استشهد أبو العبد، فنشر ابنه معاذ صورة تُظهر والده يرقد على كنبة في البيت كتب تحتها «رحمك الله يا حبيبي، رحم الله هذا الجسد الذي صبر على البلاء ومحاولات النيل منه، فآن لهذا الجسد أن يستريح».

كنت في يوم الأربعاء ذاهبا في مشواري الأسبوعي إلى البلاد وكأن شيئا ينز ويلح في ذهني وشعور بالقلق يراودني منذ الصباح لا أدري مصدره، وصوت في الداخل يدعوني لفتح النت. فتحت موقع صحيفة القدس العربي، وبرز لي وباللون الأحمر خبر اغتيال إسماعيل هنية في طهران، شعرت بالغثيان والارتباك وعدم وضوح الرؤية والصعوبة على مواصلة السير، أوقفت السيارة على الرصيف وشرعت في البحث عن مصدر الخبر في المواقع الأخرى، وكلي أمل ألا يكون الخبر صحيحا أو أن تكون إصابة أو شيئا من هذا القبيل، لكن الأحداث بدأت تتوارد وبدأت معها التهام الأخبار، وكما يقال الوقت وأمواج البحر لا ينتظران أحدا، اغتيل أبو العبد ورحل.

الأخبار كلها صادمة ووحشية فهكذا تعودنا لا مفاجأة في ذلك؛ فالدم العربي مراق على الأرصفة ولا حرمة لشيء في ظل وجود هذا الكيان الغاصب في الجسد العربي، صمت دولي عربي مخزٍ، يصدمني الخبر وتتوالى الصور أمامي وتتداخل الرؤية وكما لو كانت مرآة السيارة تحولت فجأة إلى شاشة كبيرة تقطر دماء، دماء فلسطينية تراق وجنائز تسير تجاه المدافن، ونواح النساء وبكاء الأطفال.. مدافن لا تستريح من استقبال الشهداء إلى مثواهم الأخير، وآهات وخطب عصماء وعباءات عربية تجر مسرعة وبدلات بربطات عنق مزركشة يسرع أصحابها للاختباء وفي أماكن أخرى صخب ورقص وملاعب كرة قدم ومهرجانات.

تتوالى في ذهني صور كثيرة ووجوه تمرق مسرعة لا أستطيع تبيان ملامحها، تتباطأ سرعة السيارة وتخفت سرعة الصور، ثمة صور تعلق في الذاكرة لا تريد أن تفرقها.

الصورة الأكثر بشاعة تلك التي يقف فيها أعضاء الكونجرس الأمريكي وهم لا يتمالكون نفسهم من التصفيق المعيب والمخزي والقيام والجلوس والهتاف حد السخافة لنتنياهو وهو يكذب ويختلق الكذب لدرجة أنه هو بنفسه استغرب ذلك وقال لهم «لا لا لا تصفقوا فقط استمعوا». ذلك التصفيق الذي لن ينسى، صفقوا بكل حرارة لقاتل الأطفال والنساء ومرتكب المجازر والإبادة الجماعية بأسلحتهم وعدتهم، تصفيق للقاتل والمجرم، ولا غرابة أو تعجب من دناءة وخسة الكيان الصهيوني المجرم الذي لا يتورع في ارتكاب أبشع الجرائم في حق العرب والمسلمين، متماديا في سفك دماء الفلسطينيين ومحاولة أبادتهم، ماذا تترجى من ثلة فاسدة من أعتى مجرمي العالم المتحضر؟

ثمة صورة يظهر فيها أبو العبد أثناء زيارته لأحد أفقر بيوت غزة حيث تعيش فيه عائلة مكونة من 8 أفراد لا تزيد مساحته عن 20 مترا مربعا ينام رب الأسرة وزوجته وأطفاله في غرفة واحدة يواسي الرئيس إسماعيل هنية العائلة ويجلس معهم حول سفرة بسيطة جدا ومكان متواضع تناول الإفطار مع تلك العائلة المعدمة.

الصورة الثالثة لأبي العبد رئيس وزراء فلسطين سابقا يرتدي جاكيتا جلديا أسود يجلس على حجر على رصيف الشارع في معبر رفح الحدودي ينتظر أن يُسمح له بالعودة إلى غزة، لا يعبأ ببرد يناير (2006) القارص جلس ضاما يديه على صدره يمتص برودة الأرض صامتا يحلق في البعيد لا حول له ولا قوة بينما شخصان من مرافقيه ينظرون له وكأنهم يواسون الرجل المحاصر في شرعيته.

برحيل أبو العبد يكتمل المشهد لثلاث وقائع غامضة توزعت على ثلاث بقع مختلفة وكانت بحق كما هي مقدمات لزلزال كارثي قادم لا محالة. حدثت في الأسبوع، الأولى حادثة استهداف أهالي «مجدل شمس» في الجولان، الثانية اغتيال فؤاد شُكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، ليكتمل المشهد ويختتم باغتيال إسماعيل هنية في طهران.

يصنف إسماعيل هنية بأنه من رموز الاعتدال في حركة حماس ووجه مشرق وبراجماتي ويتقدم المفاوضات وجها للمقاومة، والوجه السياسي الأول إثر تواري قادة فتح بعد رحيل أغلب قادتها التاريخيين، وهو من أولئك الرجال الذين يمشون منتصبي القامة مرفوعي الهامة يمشون وفي كفوفهم قصفة زيتون وعلى كتوفهم نعوشهم، وفق سميح القاسم، لا يعبؤون بالدنيا وترفها، ليس لهم من الأمر ومن حطام الدنيا وملذاتها وقصورها ورفاهيتها شيء؛ لأنهم بكل بساطة يؤمنون بقضية وفي سبيلها سائرون وليس لديهم ما يخسرونه، رؤوسهم عالية خفاقة لا يهابون الموت، الشهادة حلمهم، أمثال هؤلاء الرجال من ترتعد منهم إسرائيل وأعداء الأمة.

صور أخرى يظهر فيها عمق المأساة العربية يتعرى فيها الواقع العربي بشكل غير مسبوق، ليس إلا المهزلة والذل والإهانات المتكررة وكأنها مسرحية وجودية تعبر عن واقع مؤلم تراجيدي ميتافيزيقي خارق لكل المعاني، الكرامة العربية تظهر في المشهد وكأنها طائر حلق بعيدا والشهامة مجرد ذكرى، الشعوب العربية كلها وكأنها هوام تائهة لا أمل لها ولا شيء، لا فرح ولا سرور ونحن كلنا واقفون على شفا هاوية، تائهون لا نجمة نهتدي بها، ولا خيمة عربية نستظل تحتها، الصحراء خالية لا صهيل خيول ولا صليل سيوف، ولا فرسان يجوبون الصحراء على صهوة فراسهم، صحراؤنا تقتلنا.

صورة أخرى لأبي العبد وهي كما هي صور المناضلين والثوريين الذين يخوضون المعارك الضارية، صورة نشرها معاذ ابن الشهيد إسماعيل هنية بعد استشهاده تظهر والده مستلقيا على كنبة في المنزل كتب عنها «بعد يوميين حافلين بالاجتماعات والاتصالات لوقف العدوان في إحدى جولات التصعيد عاد أبي للبيت مرهقا، فهو يحمل أمانة شعب، وأمانة أقدس قضية.. نام وهو يلبس ملابسه الرسمية.. فالتقطت له هذه الصورة لأنني أعلم سيأتي يوم يرحل أبي عن هذه الدنيا يرحل بعد أن أدى الأمانة وسلم الراية خفاقة.. راية لم تعرف التلوث أو الخنوع أو الخضوع أو الاعتراف، سلم الراية ولم يوقع أي اتفاق فيه تنازل عن فلسطين، رحل وجيشه ورجاله في الميدان يمرغون أنف العدو بالتراب... رحمك الله يا حبيبي رحم الله هذا الجسد الذي صبر على البلاء ومحاولات النيل منه، فآن لهذا الجسد أن يستريح».

الصور كثيرة والأحاديث كثيرة لكن تبقى صورة المناضل إسماعيل هنية ناصعة البياض كما لون شعر رأسه ولحيته.

لمحة بسيطة يظهر فيها أبو العبد في موريتانيا يرتدي فيها الدراعة الموريتانية يقول «لن نعترف لن نعترف لن نعترف بإسرائيل».

لا نسأل الشهداء عن رحيلهم ولا نسأل أبا العبد عن رحيله المباغت ولا عن سبب رحيله، «لا تسأل الراحل عن سبب رحيله، إنه جهز عذره قبل حقائبه» كما قال غسان كنفاني. باغتيال إسماعيل هنية بالتأكيد لن تسقط القلاع ولن تخترق الحصون -كما قال هو- وستظل نار المقاومة جذوتها مشتعلة راياتها عالية وإنه لنصر قادم يلوح في الآفاق.