ترجمة - أحمد شافعي -

في يوم الأربعاء الماضي، تلقى بنيامين نتنياهو تصفيقا من أعضاء الكونجرس الأمريكي وهم وقوف. بدا أن تلك اللحظة تنذر بطور جديد من حرب غزة، لا يتم التسامح فيه مع هذه الحرب باعتبارها ضرورة مؤسفة، وإنما تعد فيه شيئا يستمر دعمه بلا مساءلة وبلا حدود وبلا خطوط حمراء وبلا تقدير تكتيكي. الآن أصبح محو إسرائيل بلا هوادة للأسر والبيوت والثقافة والبنية الأساسية -دونما نهاية أو إشارة إلى الموعد الذي تكتمل فيه أهدافها- محض جزء من الحياة.

في الوقت نفسه، تطرح المرشحة الديمقراطية المفترضة كمالا هاريس نداء عديم المعنى تقول فيه «إننا لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نصبح بلداء» تجاه ما يجري وإنها «لن تصمت» عندما يكون الأمر الوحيد المهم للولايات المتحدة هو أن تستمر في تمويل إسرائيل وتسليحها.

كل ذلك لا يمثل انحلالًا للقانون الدولي وحده، وإنما للقانون الإنساني الأصلي. فمن بين جميع التجاوزات التي تقوض الحياة اليومية، قد يكون الموت قتلًا -بحسب وصفه- هو أسوأ الجرائم وأحطها. فقدسية الحياة الإنسانية، أي فكرة أنه لا يمكن إنهاؤها إلا بأرفع المبررات، هي التي تفصل بيننا وبين البربرية. وعلى مدار الأشهر التسعة الماضية، ومع كل حلقة بارزة من حلقات القتل، مرت لحظات كثيرة قال فيها المرء لنفسه: لا بد أن الأمر انتهى؟

حدث ذلك عند انتشال أوائل الأطفال الرماديين من الركام، وحينما صورت العدسات مدنيين غير مسلحين تصطادهم صواريخ المسيّرات، وعندما ماتت هند رجب ذات الخمس سنوات وهي في انتظار مساعدة وسط أقاربها الموتى، وعندما تعرض المسعفون الذين انتقلوا لمساعدتها للقتل، وعندما تعرض العاملون في (مطبخ الشارع العالمي) لقصف بصواريخ دقيقة التوجيه، وعندما تعرض رجل مصاب بمتلازمة داون لهجوم كلب تابع للجيش الإسرائيلي في بيته، ثم تركوه ليموت بعد أن أخرج الجنود أسرته ومنعوهم من الرجوع. ولكن الحرب لم تنته.

بذلت بطبيعة الحال محاولات للحفاظ على قواعد القانون الدولي والإنساني الهشة وتنفيذها. ومرة أخرى تمنى المرء مع صدور الأحكام أن تكون بشارة بنهاية الهجوم. حينما أعلنت محكمة العدل الدولية أن للفلسطينيين حقا منطقيا في الحماية من الإبادة الجماعية وطالبت إسرائيل بإيقاف الهجوم على رفح. وحينما تقدمت المحكمة الجنائية الدولية بطلب إصدار أمر اعتقال لنتنياهو. وحينما انتهت محكمة العدل الدولية إلى أن إسرائيل مسؤولة عن أبارتيد.

في سياق تلك الجهود، انضم ملايين المتظاهرين في العالم فأدى تظاهرهم إلى تعكير صفو السياسات الداخلية في بلادهم فبدا أن الموقف غير قابل للاستمرار. ولكن الحرب عثرت لنفسها على مكان جديد، واستقرت في حيز الأمر الواقع. ولعبت قضية غزة دورا في سياساتنا المحدودة وتداخلت مع سوءاتها. وأفرزت أصواتًا انتخابية احتجاجية ساعدة في إدخال عدد غير مسبوق من المستقلين إلى البرلمان في المملكة المتحدة وأحدثت اضطرابات انتخابية لساسة راسخين. وشهدت جامعات في الولايات المتحدة مشاهد تاريخية لمظاهرات وأعمال شرطية ثقيلة الأيدي.

وبرغم أن ما يجري يمثل تحولا دالا في الرأي العام العالمي تجاه إسرائيل، فإنه لا يزال غير مؤثر بالنسبة لأهل غزة الذين لا يعون أصلا بما يجري فيما يحاولون تفادي القنابل، ويبحثون عن الطعام، وينقبون وسط الأنقاض عن موتاهم. كل ما تمخض عنه ذلك لم يعدُ مزيدا من التحدي والعدوان الإسرائيلي، وإدانة حلفائها للأحكام القضائية، والانصراف عن عدد ضخم ممن لا يريدون غير إيقاف القتل أو تشويههم. ويبدو أن الرسالة من كل هذا هي: نعم، هذا هو العالم الذي نعيش فيه الآن، وخير لكم أن تعتادوا.

لكن كيف يكون شكل الاعتياد هذا؟ يبدو شبيها بالقبول بوجود مجموعات معينة من الناس يمكن قتلهم. وأن من المنطقي في واقع الأمر والضروري أن يموتوا حفاظا على نظام سياسي قائم على عدم تساوي الحياة الإنسانية. وهذا ما يطلق عليه الفيلسوف أشيل مبيمبي «سياسات الموت»، أي استعمال السلطة لفرض أن يعيش البعض وأن يتحتم موت البعض.

سياسة الموت تخلق عالم الموت الذي يحتوي «أشكالا جديدة وفريدة من الوجود الاجتماعي تخضع فيها أعداد هائلة من البشر لظروف معيشة تمنحهم وضع الموتى الأحياء». في عوالم الموت هذه يمكن قتل الآخرين وتدمير مواطنهم عبر قدرات عسكرية أسطورية لا يشعر مواطنو البلدان المسؤولة بتأثيرها مطلقا، تمنح مزيدا من القيم لإنسانية من يعيشون في الغرب «المتحضر». فهم مستثنون لأنهم جيدون، لا لأنهم أقوياء. بينما يموت الفلسطينيون لأنهم سيئون لا لأنهم ضعفاء.

استرخاص حياة الفلسطينيين يأتي من الفصل بين حياتنا وحياتهم، وفصل العالم القانوني والأخلاقي إلى عالمين، في أحدهما نعيش ونستحق التحرر من الجوع والخوف والقمع، وفي الثاني آخرون لهم صفات تبين أنهم لا يستحقون مثل ذلك. لذلك من المهم لمن يدافعون عن حرب إسرائيل أن يزعموا أن غزة ليس فيها أبرياء، وأن حماس تختبئ وسطهم، وأن أولئك الذين تتعاطفون معهم سيكونون أول من يقمعونكم لو أنكم مثليون أو نساء. فهم ليسوا مثلنا. وفور أن تتعلموا كيف تفصلون أنفسكم عن الآخرين على أساس إنسانيتهم، يكون عمل سياسات الموت قد اكتمل.

وتكون النتيجة عالما يبدو أنه عالق في منتصف تحول، تندفع الأحداث السياسية فيه بسرعة إلى الأمام، محيلة غزة إلى الطبيعي. صور غزة ورواياتها، وأحدثها لأطباء أمريكيين يكلمون شبكة سي بي سي نيوز عن أطفال مصابي الرؤوس والصدور بطلقات قناصة، صور تنافس الانتخابات الأمريكية على الانتباه. تنافس الميمات والنكات والثرثرة التافهة في عصرنا الرقمي. تأتينا غزة عبر المونتاج في مقاطع الفيديو الصغيرة والمنشورات: يرجى من المشاهدين توخي الحذر/كمالا طفلة مدللة/صور مزعجة/تفاصيل الوصفة في التعليقات/رشيدة طالب ترفع لافتة «مجرم حرب».

أي عالم يمكن أن يتمخض عنه هذا؟ الأمر ببساطة هو أن حرب غزة شديدة الضخامة، شديدة الحضور، شديدة القسوة، بحيث لا يمكن حسبانها أمرا طبيعي الحدوث دونما عواقب. والنتيجة النهائية هي مهانة الإنسانية كلها، وهي عالم حينما تعلو فيه دعوة إلى إغاثة المحتاجين، لن يكون أحد قادرا على التلبية.

نسرين مالك كاتبة عمود في صحيفة الجارديان ومؤلفة كتاب «نحتاج إلى قصص جديدة: تحدي الأساطير السامة وراء عصر السخط الذي نعيشه».