***

عرف تاريخ الأدب تجارب وعبقريات استثنائية من الأكفّاء الذين فقدوا حاسة البصر. وقد شكّل هؤلاء العباقرة علامات فارقة في خارطة الإبداع الإنساني على مر العصور. وقد أثارت هذه الظاهرة اللافتة الكثير من الأسئلة العميقة والمعقدة لدى الباحثين، ليس على المستوى الأدبي والفني فحسب، وإنما على مستوى علماء النفس والمشتغلين بدراسة الذات الإنسانية وسبر أغوارها. ويرى الكثير من الباحثين أن المبدع الكفيف يتجه بحواسه إلى الداخل العميق من ذاته، إلى الأعماق الأكثر صفاء ونقاء، ليصغي إلى أصوات الروح ويشاهد العالم منعكسا على مراياها الصافية، حيث يتجلى الوجود في صيغة جمالية باهرة لا يدركها إلا الرائي بنفسه، هناك بعيدا في مخيلته المبدعة، فهو وإن لم يكن يرى الأشياء في تمثلاتها المادية الظاهرة ببصره، فإنه يراها بملكاته الاستثنائية عبر قوى الحدس والتخييل التي نعبر عنها بالبصيرة.

وفي تاريخ الشعر العربي تبرز لنا نماذج كبرى من فاقدي البصر المبدعين. وأبرز مثال يذكر هنا الشاعر بشار بن برد الذي كان أعمى منذ ولادته، ومع ذلك كتب أجمل أشعار الحب والغزل وكان يتشبب بالنساء ويتفنن في وصف جمالهن وذكر محاسنهن، وهو لم يرَ امرأة في حياته كلها، ولكنه كان يبرر ذلك بأن سمعه يحل محل بصره لاستكناه الجمال ووصفه. وقد قال في ذلك شعرا أوجزه في هذين البيتين الخالدين:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم:

الأذن كالعين توفي القلب ما كانا!

ومن العبقريات الشعرية الفارقة أيضا في مدونة الشعر العربي تجربة الشاعر الضرير أبي العلاء المعري، فهو شاعر استثنائي وفيلسوف مفكر ونحوي بليغ، ويُعد أحد أبرز أعلام الحضارة الإسلامية، فقد بصره إثر إصابته بالجدري في الرابعة من العمر، ولكن ذلك لم يكن عائقا له دون تحصيل العلم وتحقيق المعرفة، حتى ذاع صيته وبات أحد مفاخر الثقافة العربية. ولئن شغل المعري في شعره بقضايا الفلسفة وأسئلة الوجود، فإن شعره لم يخل أيضا من وصف المرأة والتغزل بالجمال، شأنه في ذلك شأن ابن برد وغيره من الشعراء غير المبصرين.

وفي الآداب العالمية تبرز تجارب شعرية خالدة عبر التاريخ، ممن فقدوا البصر، ولعل أبرز هؤلاء الشاعر الإغريقي الأسطوري هوميروس، صاحب الملحمتين الشهيرتين (الإلياذة) و(الأوديسة) اللتين تعدان من أعظم الأعمال الإنسانية العابرة للزمان والمكان.

ويأتي الشاعر والأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في مقدمة الكتّاب الذين تناولوا موضوع العمى ووظفوه أدبيا، رغم إصابته بالعمى في وقت متأخر من العمر، حيث فقد بصره على نحو متدرج، وبلغ المرحلة الأقصى في تجربة العمى في سن الخمسين، وعاش بعدها تجربة العيش في الظلام التي وصفها بالمرحلة التي تستبدل السمع بالبصر، ليكتب عن هذه التجربة منجزا إبداعيا وفلسفيا خالدا، علما بأن بورخيس لم يفقد بصره كليا وإنما ظل قادرا على رؤية بعض الألوان وتمييزها.

أما في التراث العُماني فإننا نجد تجارب شعرية كُبرى ممن فقدوا بصرهم، لا يقلّون أهمية ومنجزا عن التجارب العربية والعالمية التي ذكرناها. ونذكر هنا على سبيل المثال أسماء بارزة ومؤثّرة مثل تجربة الشاعر الحبسي، وهو شاعر اليعاربة دون منازع، والشاعر راشد الرواحي، الذي قيل إنه أشعر أهل زمانه على عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، والعلامة الشاعر نور الدين السالمي، الذي سجلته اليونسكو في قائمة الشخصيات المؤثرة عالميا، والشاعر الشيخ عبدالله بن ماجد الحضرمي، وغيرهم الكثير. ولكن اللافت في التجربة العُمانية أن الشاعر العُماني لم يكن متذمرا ولا سوداويا أو انهزاميا يائسا في قصائده، وإنما كان متفاعلا مع الواقع ويشارك في أحداث المجتمع، بل ويصنعها في أحيان كثيرة، فهو شخصية عصامية قوية راسخة، لم يكن العمى بالنسبة لها سوى فقدان حاسة واحدة، فاتجه إلى استمثار طاقاته وقدراته الأخرى التي وجد فيها بديلا عن حاسة البصر. ونستعرض هنا جوانب من سِير هؤلاء الشعراء الأربعة ومكانتهم العلمية والأدبية والاجتماعية.

1 ـ راشد الحبسي

عَلم من أعلام الشعر والأدب في عُمان، يعتبره الكثير من الباحثين والدارسين شاعر المرحلة اليعربية في التاريخ العُماني بلا منازع، رغم بزوغ أسماء كبيرة في تلك الحقبة، إلا أن الحبسي يظل الاسم الأبرز خلال عصر اليعاربة الذي استمر قرابة خمس مائة عام. هو الشاعر «راشد بن خميس بن جمعة الحبسي (ق: 11- 12 هـ/ 17 – 18م)، من بلدة بني صارخ بعبري. ولد سنة 1089 هـ/ 1678م، ولا يُعرف تاريخ وفاته. أصيب بالعمى وهو ابن ستة أشهر، ونشأ فقيرا يتيما، حيث مات أبواه وهو ابن سبع سنين ولم يكن له عائل يعوله» . «فنزل جبرين مسكن الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف بن مالك اليعربي فربّاه وأحسن إليه غاية الإحسان، وتعلم في ظله القرآن والنحو والصرف واللغة من العلوم المفيدة وخرج شاعرا مجيدا وأديبا حاذقا. ولما مات هذا الإمام انتقل إلى أرض الحزم من ناحية الرستاق، مسكن أخيه الإمام سيف بن سلطان قيد الأرض فأقام بها إلى أن مات الإمام ثم ارتحل إلى نزوى واتخذها وطنا» . «له ديوان مطبوع باسم (ديوان الحبسي)، قام بجمعه سليمان بن بلعرب بن عامر النزوي، وقد قام بجمعه من الشاعر بنفسه ومن أفواه المعاصرين له» . ويعد الحبسي «أهم شعراء عصر اليعاربة بل إنه يوصف بشاعر اليعاربة» . ومن قوله في مديح الإمام بلعرب:

وقائل مَن ملوك الأرض خائفةٌ

منه، وتحمده في السر والعلنِ

ومن إذا سار في جيش تضيق به

وسع البلاد ووسع السهل والقننِ

جيش يبيد العدا في البر، يعقبه

جيش يبيد أهيل الشرك في السفنِ

ومن إذا قال قولا قال أحسنه

أو جاد أخجل جود العارض الهتنِ

ومن إذا ثار في الهيجاء يفعل في

أعدائه فعلة الجزار في البدنِ

ومن إذا فاخر الأشراف في ملأ

شاعت مفاخره في الشام واليمنِ

لقد شاء القدر أن يحرم شاعرنا نعنمتين منذ الطفولة، وهما: نعمة البصر ونعمة حنان الأبوين، فلقد فقد بصره وهو ابن ستة أشهر، ومات أبواه وهو في السابعة من عمره، فإذا أضفنا إلى ذلك أن أبويه تركاه وحيدا بلا أنيس يؤنسه، ولا مال يسنده، أدركنا مدى الأهوال الجسام التي كابدها الشاعر وهو لما يزل في هذه السن الغريرة التي تحتاج إلى الدفء والحنان والرعاية .

ولكن عناية الله بهذا الشاعر قد شاءت تعوضه عن البصر بنور البصيرة وعن حضن الوالدين برعاية أئمة اليعاربة الذين نشأ في كنفهم وحظي في ظلهم بالعناية والتقدير.» فالنور الذي انطفأ من عينيه بسبب إهمال أسرته وضعف الرعاية الصحية وهو لما يزل غرير العمر طري البنان، ذهب إلى القلب ليرى بعين بصيرته، وإلى الأذن ليقوي إحساسها ويزيد رهافتها، وإلى اللسان ليطلق عنانه بالفصاحة والبديهة، وأيضا ليفجر الطاقة الشعرية الكامنة لدى الشاعر منذ حداثة سنه، ليحدث معادلة بين ما فقده إحساسه الخارجي ليعوضه إحساسه الداخلي». ورحل الحبسي عن هذا العالم جسدا، ولكنه بقي خالدا في شعره الذي يتداوله الناس على مر الأزمنة والدهور.

2 ـ راشد الرواحي

قامة شعرية عُمانية سامقة، يذكّرُنا بالكثير من الشعراء النوابغ الذين رحلوا عن الدنيا دون أن تجمع قصائدهم في كتاب، ورغم ذلك بقي اسم هذا الشاعر خالدا في الذاكرة العُمانية، نظرا لأصالة إبداعه وعمق تجربته، حتى بات يُعرف بأنه أشهر أهل زمانه في عُمان قاطبة. هو الشاعر راشد بن سعيد بن بلحسن الرواحي العبسي (ق: هـ12/ 18م). «لا تحدد المصادر تاريخ ولادته ونشأته العلمية، وتذكر أنه من إزكي بمحافظة الداخلية، وكان ضريرا» . قال عنه الخصيبي في (شقائق النعمان): «وهو جيد الشعر حاذق ماهر» . «له مجموعة من القصائد المتفرقة والمتناثرة، وهي مدونة في كثير من المخطوطات العُمانية» .

برز نجم الشاعر راشد الرواحي في عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي. يقول ابن رزيق في (الفتح المبين): «كان الشاعر المشهور في زمانه، وأشعر شعراء عُمان على الإطلاق الشيخ الفصيح راشد بن سعيد بن بلحسن العبسي الأعمى الضرير».

ويقول الشيخ سالم بن حود السيابي في كتابه (العنوان)، في سياق الحديث عن الإمام أحمد بن سعيد: «وكان شاعره الأعمى أشعر الشعراء في زمانه، راشد بن سعيد البلحسني الرواحي. وله فيه مدائح غرا، وقصائد طنانة فيحا ذكرها التاريخ، وهي من الأدب العُماني الشهير» . ومن أمثلة ذلك قوله:

إذا شئتَ سيرا للهدايةِ والتقى

فما لهُما غيرُ الإمامِ طريقُ

يقود بفُتياه العُماةَ إلى الهدى

وسُحب المنايا للعداة بروقُ

فتىً يلحق الإملاكَ ما هو طالبٌ

وليس لذي ملكٍ إليه لحوقُ

3 ـ نور الدين السالمي

إنه المُفكّر الفذ، والمصلح المجدد، والمحقق الذي لا يشق له غبار، عبقرية زمانه وإمام أوانه، وأحد النوايغ الذين أنجبتهم عُمان. له إسهامات كبيرة وجليلة في الدين والتاريخ والأدب وقضايا المجتمع وشؤون السياسة. هو العلامة عبدالله بن حميد بن سلوم السالمي، الملقّب بنور الدين، وهو يُعد من أعلام الثقافة والأدب في العصر الحديث في عُمان. من بلدة الحوقين من ولاية الرستاق، وقد كف بصره وهو في الثانية عشرة من العمر. ولم ييأس السالمي حينما أظلمت الحياة في وجهه بفقدان بصره، ولم يرمِ الراية أو يعلن الاستسلام، بل أشعل سراج الروح الذي لا ينطفئ، وسلك طريق المعرفة المضيء، وتنقل بين المدن والحواضر العمانية باحثا عن المعرفة وناشرا لها، حتى عرفته عمان قاطبة كأحد رموزها الخالدين. واللافت في تجربة السالمي أنه بدأ التأليف وهو في السابعة عشر من العمر، وترك إرثا معرفيا ضخما، وقد ألّف كل كتبه بعد فقدان بصره.

«لقد عانى السالمي من تقلب الزمن، وتألم من واقع المجتمع، وذاق مرارة اللوعة والحزن، فاحترقت احشاؤه، ففاضت نفسه حسرة وألما» . «وُلِدَ الطفل عبدالله (نورد الدين) في تلك الظروف الصعبة، من الاضطرابات والقلاقل، ومن الصراعات بين القبائل، ونشأ مع أسرته، وقاسمها أفراحها وسراءها حينا، وشاطرها أحزانها وضراءها في كثير من الأحيان، ولا شك أن لمثل هذه الأحداث أثرا على نفس الإنسان: إما ضعفا واستسلاما وانهزاما، وإما صبرا على تحمل الشدائد، وقوة في النفس وعزة وإقداما. والشيخ السالمي اختار الطريق الثاني».

وقد كان السالمي مثالا للمثقف العضوي الذي يتفاعل مع قضايا الواقع، فكان صاحب رسالة ومشروع، سخّر معارفه ومكانته الاجتماعية لخدمة أهدافه، فكان نتاجه المعرفي والأدبي صورة حقيقة لمنظوره الحياتي. يقول في إحدى قصائده في مجابهة الخصوم والمثبطين:

مالي وللإنذال والغوغاء

يرمونني بالبغض والشحناء

يدعونني للعجز عن طلب العلا

ودعوتهم للمجد والعياء

عاش السالمي حياة حافلة بالعلم والعطاء، وقد توفي في سن الثامنة والأربعين، في تنوف بمحافظة الداخلية، «وكان قد ذهب إليها لإصلاح خلاف بينه وبين ماجد بن خميس العبري بسبب فتوى، فسقط من فوق راحلته قبل أن يصل فتوفي ودفن فيها عام 1332ه (1914م)».

4 ـ عبدالله الحضرمي

هو أحد الذين أوقدوا شعلة الشعر حين انطفأت أمامهم فضاءات العالم، فرسم بشعره أجمل اللوحات التي لا يمكن أن يأتي بمثلها كثير من المبصرين. إنه الشاعر عبدالله بن ماجد بن ناصر الحضرمي، ولد في بلدة فرق بولاية نزوى. «كان ضرير البصر، وكان أديبا مثقفا، وفصيحا بليغا، وله ديوان شعر (مط)، وقد جاء في مواضيع متعددة، وإن كان أكثره في مديح الشيخ خلفان بن جميل السيابي». قال عنه الخصيبي في (الشقائق): «وهو أعمى ولكنه ذو بصيرة وإدراك، وهو من طبقة الشعراء المجيدين، فشعره في غاية الجزالة والرقة، قد جاء في مواضيع مختلفة» . وقد قال متغزلا:

سلام حكى الوردَ في الأغصنِ

وزهر البُنفسجِ والسوسنِ

وحسن النوارِ كما الجلّنارِ

وشمس النهار على الأعينِ

ومن الأغراض الشعرية التي كتب فيها الشاعر عبدالله الحضرمي: «المدح والرثاء والإخوانيات والألغاز والحكم. توفي إثر سقوطه من الجبل الأخضر عائدا من الرستاق إلى الحمراء في شعبان 1335 هـ (يوليو 1917م)» . وهكذا يغادر الشاعر وتبقى قصائده حية تتلوها الأجيال المتعاقبة.

كوكبة من حاملي الشعلة

وإلى جانب هؤلاء الشعراء الأربعة الكبار تذكر المصادر العلمية والأدبية والتاريخية في عُمان نخبة من العلماء فاقدي البصر، من الذين قرضوا الشعر وأبدعوا في فنون الأدب واللغة والدين، وكان لهم إسهام كبير في حقول المعرفة والإبداع، مثل الربيع بن المر بن نصيب المزروعي، وهو من شعراء القرن العشرين، من ولاية الرستاق. تولى التدريس في مسجد الخور بأمر من السلطان سعيد بن تيمور، وبقي فيه إلى أن وافته المنية. ومن هؤلاء الأفذاذ القاضي الفقيه الناظم محمد بن حمد الزاملي، من ولاية السويق، وهو من علماء القرن العشرين، انتقل إلى الرستاق حيث تلقى العلم، ثم عمل في التدريس في جامع البياضة، وتولى القضاء في الرستاق أيضا. له عدة منظومات شعرية متفرقة، أبرزها منظومة طويلة في علم النحو، أتمها سعيد بن خلف الخروصي، وتولى شرحها سيف بن محمد الفارسي في كتاب أسماه (البركة بشرح القصيدة النحوية المشتركة). كما تذكر المصادر شاعرا ضريرا عمانيا آخر وهو جمعة بن سعيّد اليحمدي، من ولاية نخل، وهو من شعراء القرن العشرين. تصفه المصادر بأنه كان قوي الذاكرة نفاذ البصيرة، حتى أنه كان يسلك الطريق وحده دون مساعد أو دليل، حتى أنّ من يراه يظنه بصيرا. ومن شعراء القرن العشرين الذين فقدوا البصر من شعراء عُمان مسعود الضرير، وكان من مظاهر بصيرته أنه كان يقلي البن بمفرده ويعرف استواءه ونضجه بواسطة حاسة الشم. ومن العبقريات العلمية والأدبية العُمانية في القرن العشرين الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي، الذي فقد البصر وهو لم يتجاوز الثالثة من العمر. عُرف الدكتور إبراهيم الكندي بغزارة علمه في علوم اللغة والدين، وله إسهام بارز في نشر العلم عبر التدريس وعبر برامجه الإعلامية الكثيرة. نال وسام الاستحقاق الوطني من لدن جلالة السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، نظير عطائه ومسيرته العلمية الكبيرة. من أشعاره (حلية الأديب: نظم مغني اللبيب)، وهي منظومة لكتاب (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) للعالم النحوي ابن هشام النصاري المصري.

مفاخر عُمانية

إن ما ذكرناه يدلل بما لا يدع مجالا للشك بأن المشهد الثقافي العُماني عرف تجارب شعرية استثنائية من فاقدي البصر، كان لها حضورها المؤثر، وقد تركت إرثا إبداعيا ضخما، يضاهي ما تركهم نظراؤهم من كبار المبدعين العالميين والعرب، ولم يكن فقدان البصر حائلا لهم دون النهوض بأدوارهم الثقافية والوطنية، بل تجاوزوا هذه الإعاقة الصعبة بعزيمة الأقوياء وبإرادة صلبة كتبت أسماءهم بحروف من نور على جبين الزمن وخلدت أسماءهم في ذاكرة التاريخ، فباتوا عصيين على النسيان، راسخين في الوجدان العُماني رسوخ جبال عُمان ونخيلها، ساطعين في جبينها سطوع شموس سمائها الأزلية، مانحين هباتهم الغزيرة مثل بحارها الأسطورية التي لا تنضب.