في روايتها الأخيرة «الرسام الإنجليزي» تخوض الكاتبة الليبية رزان نعيم المغربي مغامرة رائعة مع التاريخ، حيث تعيد رسم رحلة الفنان البريطاني جون فرديرك بيرل مع جيش بلده خلال الحرب العالمية الثانية إلى ليبيا، حيث أبدع جدارية «الباردي» في طبرق.

استمر بحث رزان عن حياة الفنان لمدة شهور، حتى وجدت رسالة من أمه إلى صحيفة «الديلي ميل» وفكت شفرتها وانطلقت منها إلى تصور حياة كاملة له في الماضي، توازيها حيوات أخرى لمجموعة من الأبطال الليبيين في زمن أحدث. تتجاور في الرواية مصائر لأشخاص عاشوا ويلات الحرب وقصص الغرام. أشخاص فقدوا أهلهم أو أفنوا أعمارهم في البحث عن أحبتهم وأقرب أقربائهم.

رزان لها عدد من الأعمال الأدبية المتنوعة هي «نساء الريح»، «نصوص ضائعة التوقيع»، «رجل بين بين»، «الجياد تلتهم البحر»، «الهجرة على مدار الحمل»، «في عراء المنفى»، و«إشارات حمراء»، هنا حوار معها حول روايتها «الرسام الإنجليزي» ورؤيتها للأدب الليبي والعربي.

طموح روايتك «الرسام الإنجليزي» كبير.. إذ غطت أحداثها سبعين عاما، وثلاثة أجيال. ألم تكوني قلقة من اتساع الرقعة الزمانية وتعدد الشخصيات بشكل قد يجعل هناك صعوبة في السيطرة عليها أو منحها حقها الكافي من الاهتمام؟

افتتاحية لماحة لبداية الحوار، تستدرجني للحديث عن محترفي الشخصي في بناء المعمار السردي. عندما أفكر في أني ذاهبة للبدء بمشروع روائي جديد، أتحلى بوعي خاص حول الضوابط التي تحكم النص والمخيال أيضاً. أحدد الزمن والفضاء الذي ستتحرك فيه الشخصيات ضمن إيقاع مرسوم، يخضع للتغيير بالطبع ولكن لا يصل إلى الشطط، وحتى كلُّ شطبٍ وإضافة وتعديل تكون أثناء كتابة النص قبل تحريره، لأن التحرير هو المدة التي أستغرق خلالها في تصويب زمن الرواية، والانتباه الشديد، لسير الأحداث، وأعمار الشخصيات، وهي تنمو مع تقدم السرد، ثم القراءة التي تأتي أثناء المراجعة وأحاول فيها التقاط ما لا يعجبني كما لو كنت قارئة للنص ولست صاحبته، هذا أسلوبي وقد يتغير بين نص وآخر قليلاً.

أيضاً اتسعت رقعة المكان لتشمل عدة دول بينها ليبيا وإيطاليا ومصر.. ما الذي منحه هذا الفضاء المتسع لروايتك؟

لم يسبق أن كتبت نصاً روائياً، إلا وسبقه بحث، أحياناً يستمر لزمن أطول من الزمن الذي تستغرقه كتابة النص.

في الرسام الإنجليزي، كان الأمر مضنياً لأسباب كثيرة، فخلال البحث لم يتوفر لديَّ عن حياة الرسام إلا وثيقة منشورة تمثلت في رسالة والدته إلى صحيفة الديلي ميل، وكانت ترد فيها على مقال نُشِر عن الجدارية، حول ادعاءات بأن جون فرديرك بيرل كان سجيناً في مبنى الجدارية، وأنه استخدم ورنيش الأحذية في الرسم. وذكرتْ باختصار شديد بعض المعلومات، عن تجنيده ووصوله إلى طبرق عن طريق القاهرة.

التقطت هذا الخيط، وعدت مجدداً للبحث فيما يخص الحرب العالمية الثانية في شمال إفريقيا وكانت طبرق مركزاً عسكرياً لها.

أصبح لديَّ الخيار باختصار رحلته والتركيز على تواجده في المبنى وبالتالي التوسع في سرد أحداث محلية وهي بالمناسبة كثيرة، أو منح النص رؤية تاريخية يتداخل فيها الخيال بالتاريخ ضمن لعبة سردية بحيث لا ينتقص الخيال من موضوعية التاريخ، ولا ينقص الانضباط التاريخي من الخيال.

وقررت بما أنه حضر انسحاب دنكيرك الشهير وعاد لبلاده ثم رجع باتجاه القاهرة، أن تصبح هذه الأمكنة لها أدوار في تلك الرحلة وتكون ضمن السياق الدرامي للأحداث.

ما أودّ قوله: إن المكان/ الأمكنة، متمثلة بالمدن المذكورة لها دور بطولة لا غنى عنه، وشخصياً أشعر بنوع من التحدي لإبراز جماليته في أي نص سردي سواء في القصة أو الرواية، وبصفتي القارئة الأولى لنصي، يلامسني جداً إبراز صورة المكان فهو الجغرافيا التي تدور على أرضه الأحداث ولا معنى لإخفائه، حتى لا يختل توازن النص.

ما القيمة التي تمثلها سدِّينة وهي شخصية ليبية محورية كانت فتاة ثم أصبحت امرأة متزوجة ثم جدة؟ سدينة أول شخصية تخيلتها وأسميتها، وأحببتها، لعبت دور الطفلة التي احتملت عواقب الحرب. فقدت شقيقها المبروك وعائلتها، منذ صغرها، امتلكت رباطة الجأش لتكون محاربة وتتغلب على الفقدان واليتم، وتعقد التحالفات مع بنات جيلها، ثم أصبحت امرأة تفهم معنى المحافظة على نسيج العلاقات الاجتماعية، عندما كانت شابة مطلقة، ساعدت رفيق طفولتها المنصوري بتربية ابنه حامد وليصبح هذا الطفل فيما بعد زوج ابنتها الوحيدة، وعندما تمردت ابنتها طلبت الطلاق من حامد، حافظت سدينة على تلك الرابطة الاجتماعية معه فهو والد حفيدتها سلمى، وأدركت أن المجتمع المحافظ يحترم القوي وصاحب النفوذ بشكل ما، أظهرت براغماتية فطرية، وسدينة هي الجدة التي أصرت على مرافقة حفيدتها لايطاليا كأنها صورة للحارسة على قيم المجتمع التقليدي. وسنجد أنها لعبت كل هذه الأدوار بسلاسة ودون صراخ أو ضجيج، مثلت المرأة التي اختبرتها الحياة وخاضت معاركها مبكراً.

متى كان على سدِّينة أن تصدق أن شقيقها المبروك اختفى في زمن الاحتلال الإيطالي؟ بقيت ملابسات اختفاء المبروك تدور بين احتمالات عديدة، وبالنسبة لسدينة الطفلة، أصيبت بصدمة نفسية لم تغادرها منذ أن ساق جنود الاحتلال أخاها غصباً عنه إلى مكان مجهول، ذلك المشهد العنيف كان يحدث كثيراً للرجال وأحياناً للنساء، ومن يثبت تورطهم بالمقاومة والجهاد أو مساعدتهم لرجال المقاومة، يتم سوقهم إلى المنافي في جزر إيطالية، سدينة تمسكت بقصة المنفى لأن هناك أملاً بعودته يوماً ما، رغم أن بعضهم كانوا يؤخذون عنوة إلى القتال في صفوف المحتل الإيطالي في بلدان أخرى (أرتيريا وأثيوبيا)، وتكون عودتهم مستحيلة. وقد بررت سدينة سفرها مع سلمى لإيطاليا، بأنها فرصة للبحث عن أثرٍ يدلها على أن تلك السلالة لم تنقطع، طغت على تصرفاتها الغرابة، لهذا وجدت في صديقتها خيرية ناحوم نوعاً من السلوى، يخفف وطأة الغربة وصار ذلك الوقت فرصة لتشفى من جرح الطفولة، بتقبلها لواقع اختفائه، مما أدى في نهاية الأمر للاستسلام. خارت قواها وسقطت مريضة نتيجة لذلك، لكن الأمل في البداية أعطاها دافعاً قوياً للاستمرار والتنقل والسفر وعيش الحياة كما يليق بها.

هل يمكن القول إن آن ماري هي مرآة غربية لشخصية سدِّينة بشكل أو بآخر؟

آن ماري مثلت حارسة للأثر الفني والقيم الجمالية ( جدارية البردي). التي خلفها وراءه حبيبها السابق الرسام جون فرديرك بريل، وسنجد تلك العلاقة الشائكة بينهما، رغم أنه هجرها بنزق فنان شاب، إلا أنها بشكل ما مثلت صورة غربية لشخصية سدينة في مقاومة ما يواجهه الإنسان في الحروب من فقد وانفصال وضياع متعلقات وخسارة حب، وسدينة وآن ماري متقاربتان في العمر والزمن والظروف الإنسانية التي جمعتهما، ومختلفتان بالانتماء والثقافة والمصير.

كيف بدأتِ رحلة البحث عن الرسام جون برايل؟ ما المراجع التي استعنتِ بها لمعرفة تفاصيل حياته؟

استغرق الأمر أعواماً بين تردد وبين العودة إلى مشروعٍ سبقه عن فنان إيطالي أيضاً له منحوتة شهيرة في وسط العاصمة طرابلس نسميها (حسناء الغزالة). كنت حينها في حالة بحث عن مروية شعبية تحكي قصة حب معروفة ومتداولة، سألت الأصدقاء عنها، وكانت الإجابات تصلني بالنفي، أتذكر أني قمت بتأصيل حكاية حب من الخيال بين شابة قادمة من الجنوب ومعها غزالة جريحة والنحات، ووثقتها بمقال منشور، في ذلك الوقت اقترح صديق من طبرق أن أكتب عن جون بريل وجداريته، ولم أجد معلومات عنه، قررت خوض غمار الرسم وقد سبق أن مارسته في أيام الدراسة، كنت في هولندا أستكشف حياتي الجديدة وأتعلم مهاراتٍ لم تخطر على بالي سابقاً، وصلت لمرحلة من إتقان الرسم تكفي لتقمص روح الفنان، وفي ربيع 2021 انتهيت من كتابة مجموعة قصصية، وشعرت أن عليَّ الاستمرار في الكتابة دون انقطاع، ومواجهة خوف داخلي لابتعادي عن كتابة الرواية طويلاً، انهمكت في الاتصال بأصدقاء وتعرفت على أشخاص معظمهم من سكان البردي وطبرق بهدف الوصول إلى معلومات، أرسلوا لي كثيراً من الصور ونتفاً من حكايات تُروى عن الجدارية والمواد الخام التي استخدمها الرسام، عثرت على رسالة والدته، وحينها فقط قمت برسم خريطة العمل والمخطط الزمني للأحداث، وما تبقى من مهام لا بد أن يتولاها الخيال، بالطبع الخيال الذي يفترض ما يمكن أن يجري في ذلك الزمن، لهذا أعدت مشاهدة كل الوثائقيات عن الحرب العالمية الثانية، استعنت بأصدقاء سمعوا بعض الحكايات عن تلك الفترة، ولكنها لا تصلح كلها للسياق الذي سار فيه السرد، الشيء الآخر الذي أشعل صوراً ملهمة لديَّ هي رموز في تلك المنطقة، مثل شجرة التين (كرموسة قويدر)، وكذلك حكايات عن جرذان طبرق وهو لقب الجنود الأستراليين، ومواقع كثيرة جرت فيها معارك، كانت كمية المعلومات غير مترابطة، وكل من أتحدث إليه لديه روايته الشخصية.

المعلومات والصور وبعض الحكايات الصغيرة، جعلتني أشعر بالحماس لمتابعة مشروعي معتمدة على صوت في رأسي يقول: ماذا لو حدث هذا؟ بالذات عندما حللت رسالة والدة الرسام القصيرة وصارت كل كلمة فيها مفتاحاً للولوج إلى عالم متخيل أرسم صوره وأحداثه ومن ثم أدونها.

جون بيرل اتخذ قراره بالانضمام إلى الجيش بعد لقاءٍ مع غريب في بار.. هل نصيحة غريبٍ، في رأيك، قادرةٌ على أن تجعله يتخذ قراراً مصيرياً مثل هذا؟ أعود لرسالة والدة الرسام التي ذكرت فيها أن قرار انضمامه كان مفاجأة لها، ولكنه برر الأمر بأن الفنان عليه أن يخوض تجارب كثيرة في الحياة واعتبر أن الانضمام إلى الجندية سيوفر له تلك الخبرات، مشهد الحانة وما حدث فيه كان متخيلاً بالكامل لكني حرصت أن يقارب الحالة النفسية لشاب وفنان في ذلك الزمن.

في رأيك لماذا كان جون مصمماً على الإكمال رغم أن موقعة «دنكيرك» منحته ومنحت الجميع نذيراً بما يمكن أن يحدث لهم في الحروب؟ النقصان يستدعي مخيال الروائي ليكمل وضع الأحجار الناقصة ويعيد تشكيل لوحة الحياة التي يتمنى لو كانت على هذا المنوال.

على الروائي تقويض الحكاية المتداولة أو ما يعتقد أنه تأريخ، لهذا كان على جون أن يصل طبرق ويرسم الجدارية، وكان عليَّ أن أرسم بدوري تلك الأحداث التي تدعم رؤيتي لمغامرته. وحتى أستمر في كتابة الرواية استحضرت أبرز الوقائع التي مرت بها كتيبة المشاة التي انضم إليها جون، كنت ألهث بين الوثائق التاريخية وبين ما يفرضه العمل الفني. للوصول إلى صياغة تصبح مرآة للواقع كما تخيلته.

ما الذي تمثله جدارية (الباردي) بالنسبة لك؟ وهل نجحتِ في تقديمها بالشكل الذي كنتِ تحلمين به؟ لا أخفيك أني وقعت في غرام الجدارية، لما تمثله من معاني إنسانية في ذلك الوقت الصعب، حيث تدور الحرب العالمية الثانية، وتصل آثاره لقرية شبه نائية في ليبيا، أحببت العمل بعد أن علمت أن جون وضع لها عنوان «مباهج الحياة» وقسمها إلى ملذات، عن طريق رسم عالم الحرب والسلام، التقسيم حاد ومؤلم للغاية، لكنها ألهمتني من البداية كيفية توزيع فصول الرواية، لم ألتزم برؤية جون بريل، واخترت عناوين الفصول حسب حركة شخصيات العمل وعلاقاتها وإعادة رسم صور في ذهني تتلاءم مع النص الذي أكتبه.

هل وجود أشخاص مثل جون بيرل يخفف من الوجه القبيح للاحتلال؟

طبيعة الاحتلال الإيطالي كما كتبتها في الرواية تظهر كم كان غاشماً وكيف هجر الأهالي ووضعهم في معسكرات اعتقال على أطراف الصحراء، كيف أعدم بقسوة كل من حاول الهروب، حتى يكسر شوكة المقاومة ورجالها في كهوف الجبال، لكن مع بداية الحرب العالمية الثانية انتهت معسكرات الاعتقال وضعفت سيطرة إيطاليا، وجاء الحاكم العسكري « إيتالو بالبو» ليعيد تشكيل الشاطئ الرابع (ليبيا) التي تسمى «صندوق الرمل»، ليس لأنه طيب القلب ولكن ليصنع مجده الشخصي، فهو كان يطمح إلى الانقلاب على موسوليني، وهذا الأخير تنبه في اللحظة الأخيرة لمشروع بالبو وقام بالإيعاز إلى إحدى السفن الحربية الراسية في ميناء طبرق بقصف طائرة الحاكم العسكري، والادعاء بأن الأمر تم بالخطأ. حدث ذلك عشية اندلاع الحرب الكبرى وتراخي قبضة المحتل، أما دور الإنجليز الذين كانوا في الجوار مستعمرين للشقيقة مصر، وجدوا بأن مصلحتهم مساعدة الليبيين في دحر الإيطاليين وبالتالي تصبح ليبيا مناطق نفوذ جديدة لهم، في الرواية أظهرت التناقض بين مشاعر الشعب المصري والليبي في تلك الفترة، من خلال مشهد المنصوري وهو يمشي في شوارع القاهرة ويشاهد مظاهرة ضد الإنجليز فينضم إليها تلقائيا، ثم يبتعد عنها عندما يسمع هاتفاً داعياً بنصر الإيطاليين عليهم.

إذن لا يوجد وجه جميل لأي احتلال، لكن ما يتركه من آثار فنية ومعمارية تبقى إرثاً لأهل البلاد، وهذا يحدث على مر الأزمان، وقد عرف شمال إفريقيا الاحتلال الروماني والإغريقي وغيره.

بمعنى آخر.. هل التركيز على نماذج إيجابية من الاحتلال قد يمنحه وجها إنسانيا؟ لا يوجد احتلال جيد واحتلال قبيح، لكن وكما تعودنا من التاريخ وقراءتنا له أن أي شعب يأتي غازيا بهدف البقاء والاستمرار، يتعامل مع الأرض وما فوقها بمشاعر الملكية، ولو نظرنا إلى ما نسميه الفتح الإسلامي للأندلس من وجهة نظرنا، يعتبره الإسبان احتلالا، لكنهم تركوا آثارا معمارية مدهشة ليومنا هذا، ويتكرر الأمر في كل أنحاء العالم، في الرواية كتبت عن الوجهين (المعتقلات) وعن الفن متمثلا بالجدارية التي تبقى إرثا إنسانيا حتى لو أن صاحبه ينتمي للمحتل. هذه المفارقات تحدث وعلينا إعادة رؤيتها بما تمثله من إرث له قيمة جمالية.

قدمتْ الرواية الشخصية اليهودية.. هل أردتِ القول: إن المجتمع الليبي كان متصالحا مع جميع أبنائه في الماضي؟ الرواية سردية الجماعة لا سردية الفرد، وفي ذلك الزمن كان اليهود سكانا أصليين سكنوا في ليبيا قديما، وكانت العلاقات الاجتماعية بينهم تخضع لمفهوم الانتماء إلى البلاد بغض النظر عن الدين، وعرف عنهم مساندتهم لليبيين المسلمين في مقاومة الطليان، إنما عندما حصلت هزيمة يونيو بدأت أيادٍ خفية تحرضهم على الهجرة وتم إشعال فتنة وهذه قصة أخرى مدونة في التاريخ الليبي، وقد تمر في سياق أعمال روائية، شخصية خيرية تعطي بُعدا عن أحوال ذلك الزمن، وهجرتها لإيطاليا ودعمها لسدينة، قريب من واقع نسمع عنه اليوم عن علاقات ليبيين بيهودٍ في إيطاليا كانوا يوما ما يعيشون في ليبيا، وحقيقة الأمر كان هناك تصالح وتعايش بعيدا عن مفهوم الصهيونية والاحتلال.

هل ترين أن قصص الحب التي امتلأتْ بها الرواية خففت من قساوة الأحداث وسوداويتها؟ قصص الحب حدثت ضمن سياق السرد بشكل سلس ولم تكن مقحمة، والكلام عن الحرب والمعتقلات، يستدعي استكمال الثنائية لتصبح عن الحرب والحب، كما هو الحال مع الجدارية التي تحمل ثنائية الحرب والسلام.

كنت أكتب ويدي على قلب القارئ، كما لو كنت مكانه تماما، لأنني مع تقدم العمر بت أنفر من أعمال الديستوبيا، وأخشى القسوة المفرطة في الكتابة والسينما، رغم أني مررت في الواقع الليبي وقبل الهجرة بأحداث لا يمكن تخيلها من العنف والدماء وأصوات الرصاص، لهذا اكتفيت منها، ولا أريد أن أستعيدها.

ما طموحك من خلف كتابة «الرسام الإنجليزي»؟ لكل كاتب رؤيته الخاصة جدا عندما يتعامل مع أرضه، وتاريخ منطقته، وفهمه لملابسات ما تم توثيقه وما تم تجاهله، تلك الحيرة بين المدون والشفاهي تصبح هاجسا ملحا يمكن لكل فنان استبطان حكايات جديدة من خلاله. والأهم أن ما تهيأ لي في لحظة البدء بمشروع «الرسام الإنجليزي» هو ما تمر به ليبيا في السنوات العشر الماضية، خاصة حالة التداخلات الدولية في البلاد، مما ولد صراعات وحروبا أهلية. لقد استدعيت تاريخ الحرب العالمية الثانية عندما اجتمعت جيوش العالم في تلك البقعة الصغيرة (طبرق). الطليان، والفرنسيون، والإنجليز، الألمان، الأستراليون، وحتى انتهت وحُسمت المعارك فيها بدخول أمريكا. ما أود قوله: لا أتمنى أن نشهد مرة ثانية تلك الحروب والعنف وعلينا أن نقرأ تاريخنا ونستفيد منه، أتذكر هنا جملة كتبتها على لسان سدينة تقول ما معناه: «لا نريد الأصنام التي تركوها لنا مهما كانت جميلة وأخذوا بالمقابل أبناءنا». تتحدث عن المنحوتات الفنية التي شكلت إرثا فنيا وجماليا التي نحتها فنانون إيطاليون وفي الوقت نفسه سلبوا الحياة من أهل البلد وظل المصير الغامض يلاحق المنفيين إلى إيطاليا.

ما جيلك داخل ليبيا؟ وما جيلك عربيا؟

نظريا أنتمي إلى جيل التسعينيات حيث بدأت أنشر أعمالي في تلك الحقبة وحتى قبل صدور كتبي بداية من عام 2000، وعربيا أنتمي إلى جيل الألفية الثانية.

هل ترين أن الرواية الليبية أخذت مكانة تستحقها خاصة مع حصول كتَّاب ليبيين على جوائز مهمة؟ ليبيا مرت بفترات صعبة لأسباب سياسية، قمعت معظم أصوات النخب وسمحت لعدد محدود جدا بالخروج عن الطوق المفروض في ذلك الوقت، الحديث يطول عن تلك المرحلة، هناك مبدعون تستحق أعمالهم أن تأخذ مكانتها عربيا، مع ظهور الجوائز، الأمر بات أفضل اليوم، ولهذا نشهد ظهور أسماء جديدة وشابة تبرز بأعمال جميلة ومختلفة.

هل يغريك التاريخ الليبي بالعودة إلى كتابته مجددا؟

جدا. ولديَّ أكثر من مشروع، حتى أنني كتبت فصولا وتوقفت، ومع هذا لا يمكن الادعاء بأنها تاريخية بل تتكئ على التاريخ.

ما الذي يجب أن تتميز به الرواية التاريخية؟ التقييد بوقائع حدثت فعلا في زمن معين، لكن يبقى للروائي حرية الحركة في تخييل القصص كما يراها وتخدم النص السردي. يعني لا يمكن أن نتحدث عن معارك الكر والفر بين مونتجمري ورومل ونغير نتائجها، لكن نستطيع تخيل أحداث تخدم سياق تلك المعارك.

هل تشعرين أن أعمالك تحصل على الاهتمام النقدي الواجب؟ نعم، معظم أعمالي نالت الاهتمام بالكتابة عنها، بالإضافة إلى أنها دُرِّست أكاديميا (ماجستير ودكتوراة).

ما الذي تعنيه الجوائز بالنسبة لك؟

الجوائز جميلة ومفرحة، وداعمة ماليا، وأيضا تضع العمل الفائز تحت دائرة الضوء.

أخيرا.. ما الخطوط العريضة لعملك القادم؟

أشتغل على عمل ربما يكون رواية قصيرة (نوفيلا)، تتحدث عن ليبيا اليوم بعد الربيع العربي، وترصد واقعا مؤلما وتقدم رؤية لما قد تؤول إليه الأمور.