من المسلم به أن المشروع الحضاري العماني هو مشروع ضارب في أعماق التاريخ، فالعمانيون شكلوا مع منعطفات التاريخ رمزا ثابتا في التأثير والإثراء والتفاعل في الحضارة الإنسانية... كانت عُمان ولا تزال حاضرة في التاريخ إقليميا وعالميا، ولكن تظل المرحلة الحالية من عمر الحضارة العمانية نقطة مفصلية في تاريخ بناء الدولة العمانية، فقد بدأت ومع الخطوة الأولى من حكم السلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- لإعادة عُمان إلى مسيرة الحضارة مرة أخرى، ويكمل الآن مسيرة التجديد صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله وأبقاه- فجلالته أعاد رسم خارطة الطريق الجديدة لعُمان الحضارة نحو مستقبل مختلف الآفاق والأدوات والأهداف.

ركز المشروع الحضاري العماني على صنع الهوية الوطنية وخصائصها المميزة مما أوجد مركبا سياسيا دقيقا جسد الثوابت الوطنية وأولويات المصلحة الوطنية العليا، وتماهت فيه الاحتياجات والتطلعات والإنجازات إلى حد كبير، لقد اشتغل العمانيون مع قيادتهم على مدار العقود الخمسة الماضية على تجسيد وبرهنة مدى انتمائهم وولائهم وحبهم وتقديسهم لعُمان بعيدا عن الشعارات الفضفاضة، يتعلمون ويعلمون الآخرين أن عُمان ليست فئة ولا قبيلة، وأن المسيرة أكبر من الأشخاص، فالثابت الوحيد هو تلاحم الوطن بقيادته وشعبه... وستبقى عُمان دائما وأبدا فوق الجميع والعمل الوطني يتطلب فهما للصورة الكبيرة ونكرانا للذات وطموحات عُمان العزة والكرامة ترتقي عاليا فوق الأوهام والأطماع وضيق الرؤية وأنانية الغاية والمقصد.

«نعم الوطن ليس أولئك»، فالوطن بقيادته الحكيمة وشعبه المعطاء ماضون في مسار العمل المشترك تحت سقف الثوابت الوطنية وتحمل المسؤولية الوطنية والأخلاقية والتاريخية المناطة بهم مع وجود المواطن كشريك حقيقي، ولاؤه للوطن وقيادته على أسس المواطنة الكاملة وصيانة حقوق الإنسان وكرامته وتكافؤ الفرص... يقول شكسبير «لا شيء يأتي من لا شيء» فالوحدة الوطنية والشعور بالانتماء للوطن تأتي دوما كنتيجة وأثر لشروط والتزامات غاية في الأهمية والضرورة ولا شيء يصون الوحدة الوطنية ويحمي مكاسبها كتكريس مفهوم المواطنة الكاملة.

إن المشروع الحضاري العماني يقوم على مفهوم الدولة للجميع وبالجميع يتم القيام بمختلف الوظائف والأدوار، الدولة ليست إقليما ذا جغرافيا وتاريخ فقط بل هي كيان نابض يفتح قلبه ومشروعاته ومؤسساته وهياكله ومناصبه ومسؤولياته لكافة مكونات المجتمع، لذلك كان المشهد العماني فريدا من نوعه في التفاف الشعب بكل فخر واعتزاز حول قيادته الملهمة والمحققة لآماله وطموحاته ورفدها دون قيد أو شرط بكل غالي ونفيس؛ فاختلط عرق الجميع بالتراب الوطني في مسير واحد ومصير واحد وهدف واحد، فحققت عُمان مسارا تقدميا وفكرا نهضويا مميزا جعل منها تجربة حضارية وإنسانية رائدة.

إن المكون الأساسي للمشروع الحضاري العماني يعتمد على قاعدة يتوازن فيها الجانب الثقافي بكل ما تعنيه الكلمة من معان ودلالات مع جانب الانضباط وحب العمل والإنجاز وهو ما يؤكد على اجتهاد العمانيين عبر كل العصور كأمة عاملة ذات طموح ورغبة جامحة وجهد مثابر للاستكشاف والتعلم ونشر العلم والدين، ولعل هذا الفهم لمكون الحضارة العمانية وقوتها الناعمة يفرض علينا أن نطور لدى الأجيال المقبلة ثقافة حب العمل والمشاركة لأهميتها في عملية التنمية وبناء المستقبل فهي توفر فرص لإثراء المشهد وتنويعه بآراء وأفكار متجددة ومن مصادر متنوعة ودونما إقصاء لفرد أو جماعة، فالعناية بتشكيل ثقافة الأجيال القادمة هو جزء لا يتجزأ من منطلقات المشروع الحضاري للدولة بقطاعاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.

وختاما يمكننا القول بأن خصوصية المشروع الحضاري العماني تتلخص في رؤيته الاستشرافية للمستقبل يترجمها حراك جاد وهادف لتطوير بناء عمان (الدولة) وعمان (الإنسان).

د. خالد الحمداني كاتب عماني