ظلت عُمان مطمعًا لقوى أجنبية كثيرة منذ فجر التاريخ، وخصوصًا في التاريخ الحديث حينما قصدها الاستعمار الأوروبي منذ بدايات القرن السادس عشر، فقد وصل البرتغاليون إلى البحار الشرقية بعد أن تمكنوا من السيطرة على الملاحة البحرية في المحيط الهندي، وكانت عُمان مقصدهم من البداية، في الوقت الذي كانت أوروبا تموج بحروب إقليمية دينية وسياسية، وقد استغل البرتغاليون تلك الفوضى الأوروبية وتمكنوا من إخضاع كل البحار الشرقية إلى نفوذهم، بينما كانت عُمان تواجه هي الأخرى حروبًا أهلية مع نهايات عصر النباهنة، لذا تمكن البرتغاليون من دخول المياه العمانية والسيطرة على سواحل عُمان ومدنها العامرة في مسقط ومطرح، بينما كانت العلاقة بين عُمان الساحل وعُمان الداخل تكاد تكون مجرد علاقة جغرافية، ولكن اللافت للنظر في كل مراحل التاريخ العماني أن تلك العلاقة الواهية بين الساحل والداخل كانت تزداد قوة وصلابة، حينما تتعرض عُمان لغزو خارجي.
لعل الدرس الأهم في التاريخ العماني العريق أن الخطر الخارجي دائما كان يوحّد العمانيين وتزداد العلاقة بين الساحل والداخل وتتوقف الحروب بين القبائل وتتلاشى الخصومات وتتراجع الخلافات القبلية والمذهبية وينضوي العمانيون تحت قيادة واحدة كان بطلها في مواجهة البرتغاليين ناصر بن مرشد اليعربي، الذي بعث في نفوس العمانيين فكرة الوحدة في مواجهة الأخطار الخارجية، لذا لم يعرف العمانيون الخلافات المذهبية طوال تاريخهم الحديث، ابتداء من عصر اليعاربة منذ بدايات القرن السادس عشر، قد يختلفون على طريقة اختيار حاكمهم، إلا أنهم في أوقات الخطر يتناسى الجميع خصوماتهم المذهبية والقبلية، ولم ينته عصر اليعاربة إلا والبرتغاليون قد تراجعوا إلى سواحل الهند الغربية، وقد تعقبهم العمانيون إلى تلك السواحل، وخاضوا حروبًا ضارية أجهزت على ما بقي من النفوذ البرتغالي.
لقد استوعب العمانيون الدروس التاريخية جيدا، حتى خلال عصر البوسعيد، حينما حاولت قوى إقليمية استعادة سيطرتها على السواحل العمانية، لكن كان الظهير القبلي والشعبي بمثابة حائط صد أعاد عُمان إلى توحدها وتماسكها، ابتداء من المؤسس الأول أحمد بن سعيد البوسعيدي، مرورا بكل حكام البوسعيد. وكانت عُمان عبر تاريخها الطويل دائمًا مقرًا آمنًا لمختلف المذاهب الإسلامية والديانات الآسيوية، وقد أضفت الدولة حمايتها على الجميع دون تفرقة، حتى حينما اعتنقت بعض الدول المجاورة مذهبًا دينيًا أرادت فرضه على العمانيين، لكن الشعب العماني في تماسكه ووحدته كان بمثابة الرصيد الداعم لمشروع الوحدة التي كان شعارها دائمًا التسامح مع كل من يعتنق مذهبًا بذاته أو دينًا مخالفًا لأهل عُمان، وهكذا تفردت عُمان بهذا الفيض من محبة الجميع، الناس جميعًا متساوون في حقوقهم الدينية وواجباتهم المدنية، حتى حينما أقاموا دولتهم في شرق إفريقيا لم يفرضوا على الناس دينًا أو مذهبًا وكان السلطان سعيد بن سلطان نموذجًا للحاكم الذي ساوى بين الجميع عربًا وأفارقة، وهو ما يفسر نجاح العمانيين في تشييد إمبراطوريتهم المترامية ما بين إفريقيا وآسيا، ومنذ هذا التاريخ البعيد لم يشعر أنصار أي مذهب أن الدولة العمانية تميز فريقا على آخر، وفي ظل هذا المناخ الإنساني شيد العمانيون حضارة عظيمة، امتدت من عُمان إلى شرق إفريقيا ضاربة في عمق القارة حتى البحيرات الاستوائية، نقلت الأفارقة من عصر الجهالة إلى عصر المدنية، وتطوير وسائل الحياة وبناء المدن وتطوير الاقتصاد، وبهذه المعاملة الإنسانية انتشر الإسلام في ربوع إفريقيا، إسلاما بلا مذاهب ولا عصبية، فالجميع متساوون في كل الحقوق لقد عايشت أهل عُمان منذ فترة مبكرة من حياتي مقيما بين أهلها، وقد شيدت المساجد والكنائس وكل دور العبادة، وكنت أتردد على الصلاة في المساجد، سواء مساجد السنة أو مساجد الإباضية، ولم أشعر في حياتي الاجتماعية والثقافية طوال فترة إقامتي ١٩٨٦-١٩٩١، بأي خلافات مذهبية، بل كان من الصعب جدًا التفرقة بين الإباضي والسني أو حتى الشيعي. الدولة العمانية لم تفرّق أبدا بين مواطنيها في الحقوق العامة، في الوظائف والخدمات، لم تكن المذهبية أبدًا موضوعًا مطروحًا للمناقشة، كان الجميع يعاملون كمواطنين على قدم المساواة، وكان الفضاء الجامعي الذي كنت أعمل فيه مفعمًا بالوطنية بين كل الطلاب، وكان من الصعب أن تعرف إلى أي مذهب ينتمي طالب أو آخر، لقد انضوى الجميع تحت مشروع إعادة بناء الدولة، في التعليم والصحة والعمران والخدمات العامة، كان التسامح والشعور بالمحبة يغمران الجميع، كنت وزملائي نشعر بالفخار من هذا البلد الذي ذابت فيه كل الفروق المذهبية والدينية والقبلية، بينما كان العالم من حولنا يموج بتيارات مذهبية متشددة مقيتة. طوال خمس سنوات هي فترة إقامتي في عُمان، لم أشعر ولو مرة واحدة بأي نوع من التشدد المذهبي الذي كان يضرب العالم الإسلامي وقتئذ، والذي كانت تدعمه دول ومؤسسات بعينها يعرفها الجميع، لقد انعكس هذا التسامح على كل مناحي الحياة، في الجامعة وفي المدارس وفي كل المؤسسات الثقافية والخدمية، كنت أتابع أحاديث سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عمان، ولم ألحظ أبدًا في كل أحاديثه وبرامجه التلفزيونية بأي نوع من الاستعلاء لمذهبه، وإنما كان في كل أحاديثه عميقًا في رؤيته متسلحًا بفكر مستنير، كما كنت ألاحظ أنه كثيرا ما يرجع في فتاويه إلى إعلاء قيم العقل والمصلحة والأخذ بما يقول به بعض علماء السنة، ومن بينهم الشيخ محمد عبده، وكان يستشهد بالأحاديث الصحيحة التي لا تتعارض أبدا مع المقاصد العامة للشريعة التي تستهدف الخير والنماء لكل المسلمين.
إن ما نشاهده الآن عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من فوضى عارمة وهجوم على سماحة الشيخ الجليل أحمد الخليلي يعد تجاوزًا غير مقبول وتقولا على رجل يعد نموذجًا للتسامح والاستنارة لا ينطق إلا بما يقول به القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة والمصالح المرسلة التي سبق وقال بها الإمام الشاطبي ومن بعده علماء أجلاء من قبيل الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ محمود شلتوت، وهي فتاوى جميعها تدعو إلى تماسك المجتمعات حفاظًا على نمائها وتطورها، لأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل قرآنه لخير الناس وسعادتهم، ولم يفرق فيه بين عرب أو عجم إلا بالتقوى، أرجو أن يكون هذا المقال بمثابة شهادة من رجل لم تعد تربطه بعُمان إلا ذكريات احتفظ بها في قلبي وعقلي وبأصدقاء ما زالت تربطني بهم علاقات المحبة والاحترام، حفظ الله عمان وشعبها من كيد الكائدين.
لعل الدرس الأهم في التاريخ العماني العريق أن الخطر الخارجي دائما كان يوحّد العمانيين وتزداد العلاقة بين الساحل والداخل وتتوقف الحروب بين القبائل وتتلاشى الخصومات وتتراجع الخلافات القبلية والمذهبية وينضوي العمانيون تحت قيادة واحدة كان بطلها في مواجهة البرتغاليين ناصر بن مرشد اليعربي، الذي بعث في نفوس العمانيين فكرة الوحدة في مواجهة الأخطار الخارجية، لذا لم يعرف العمانيون الخلافات المذهبية طوال تاريخهم الحديث، ابتداء من عصر اليعاربة منذ بدايات القرن السادس عشر، قد يختلفون على طريقة اختيار حاكمهم، إلا أنهم في أوقات الخطر يتناسى الجميع خصوماتهم المذهبية والقبلية، ولم ينته عصر اليعاربة إلا والبرتغاليون قد تراجعوا إلى سواحل الهند الغربية، وقد تعقبهم العمانيون إلى تلك السواحل، وخاضوا حروبًا ضارية أجهزت على ما بقي من النفوذ البرتغالي.
لقد استوعب العمانيون الدروس التاريخية جيدا، حتى خلال عصر البوسعيد، حينما حاولت قوى إقليمية استعادة سيطرتها على السواحل العمانية، لكن كان الظهير القبلي والشعبي بمثابة حائط صد أعاد عُمان إلى توحدها وتماسكها، ابتداء من المؤسس الأول أحمد بن سعيد البوسعيدي، مرورا بكل حكام البوسعيد. وكانت عُمان عبر تاريخها الطويل دائمًا مقرًا آمنًا لمختلف المذاهب الإسلامية والديانات الآسيوية، وقد أضفت الدولة حمايتها على الجميع دون تفرقة، حتى حينما اعتنقت بعض الدول المجاورة مذهبًا دينيًا أرادت فرضه على العمانيين، لكن الشعب العماني في تماسكه ووحدته كان بمثابة الرصيد الداعم لمشروع الوحدة التي كان شعارها دائمًا التسامح مع كل من يعتنق مذهبًا بذاته أو دينًا مخالفًا لأهل عُمان، وهكذا تفردت عُمان بهذا الفيض من محبة الجميع، الناس جميعًا متساوون في حقوقهم الدينية وواجباتهم المدنية، حتى حينما أقاموا دولتهم في شرق إفريقيا لم يفرضوا على الناس دينًا أو مذهبًا وكان السلطان سعيد بن سلطان نموذجًا للحاكم الذي ساوى بين الجميع عربًا وأفارقة، وهو ما يفسر نجاح العمانيين في تشييد إمبراطوريتهم المترامية ما بين إفريقيا وآسيا، ومنذ هذا التاريخ البعيد لم يشعر أنصار أي مذهب أن الدولة العمانية تميز فريقا على آخر، وفي ظل هذا المناخ الإنساني شيد العمانيون حضارة عظيمة، امتدت من عُمان إلى شرق إفريقيا ضاربة في عمق القارة حتى البحيرات الاستوائية، نقلت الأفارقة من عصر الجهالة إلى عصر المدنية، وتطوير وسائل الحياة وبناء المدن وتطوير الاقتصاد، وبهذه المعاملة الإنسانية انتشر الإسلام في ربوع إفريقيا، إسلاما بلا مذاهب ولا عصبية، فالجميع متساوون في كل الحقوق لقد عايشت أهل عُمان منذ فترة مبكرة من حياتي مقيما بين أهلها، وقد شيدت المساجد والكنائس وكل دور العبادة، وكنت أتردد على الصلاة في المساجد، سواء مساجد السنة أو مساجد الإباضية، ولم أشعر في حياتي الاجتماعية والثقافية طوال فترة إقامتي ١٩٨٦-١٩٩١، بأي خلافات مذهبية، بل كان من الصعب جدًا التفرقة بين الإباضي والسني أو حتى الشيعي. الدولة العمانية لم تفرّق أبدا بين مواطنيها في الحقوق العامة، في الوظائف والخدمات، لم تكن المذهبية أبدًا موضوعًا مطروحًا للمناقشة، كان الجميع يعاملون كمواطنين على قدم المساواة، وكان الفضاء الجامعي الذي كنت أعمل فيه مفعمًا بالوطنية بين كل الطلاب، وكان من الصعب أن تعرف إلى أي مذهب ينتمي طالب أو آخر، لقد انضوى الجميع تحت مشروع إعادة بناء الدولة، في التعليم والصحة والعمران والخدمات العامة، كان التسامح والشعور بالمحبة يغمران الجميع، كنت وزملائي نشعر بالفخار من هذا البلد الذي ذابت فيه كل الفروق المذهبية والدينية والقبلية، بينما كان العالم من حولنا يموج بتيارات مذهبية متشددة مقيتة. طوال خمس سنوات هي فترة إقامتي في عُمان، لم أشعر ولو مرة واحدة بأي نوع من التشدد المذهبي الذي كان يضرب العالم الإسلامي وقتئذ، والذي كانت تدعمه دول ومؤسسات بعينها يعرفها الجميع، لقد انعكس هذا التسامح على كل مناحي الحياة، في الجامعة وفي المدارس وفي كل المؤسسات الثقافية والخدمية، كنت أتابع أحاديث سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عمان، ولم ألحظ أبدًا في كل أحاديثه وبرامجه التلفزيونية بأي نوع من الاستعلاء لمذهبه، وإنما كان في كل أحاديثه عميقًا في رؤيته متسلحًا بفكر مستنير، كما كنت ألاحظ أنه كثيرا ما يرجع في فتاويه إلى إعلاء قيم العقل والمصلحة والأخذ بما يقول به بعض علماء السنة، ومن بينهم الشيخ محمد عبده، وكان يستشهد بالأحاديث الصحيحة التي لا تتعارض أبدا مع المقاصد العامة للشريعة التي تستهدف الخير والنماء لكل المسلمين.
إن ما نشاهده الآن عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من فوضى عارمة وهجوم على سماحة الشيخ الجليل أحمد الخليلي يعد تجاوزًا غير مقبول وتقولا على رجل يعد نموذجًا للتسامح والاستنارة لا ينطق إلا بما يقول به القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة والمصالح المرسلة التي سبق وقال بها الإمام الشاطبي ومن بعده علماء أجلاء من قبيل الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ محمود شلتوت، وهي فتاوى جميعها تدعو إلى تماسك المجتمعات حفاظًا على نمائها وتطورها، لأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل قرآنه لخير الناس وسعادتهم، ولم يفرق فيه بين عرب أو عجم إلا بالتقوى، أرجو أن يكون هذا المقال بمثابة شهادة من رجل لم تعد تربطه بعُمان إلا ذكريات احتفظ بها في قلبي وعقلي وبأصدقاء ما زالت تربطني بهم علاقات المحبة والاحترام، حفظ الله عمان وشعبها من كيد الكائدين.