مقدمة:

لم تعد الحياة قبل كورونا وبعدها كما هي، بل أصبح تأثير الوباء العالمي واضحا في كل مفاصل الحياة المختلفة، وبصمة لا تُمحى في ذهن المعاصرين لهذا الحدث، وهذا لا يقتصر على الجانب الصحي والنفسي فقط، بل يمتد وبدرجة موازية للجانب الاقتصادي موضوع هذه الورقة، الذي تأثر كثيرا أيضا بهذا الوباء وطرق التعامل مع كل تفاصيله المعقدة المختلفة. وبالرغم من الأمراض والانعكاسات الصحية المباشرة له على حياة الأفراد، إلا أن الخسائر الاقتصادية التي تكبلتها الدول والأفراد على حد سواء نتيجة لهذه الجائحة، كانت كفيلة بإحداث تغييرات هيكلية ليس في طرق التعامل مع الأوبئة فقط، بل أيضا في طرق التعامل مع الأنماط الاقتصادية، ومن ضمنها طرق العمل وأنماطه المختلفة، التي كانت مهيمنة لفترات زمنية طويلة، حتى ليظن المرء بأنها خالدة مخلدة أبد الدهر.

تتناول هذه الورقة التحولات الهيكلية التي طالت النظام الرأسمالي بداية من النظرية الكلاسيكية في المقام الأول، وذلك من خلال التطرق لبعض المحطات الرئيسية في المسار الرأسمالي والحديث بشكل مختصر، والمسار المضاد لها المتمثل في الماركسية، الذي يعتبر كمرآة عاكسة لهذه التحولات وكنقد عميق للنقص الطبيعي الذي تعاني منه النظرية، كما تتطرق ثانيا، للنمط الاقتصادي الذي يتشكل في الفترة الراهنة، وتحديدا فترة ما بعد كورونا من جهة، وتزايد حضور التقنية من الجهة الأخرى، وتأثير ذلك ليس على النمط المعيشي للفرد فقط، بل أيضا على النمط الاقتصادي الذي يحكم العلاقات المتبادلة بين الأفراد والمؤسسات الاقتصادية المختلفة في نفس الوقت أيضا.

1- النظرية الكلاسيكية للاقتصاد:

في الحديث عن النظريات الاقتصادية التي هيمنت على العالم لفترة زمنية طويلة، سواء على مستوى النظرية أم على مستوى الممارسة والتطبيق، لا يمكن تجاهل الأهمية الكبيرة التي حازها الاقتصادي الإسكتلندي آدم سميث Adam Smith (1723م – 1790م)، وذلك من خلال عمله الأساسي ثروة الأمم Wealth of Nations المنشور عام 1776م، وعمله الثاني الذي لا يقل أهمية عن سابقه، نظرية المشاعر الأخلاقية The Theory Of Moral Sentiments المنشور قبل ذلك عام 1759م، حيث كانت رؤيته ثورية مقارنة مع الفكرة المركنتيلية Mercantilism السائدة في أوروبا آنذاك من القرن السادس عشر لغاية القرن الثامن عشر، والتي ترى بأن «ثروة الأمم هي مقدار ما تمتلكه من مال، وهذا يعني ضمنا أن الأمة إذا أرادت أن تكون أكثر ثراء، فهي تحتاج إلى بيع أكبر قدر ممكن مما تملكه للآخرين، حتى تحصل على أكبر قدر ممكن من المال في المقابل، وأن تشتري أقل قدر ممكن من الآخرين، وذلك كي تحول دون تسرب احتياطها النقدي إلى الخارج»(1)، فالهدف الأساسي للمركنتيلية في تلك الفترة هو تجميع المال المتمثل في الذهب والفضة بأي طريقة كانت، دونما الحاجة للاستيراد والتصدير من الدول الأخرى. في حين أن رؤية سميث والذي عُرف في تلك الفترة بمؤسس الاقتصاد الحديث تذهب في اتجاهات مختلفة، ومشارب متنوعة، ففي عمله الأول ثروة الأمم كان يهدف لتقديم اقتصاد بديل عن النظام المركنتيلي السائد، والذي يقوم على الثروة والنمو الاقتصادي، فبالإضافة للأهمية القصوى لتقسيم العمل وبشكل خاص على الصناعات الصغيرة كالدبابيس كما هو المثال الشهير، نجد أن هذا التقسيم يسهم في تنفيذ العمل وتصنيعه وتجويده، كما يسهم أيضا في قياس عمل كل فرد على حدة، وقياس إنتاجيته ودقته وغيرها من المقاييس المختلفة، حيث يأتي الإنتاج وبالتالي تبادل السلع والمنتجات، وهو المحصلة الطبيعية لتقسيم العمل والثمرة المنتظرة له، لا يقوم دون توفر عوامل أساسية بحسب وجهة نظر سميث، وهي الحرية الاقتصادية Economic Freedom الأمر الذي أطلق على نموذجه اسم «نظام الحرية الطبيعية(2)»system of natural liberty»، حيث يتعزز هذا النظام من خلال ترك مطلق الحُرية للأفراد فيما يفعلونه بعملهم وقوتهم وممتلكاتهم، وهي طبيعية لأنها تتوافق مع الطبيعة البشرية التي تتيح لهم حرية التصرف بكل استقلالية، وترتيب أنفسهم بناء على تقسيم مجتمعي للعمل يهدف لرفع الإنتاجية. فالسؤال الأساسي لثروة الأمم كان يتمحور بشكل أساسي حول مفاتيح الثروة والمال، وهل تنشأ من التراكم والاستحواذ كما هي النظرية السائدة آنذاك أم من العمل المنُتج والتبادل الحُر بين الأفراد؟

فالحرية الاقتصادية لا تؤدي إلى حياة مادية أفضل فحسب، بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان، كما يرى سميث. بهذا المعنى، فهي لا تُشكل تضاربا في المصالح، بقدر ما تسهم في انسجام المصالح وتوافقها بين الأفراد بين بعضهم البعض. فهي تشمل طيفا واسعا من التسهيلات التي تتضمن شراء البضائع من أي مصدر كان، بما في ذلك المنتجات الأجنبية، دن قيود التعرفة الجمركية، والحق في التنقل والمتاجرة في البضائع والسلع المختلفة، كما تشمل أيضا الحق في تحديد الأجور بما يتناسب مع العرض والطلب من جهة، ونوعية الوظائف ومستواها من الجهة الأخرى. وهذا يشير إلى أن تدخل الدولة في هذا الجانب مرفوض، ولا يمكنها تنظيم الأجور بين العامل وصاحب العمل. الأمر الذي يؤسس للحق في الادخار والاستثمار وتراكم رأس المال دون قيود حكومية أو شروط تفرض من طرف على حساب طرف آخر.

في مقابل ذلك، نجد أن الطبيعة البشرية أو المشاعر الأخلاقية كما هو عنوان عمل سميث الثاني، وهو الموضوع الذي سيطر على جانب كبير من النقاشات الفلسفية والدينية والاقتصادية وغيرها في السياق الأوروبي تحديدا، تتضمن جوانب مختلفة منها الإيجابي ومنها السلبي بطبيعة الحال، غير أنه في الحالتين من الضروري الاعتراف بهما، والسعي لوضعهما ضمن نطاق الجانب المفيد، والنافع، من جهة، وقابلية القياس من الجهة الأخرى، بما تسهم في تكوين الثروات والازدهار عن طريق نظام السوق الحُر بشكل أساسي، وعن طريق تضافر عوامل مختلفة، من أهمها الحُرية، والتنافس في إنتاج وتبادل السلع والخدمات، والعدل الذي يحكم تصرفات الأفراد وذلك وفق قواعد المجتمع المتعارف عليها، والعقود المبرمة بين الأفراد.

غير أن هناك صفات أخرى لا يمكن تغافلها أو تجاهلها، بل من الضروري أخذها بالحسبان أو بعين الاعتبار، كالأنانية وحب الذات التي تتحكم في الفعل البشري بشكل كبير، تقابلها الإيثار، والشفقة والتعاطف مع الآخرين الذي يدفع الأفراد للقيام بالكثير من الأفعال التي تقع خارج نطاق الربح والخسارة بالمعنى الاقتصادي من جهة، وخارج الرجاء الأخروي من الجهة الأخرى. تنتج هذه الصفات الثروة وتجعلها محتكرة لدى أفراد معينين، في حين أنها تجعل بقية الأفراد خاضعين لهم، الأمر الذي ينُتج بشكل شبه طبيعي حالة من تركز الثروات لدى فئة معينة، بسبب الجهود والمهارات الفردية المتباينة، وليس بسبب الولادة التي لا دخل للإنسان فيها، كولادته ضمن طبقة معينة، من النبلاء وغيرها، التي تمنحه الامتيازات مقابل بقية أفراد المجتمع.

علاوة على ذلك، تأتي صفات مثل رفض أو قبول تصرفات الآخرين، ليس بناء على المصلحة الشخصية فقط، بل أيضا بناء على قبول الفرد أو رفضه عندما تنطبق عليه هذه الصفات أو تلك، فبحسب سميث، من غير المعقول قبول سلوك معين عندما يتعلق الأمر بالآخرين، في حين يرُفض عندما يتعلق الأمر بالفرد نفسه، ذلك أن هذه الازدواجية كفيلة بتقويض كل الاتفاقيات والعقود المبرمة بين الأفراد، وبالتالي القضاء على الثقة وروح السوق بشكل عام. من هنا، تسهم المهارات والصفات الفردية في تراكم الثروات لدى البعض، والعكس لدى البعض الآخر، وهذا ينتج مع مرور الوقت والجهد والعمل الدؤوب تراكم رأس المال لدى بعض الأفراد، ولاحقا، الأسر والعوائل والتحالفات المختلفة، ويجعلها تتصدر المشهد المالي والاقتصادي في سياق محدد، الأمر الذي يجعلها مهيمنة على الكثير من الأدوات في هذا السياق أو ذاك، غير أن هناك وجهة نظر أخرى، ترى أن هذا الأفعال بالرغم من جانبها الإيجابي، لها جوانب سلبية كثيرة ومختلفة، وهذا يجعلنا نتحدث عن الماركسية التي كانت، وما زالت، تعتبر النظرية المضادة للرأسمالية ولتراكم الثروات والأموال لدى طبقات وفئات مجتمعية محددة دون الأخرى من جهة، وتزايد حالات اللامساواة والفقر والاستغلال من قبل أصحاب العمل ورؤوس الأموال من الجهة الأخرى.

ولكن قبل ذلك، من الضروري معرفة الأسماء التي ساهمت دخول الاقتصاد السياسي الحقبة الذهبية، وتحديدًا في فترة ما بعد آدم سميث، حيث دخل الاقتصاد السياسي الحقبة الذهبية الممتدة من الأعوام 1770م - 1868م، التي تمثلت في أعمال لمؤلفين كُثر من بينهم: ديفيد ريكاردو (1772-1823)، وتوماس مالتوس (1766-1834)، وجون ستيورات ميل (1806-1873)، الذي يعتبره الكثيرون بأنه التتويج الفعلي لهذه الحقبة الذهبية وبشكل خاص مع كتابه في الحرية OnLiberty عام 1859م، الذي دافع فيه عن «الجوانب الأساسية للمجتمع الحر التي هي نتيجة وشروط مسبقة لازمة لاقتصاد حر»(3)، ذلك أن كتابات تلك الفترة لم تكن تدافع عن الرأسمالية فقط، بل أيضا كانت ضد الإقطاعية من جهة، وضد المركنتيلية من الجهة الأخرى.

2- أخلاقيات الرأسمالية

أم تغيرات أنماط العمل:

تصدرت الكثيرة من الأسئلة والنقد الكبيرين النمط الرأسمالي، المتعدد والمختلف بين كل نظام سياسي وآخر، ومن ضمنها بطبيعة الحال التساؤلات الأخلاقية التي تسعى للتحكم بها، وكبح توحشها، والتعامل معها بما يضمن حصول بقية الأفراد، على حقوق متساوية، لذك نجد الأسئلة الأخلاقية في تزايد مستمر، بل وتصل لذروتها في لحظات الكساد، بما يعني زيادة البطالة، وتوقف الشركات عن العمل، وإغلاق المصانع، وبما ينتج أيضا عن ذلك، المزيد من الفقراء، والمشردين، والديون، وازدياد الجرائم، وغيرها من الآثار السلبية. لذلك كانت الأسئلة الأكثر إلحاحا في تاريخ الرأسمالية يتمثل، من ضمن أسئلة كثيرة، في كيفية الحفاظ والموازنة بين السلطة والحرية كما ذهب ميلتون فريدمان (1912-2006) في علمه الشهير حول الرأسمالية والحرية 1962م، والذي يدافع فيه عن الارتباط الوثيق بين الحريتين الاقتصادية والسياسية، حيث يرى بأن النظم الاقتصادية مهمة، باعتبارها وسيلةً لبلوغ غاية الحرية السياسية؛ نظرًا لتأثيرها في تركيز السلطة أو توزيعها. كذلك فإن ذلك النوع من النظم الاقتصادية الذي يوفر الحرية الاقتصادية مباشرة، وأعني تحديدًا الرأسمالية التنافسية، يعزز أيضًا من الحرية السياسية، وهذا لأنه يفصل بين السلطتين الاقتصادية السياسية، وبذلك يتيح لكل منهما أن توازن الأخرى»(4). وبالرغم من صعوبة الفصل بين الجانبين، إلا أن هذا يرتبط مباشرة بالجانب الأخلاقي، بحسب فريدمان، المتمثل في المساواة بين أفراد المجتمع مهما تباينت خلفياتهم الاجتماعية، وضرورة توفير الحرية ليس بهدف تعزيز الجوانب الاقتصادية التي تضمن رفاهية الفرد والمجتمع على حد سواء، بل أيضا بما يجعل الرأسمالية تتجدد بشكل مستمر، وتستوعب المتغيرات الكثيرة التي تواجهها عبر مسارها الطويل المتعرج، والمتوحش، والذي يوصف في الكثير من الأحيان بأنه غير عادل، ويفتقد للجانب الأخلاقي، مرجحًا الجانب المالي.

غير أن هذا الوضع الرأسمالي المتوحش كانت له آثار كبيرة على تقسيم العمل، وزيادة الأجور، وتحديد الضرائب، ولاحقًا تدخل الدولة في الاقتصاد، الأمر الذي جعل مصطلح اليد الخفية Invisible Hand الذي صكه آدم سميث يلاقي نوعًا من النقد الحاد من جهة، وبزوغ وجهات نظر جديدة من علماء الاقتصاد والاجتماع من الجهة الأخرى، التي ترى أن تغيير ساعات العمل وطبيعته وعلاقاته المختلفة يؤثر في العلاقات الاجتماعية. ذلك أن الرأسمالي، صاحب العمل، لا تهمه غير الربحية من عمله، ولا ينظر لحقوق العمال، وكرامتهم بعين الاعتبار، بل يضع في نهاية كل عام التقييم السنوي بناء على تزايد الأرقام والعوائد المالية وتكدسها، ولا ينظر لساعات العمل التي يقضيها العامل في المصنع، بعيدًا عن الجوانب الحياتية الأخرى التي لا تقل أهمية عن العمل، كالعائلة وغيرها.

لذلك كان تقسيم العمل، والإنتاج علامة فارقة في تطور الأنماط الاقتصادية من جهة، وفي ظهور الكثير من الأنماط الاستهلاكية والتجارية من الجهة الأخرى. غير أن هناك ثلاثة تغيرات حاسمة حدثت في مسيرة العمل أدت لحدوث تحولات جذرية:

أ- المعنى المتغير للعمل ووقت الفراغ في حياة الناس.

ب- تنظيم ذاتي للعمل لا يتبع أصحاب العمل ولا العُمال في نفس الوقت.

ت- التعديل المستمر لتشريعات وأنظمة العمل (5).

كما كانت هناك عوامل أخرى غير ذلك، منها الانتقال من العمل اليدوي للعمل الآلي الخفيف وللعمل الحُر للعمل الفكري، الأمر الذي ساهم في ازدياد الأجور والمطالبة بالحقوق وتزايد التسهيلات المختلفة، كما ساهم أيضًا في تحسين مستوى معيشة الأفراد والاهتمام بالصحة والعائلة والتعليم وحتى استثمار وقت الفراع الذي أصبح هو الآخر نمطًا اقتصاديًا قائمًا بذاته، يطلق عليه الاقتصاد الترفيهي، الذي نجده منتشرًا في كل مكان، ومتوجهًا لكل الأعمار والأذواق، حتى أصبح من الصعب فصل الجانب الترفيهي عن الجانب الجاد في الكثير من المنصات والأماكن التي تقدم هذه الخدمات المختلفة، وهذا يشمل الأفلام، والمعرفة، والعمل، والتعليم، وغيرها من المجالات.

مهما يكن الأمر، فإنه بدون الإخفاقات التي تتعرض لها الرأسمالية بشكل مستمر، لم يكن للماركسية أن توجد وأن تواصل انتعاشها المستمر، وهو ما يجعلنا نتناول الماركسية، باعتبارها نمطًا اقتصاديًا يسعى لتغيير التاريخ، وتحريك مساره بما يتناسب مع الطبقات العاملة، وليس بحسب مصالح أصحاب العمل.

3- الماركسية: النمط

الاقتصادي الشعبي

في كتابه عن «ماكس فيبر وكارل ماركس» (6) يُقسّم كارل لويث Karl Löwith علم الاجتماع لقسمين رئيسيين: علم الاجتماع البرجوازي مع ماكس فيبر من جهة، والماركسية مع كارل ماركس وتراثه الطويل والمتعرج من الجهة الأخرى، ذلك أن نقطة الالتقاء بينهما تتمثل في دراسة الرأسمالية ومصير الإنسان في حياته المعاصرة من جانب، وبين المنهج المستخدم لفهمهما من الجانب الثاني. حيث ركز فيبر في تحليلاته الكثيرة والمتنوعة على العقلنة «rationalization»، وعلاقتها بالمؤسسات المختلفة، في حين أن ماركس ركز على الاستلاب الذاتي أو الاغتراب «self-alienation»، الذي سعى من «خلاله لتشريح البنية الهيكلية للاقتصاد السياسي عن طريق الجمع في الوحدة الدياليكتية بين الواقع الاقتصادي والوعي»(7)، وفي الحالتين نجد أن الرأسمالية هي المركز الذي يجب فهم آلياتها بحسب فيبر، وتغييرها بحسب ماركس.

فالرأسمالية، بحسب ماركس، حوّلت الإنسان لسلعة تُباع وتُشترى وتخضع للتجاذبات المختلفة بحسب توجهات ومصالح الطبقة البرجوازية التي حاول فيبر فهمها وتحليلها، من هنا يشعر العامل بهذا الاغتراب ويتزايد يوما بعد يوم، وتحديدا بعد أن يتحول العامل أو منتج السلعة لشيء لا قيمة له خارج تبادل السلع، حيث إن هذه العلاقات الاجتماعية لا تظهر في السلع، ولا يمكن لمسها في المنتجات المتداولة، بل يُنظر إليها كشيء يتلقفه المستهلك.

بالإضافة لذلك، ولّد هذا النمط الاقتصادي، بحسب ماركس، طبقة من العمال، أو البروليتاريا وهي تعبير مباشر عن الاغتراب الذي يعيشه الإنسان، الذي تتقاسمه مع الطبقة المالكة. فكما أن الطبقة المالكة «تشعر بالرضا والتكريس عبر هذا الاستلاب ولا تمتلك وعيًا نقديًا لوضعها، فإن الطبقة العاملة تعي نزع الإنسانية عنها وتسعى بالتالي إلى التغلب على ذلك» (م س، ص119)، حيث إن هذه الطبقات العاملة المغتربة والمُستغلة تسعى لقلب المعادلة عن طريق الاستحواذ على العمل وتطبيق الحقوق المسلوبة التي نادت بها، وهذا لا يتحقق بدون وعي تمتلكه هذه الطبقة وأدوات أساسية تسعى للقيام بهذه المهمة، وعناوين عريضة واعدة تسعى لتنفيذها على أرض الواقع. الأمر الذي جعل تكدس الثروات كما هو الحال في النمط الكلاسيكي للاقتصاد لم يعد مقبولًا بالنسبة للماركسية وأتباعها. فالثروات ولاحقًا السلطات المختلفة، بما فيها الدينية والاجتماعية، لا ينبغي أن تُحتكر من قبل فئة معينة بل من الضروري تشاركها مع الآخرين، الذين لم تساعدهم الكثير من العوامل التاريخية على تكوينها، كالطبقة والأسرة وغيرها.

غير أن هذه السلطات لا يمكن التنازل عنها من قبل أصحابها بطيب خاطر، فهي لها الكثير من المزايا والامتيازات التي تجعل الأفراد يتصارعون لسنوات طويلة من أجل التمسك بها، بعيدًا عن الأحقية، أو الأهلية في الاستحواذ عليها، من هنا جاءت ثورة البروليتاريا كما نادت بها الماركسية الكلاسيكية، كتعبير عن تطور وعي الفرد العامل من جانب، وحدوث تغيير جذري (راديكالي) في البنى والهياكل المجتمعية التي سعى أصحاب السلطات المختلفة لتأسيسها والتمسك بها وترسيخها عن طريق أنماط اقتصادية واجتماعية ودينية محددة.

لذلك، وبناء على هذه المقدمات التأسيسية، كانت الماركسية هي النسخة الاقتصادية التي زعزعت عرش الرأسمالية، وجعلتها تُصلح نفسها، وتُعدّل مسيرتها المتوحشة من جانب، وتأخذ بالمطالب المعارضة لها من الجانب الآخر. الأمر الذي تجسد في الكثير من الأطروحات من داخل التوجه الرأسمالي الساعي لتعديل خطها، والمساعدة على استيعابها للكثير من الأزمات التي تمر بها بشكل مستمر، كما هو الحال في الكساد الكبير عام 1929م، والأزمة الاقتصادية الحادة عام 2008م وما بعدها، حيث نجد ذلك واضحا، ليس في النقد الكبير من خارج الرأسمالية، بل في تلك الأطروحات التي تأتي من داخلها، كما هو الحال في الأطروحة الكينزية التي نتناولها في الفقرة القادمة.

4- كينز: التحديات

الرأسمالية الكبرى

كانت الفترة الفاصلة بين رحيل كارل ماركس 1883م، وصدور العمل المؤسس لجون مينارد كينز John Maynard Keynes بعنوان النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود بطبعته الأصلية نهاية عام 1936م، مليئة بالتقلبات الاقتصادية والتغيرات الشاملة من كل النواحي، وبشكل خاص بعد الكساد الكبير عام 1929م، الذي غيّر وجه الاقتصاد العالمي ومبادئه بشكل كلي تقريبا، حيث تزايدت البطالة والمعاناة والفصل من الأعمال وإفلاس الشركات وإغلاق المصانع وغيرها من الآثار الكارثية على كل المستويات.

غير أن النقطة الخلافية كانت تتأرجح بين أن تضع الدولة يدها على معظم الحياة الاقتصادية في المجتمع، وبالتالي ملامح عودة النظام الاشتراكي، وبين سياسات حكومية تتدخل من خلالها الدولة في كل مفاصل الحياة المختلفة، وبالتالي استمرار النظام الرأسمالي بكل تفاصيله. لكن هناك تفاصيل كثيرة بين هاتين الفكرتين العريضتين، منها:

- البطالة المنتشرة في المجتمعات الرأسمالية في تلك الفترة والتي بحاجة لحل سريع وعاجل لكي لا ينزلق المزيد من الأفراد تحت خط الفقر من جهة، ولكي لا يسيطر بشكل كامل أصحاب الأعمال على السوق والتوظيف ومجرياته من الجهة الأخرى.

- مستوى الأجور لا يتحدد بمستوى العمل ونوعيته فقط، أو بالعرض والطلب، بل يتحدد أيضا بالأجور التي يفرضها صاحب العمل على العُمال، وبالتالي يجبرهم على ترك العمل عندما تكون الأجور قليلة. وهذا يتناقض مع النظرية الكلاسيكية للاقتصاد التي تقوم على مبدأ المفاوضات بين العُمال والمنظمين، حيث إنه كما يقول كينز: «لا توجد أي طريقة متاحة للعُمال كي يمكنهم من خلالها جعل ما يساوي المستوى العام للأجور النقدية من سلع أجرية متماشيًا مع الضرر الحدي للمقدار الحالي للتشغيل»(8).

لذلك، كانت الموازنة بين تدخل الدولة وعدم تدخلها نقطة مركزية في هذا السياق، فعن طريق الكثير من السياسات النقدية التي تؤثر على السوق بشكل مباشر، كالحد الأدنى للأجور والأسعار والنقود -على سبيل المثال- ضرورية، لمنح حرية الحركة والتصرف لمختلف الأطراف، الأمر الذي وضع كينز في مواجهة التيارات المحافظة، ذلك أن الاقتصاد الجزئي MicroEconomic من الضروري أن يبقى بدون تدخل حكومي، في حين أن الاقتصاد الكلي Macro من الضروري أن يحظى ببعض السياسات التشريعية.

في كل الأحوال، حظي الاقتصاد بتقلبات كثيرة مختلفة، بين التقشف والرخاء، غير أن كورونا كان سردية مختلفة، وغير مسبوقة على جميع الأصعدة: الاقتصادية، العملية، الأمر الذي جعل الجانب الاقتصادي يأخذ منحى جديدًا غير معهود، تضافرت فيه التكنولوجيا مع الأزمة العالمية المتمثلة في الوباء العالمي، ما خلق ما يمكن تسميته بالاقتصاد التضامني، موضوع الفقرة القادمة.

5- من الرأسمالية إلى الاقتصاد التضامني: التحولات الاقتصاديةبالرغم من النقاشات والتقلبات التي طبعت السنوات والعقود الماضية من حياة البشر على كل المستويات، وتحديدًا الاقتصادية، غير أن فترة كورونا كانت غير معهودة، فهي مليئة بالتحولات الاقتصادية والنفسية والمفاهيمية أيضًا، ومن ضمنها المفهوم السائد في الحقل الاقتصادي عن البشر بأنهم أنانيون، ويبحثون عن المصلحة الشخصية تاركين خلفهم كل القيم والمُثل العليا من أجل الربح وتراكم الثروات.

غير أن هذه التصور السائد بما يقارب 250 عامًا أو أكثر، لم يعد قائما وخاصة بعد كورونا، حيث انفجرت الكثير من الظواهر المختلفة، مثل: الأوبئة، وارتفاع درجة الحرارة، والكساد الكبير، وتراجع الطلب، والعنصرية، وغيرها. وهذا يعني من جانب إيجابي متفائل بأننا أمام إعادة هيكلة للتصورات الاقتصادية السائدة لعقود طويلة، فالوضع العام لم يعد كما كان سابقا، وهذا يشمل أيضا النمط الاقتصادي ذا الاتجاه العمودي الواحد، المتجه من البائع للمشتري، ومن المنتج للمستهلك، حيث إن الفرد لم يعد مدفوعا بالمصلحة الذاتية فقط، ولكن أيضا بالجانب الاجتماعي الذي يعني الاهتمام بالآخرين، وبقية أفراد المجتمع، كما أصبح قادرًا على الإحساس بالمصير المشترك مع الآخرين أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يقتضي التضامن بين الأفراد، وهذا تجسد بشكل كبير في الأوبئة، والتغير المناخي.

غير أن السؤال هنا، ما هي محددات الاقتصاد التضامني؟

(1) الاقتصاد ليس ظاهرة طبيعية مجردة مدفوعة بقوى ثابتة، بل خلقه الناس من خلال التعاون والمنافسة.

(2) تعزيز المظاهر التعاونية لا يحقق فقط نتائج اجتماعية أفضل ولكن أيضا نتائج اقتصادية أفضل(9).

تُغير هذه المحددات من خلال سلوك المستهلكين خريطة الكثير من النظريات الاقتصادية السائدة، بما فيها النظريات الكلاسيكية والماركسية أيضا، فالتعاون لم يكن من أبجديات الاقتصاد، بل كانت المنافسة الشرسة هي العمود الفقري له، والمحفز الأكبر. كما أن المستهلك كان الهدف الاستهلاكي الكبير للاقتصاد، ولم يكن هو الغاية ذاتها، في حين أضحى التعاون مع الاقتصاد التضامني هو الذي يقود المنتجات، ولكن ليس بصفته الفردية، بل أصبح الذوق الجماعي المحُرك الكبير للاقتصاد الجديد.

فالحركات الاجتماعية وليست المبادرات الفردية فقط، تسهم بنسبة كبيرة في بناء هوية جماعية، وذوق مشترك، واهتمامات متقاربة بين الأفراد، ما يعني بأن المنتج والمستهلك يتعاونان لبناء عالمي اقتصادي متبادل، قائم على النضج والاعتراف بالآخر، المختلف من الناحية الذوقية والغذائية ومن ناحية ترتيب أولوية المنتجات، التي لا تعتمد على أولويات توجه واحد، بل تراعى فيه الأذواق والاهتمامات المختلفة.

لا يتوقف الاقتصاد عن التجدد ولا تكف النظريات عن البحث عن مخارج وآفاق مدعومة بقوة الابتكار وفضاءات الإبداع البشري، وما تقوم به التكنولوجيا حاليا من تحالف غير معهود لتقريب المسافات، وردم الفجوات الفكرية بين الأفراد على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم، يجعل المستقبل مفتوحا على احتمالات لا نهائية، وعلى منعطفات من الممكن أن تُحدث تغيرات هيكلية شاملة.

الهوامش:

1- إيمون باتلر، آدم سميث: مقدمة موجزة، تر: علي الحارس، مراجعة: إيمان عبد الغني نجم، دار هنداوي، ط2014م، ص33.

2- The Big Three in Economics: Adam Smith, Karl Marx, and John Maynard Keynes: Adam Smith, Karl Marx, and John Maynard Keynes, by Mark Skousen, Routledge; 1st edition, 2007, Page:7.

3- The Ethics of Capitalism, Daniel Halliday and John Thrasher, Oxford Scholarship, 2020, Page: 24.

4- الرأسمالية والحرية، ميلتون فريدمان، مؤسسة هنداوي للنشر، 2017م، ص27.

5- The Story of Work: A New History of Humankind, Jan Lucassen, Yale University Press, 2021, Page: 362.

6- أنظر: كارل لويث، ماكس فيبر وكارل ماركس، تر: عبدالله حداد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2020م.

7- كارل لويث، مرجع سابق، ص91.

8- جون مينارد كينز، النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود، تر: إلهام عيداروس، هيئة أبوظبي للتراث والثقافة، ص1، 2010م، ص72.

9- Solidarity Economics: Why Mutuality and Movements Matter, by Manuel Pastor, Chris Benner, Polity, 2021.