لعل الظاهرة الأكثر بروزًا في عالمنا العربي اليوم، والتي تثير القلق وتحتاج إلى مراجعة عميقة وجدية، تتمثل في انسحاب النخب الثقافية والفكرية من المشهد السياسي والاجتماعي، وتخلّيها عن أدوارها الحقيقية في إنتاج الأفكار، وتشكيل الوعي، وتوجيه الرأي العام، وصناعة التغيير.

فالنخب العربية بمستوياتها وشرائحها الثقافية المتعددة، لم تعد على رأس المشهد الاجتماعي أو حتى بموازاته، مثلما كان دورها في إحداث التحولات الاجتماعية والسياسية، فاعلًا وفارقًا في فترات تاريخية سابقة، فمن الواضح بجلاء أنها خسرت الرهان في التأثير الاجتماعي وقيادة المجتمع تأثرًا بسياقات العولمة وثورة الاتصالات والفضاءات المفتوحة وتعدد منابر «الهيمنة الفكرية» في الواقع الافتراضي.

هذا «الاغتراب النخبوي» -إذا صحَّت التسمية- ربما يعود إلى أسباب ومرجعيات مختلفة، يتعلّق بعضها بالنخب العربية نفسها، أو هو نتيجة لشعور هذه النخب بالإحباط وجفاء المجتمع وعدم القدرة على التأثير والانسجام مع القيم الاجتماعية، والتغيرات المتسارعة في عالم اليوم.. وفي مقابل ذلك التراجع، تولت كتائب من أنصاف المثقفين وأشباه الكتّاب مهمة تسطيح الوعي الفكري العربي وتشويه الهوية الثقافية والحضارية، وتضليل الجماهير بالشائعات والأوهام.

ما يدعو إلى الريبة والاستغراب في هذا الشأن، افتتان بعض المثقفين العرب بأضواء الشهرة وتحشيد الأتباع من العوام على منصات التواصل الرقمية، حيث يتحوّل المثقف من أداة تنوير وبناء إلى معول تخريب وهدم. وتحت طائلة الإغراء وخدمة المصالح، قد تجد محسوبًا على الثقافة العربية يحتفل بالأفكار الشاذة، ويعمل على التشكيك في المسلَّمات وتفتيت المجتمعات وتأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية، وتبنّي أفكار مستوردة وأطروحات مضادة للقيم العربية والإسلامية.. وهذا الانحطاط القيمي والأخلاقي في حقيقته انحراف عن الرؤية، الصحيحة لدور المثقف العضوي وما يفترض أن يقوم به من جهد في إعادة هندسة الوعي والحياة بما يسهم في تحديث المجتمعات ويصون أنماطها الثقافية.

ولأجل الحفاظ على هوية الأوطان.. تتأكد أهمية أن تعمل نخب الثقافة العربية بجهد مشترك مع مختلف المؤسسات والأوساط في العالم العربي للقيام بأدوارها الفاعلة في التنوير وصياغة الوعي، وإعادة الاعتبار لمفردات الثقافة الأصيلة وأدواتها وعناصرها ورموزها الفاعلة.