ترجمة: بدر بن خميس الظفري -

ربما، في وقت سابق من هذا العام، لاحظ السائقون في دالاس وجود مجموعة من ثلاث لوحات إعلانية على جانب الطريق السريع رقم 67، وبدلاً من الإعلان عن تناول أقرب قطعة من لحم الصدر أو «المشروب الأكثر إنعاشًا في العالم»، صورت اللافتات قرصًا أسود محاطًا بدائرة حمراء نارية غامضة.

كانت اللوحات الإعلانية في الواقع أعمالًا فنية، جزءًا من سلسلة من خمس لوحات إعلانية تسمى (فيو فايندَرْ) أو (عدسة الكاميرا)، إذ يصور فنان الفيديو الأمريكي (بريان فريدج) كسوفًا للشمس. ولإنشاء الصور، استخدم فريدج مصباحًا مكتبيًا يمثل الشمس، وقرصًا غير شفاف يمثل القمر، ومحركًا صغيرًا يسحب القرص على خيط، لسحب الجاذبية التي توجه دوران القمر حول الشمس.

فريدج هو واحد من العديد من الفنانين الذين يبحثون عن الإلهام في ظل القمر، أما آشلي زيلينسكي فستكشف عن منحوتة في معرض دالاس للفنون، تصور قمرًا مظلمًا يغلف الشمس مع مخالب، إلى جانب تمثيل ثلاثي الأبعاد لقمر أسود عائم. وفي مشروع فني منفصل في مدينة نيويورك، ستعرض أنجيلا لين، المعروفة بإبداعها لعقد من الزمن في رسم لوحات زيتية بحجم بطاقة بريدية تصور الكسوف والشمس المزدوجة وغيرها من الأحداث السماوية، ستقدم عرضا جديدًا لمثل هذه الأعمال الفنية في معرض (أنات إبجي) لاحقًا هذا العام. بالإضافة إلى ذلك، ستقدم راشيل ماكفارلين لوحة «الحدث» في معرضها الفردي في (هوليس تاغارت)، والذي يعرض رسمًا سرياليًّا لجزيرة الأمير إدوارد التي دمرها الإعصار في كندا بالإضافة إلى تصوير تجريدي لكسوف الشمس لإثارة الشعور بالهلاك الوشيك داخل المشهد. وتعتزم ماكفارلين مشاهدة كسوف قادم وإعادة بناء المشهد من الذاكرة عند عودتها إلى الاستوديو الخاص بها في مدينة نيويورك.

إن تحول كسوف الشمس إلى مصدر إلهام مفضل للفنانين ليس بالأمر المفاجئ بالنظر إلى الجاذبية المسرحية لهذه الظاهرة. ما يلفت الانتباه هو المدة التي حاول فيها الفنانون فهم هذا الحدث السماوي، ومدى تطور تفسيراتهم مقارنة بفهمنا للكسوف.

يقول كارل كوسيروف، أمين الفن الأمريكي في متحف الفنون بجامعة برينستون والذي أسهم في معرض عام 2017 حول الكسوف بعنوان «التأثيرات العابرة»: «أعتقد أن الكسوف يجعلنا، بطريقة عميقة ومحدودة زمنيًا، على اتصال بهذه الأشياء ذات النطاق الكوني التي تخرجنا حقًّا من أنفسنا ومن عالمنا الصغير، وتجلبنا إلى نوع من التفاعل مع اللانهائي. إن الكسوف يحدث منذ مليارات السنين، وهو يشركنا، بطريقة أساسية للغاية، مع تلك الضخامة التي لا توصف للعالم والتي تتجاوز روتيننا اليومي ».

إن الوقوع الدوري لكسوف الشمس الكلي (والذي، خلافًا للاعتقاد السائد، ليس نادرًا ويحدث كل 18 شهرًا أو نحو ذلك في مكان ما من العالم) يجعل من هذه الظاهرة غير العادية منصة مثالية لاستكشاف الطرق المتغيرة التي يدرك بها البشر العالم من حولهم. تختلف هذه التصورات حسب الجغرافيا والثقافة، ولكن أيضًا حسب الوقت.

لم يكن كسوف الشمس على الدوام نقطة جذب سياحية ترفيهية، فالناس لم يتدفقوا لمشاهدته على الأسطح، ولم يسافروا آلاف الأميال لمشاهدة السماء وهي تظلم. بالنسبة للحضارات القديمة، كان يُنظر إلى الكسوف على أنه فأل مظلم غالبًا ما يدل على غضب آلهتهم. ولم يكن الأمر مبهجًا؛ بل كان مقلقًا.

وقد يفسر هذا بسبب عدم تصوير كسوف الشمس كثيرًا في العصور الأولى، وفقًا لبعض الخبراء. في العديد من الثقافات القديمة، كان يُنظر إلى الشمس على أنها إله ومصدر للحياة يساعد المحاصيل على النمو في كل موسم. وعلى المنوال نفسه، كان غياب الشمس محفوفًا بالمخاطر، فلماذا تم تحويله إلى فن؟

يقول كوسيروف: «لم يكن عمل رسم توضيحي سهلاً لمجرد التقاط قلم حبر جاف كما هو الآن. في الماضي، إذا كنت تنحت على الحجر، فسوف تركز على أشياء أخرى».

الرسوم في العصور الأولى لكسوف الشمس قليلة ومتباعدة، لكنها موجودة. في الأساطير الإسكندنافية، يأخذ الكسوف شكل ذئبين هما: سكول وهاتي، وهما يطاردان الشمس والقمر. تقول القصة إنه إذا أمسك أحد الذئاب بالشمس، فوقع كسوف للشمس، وسيؤدي ذلك إلى نهاية العالم. وفي الأساطير الصينية، غالبًا ما صُوّرَ الكسوف على أنه تنين يلتهم الشمس.

وفي الفن الغربي، أحد أكثر تمثيلات الكسوف تكرارًا كان في الفن المسيحي. ولكن كما أوضح إيان بلاتشفورد، مدير متحف العلوم في لندن، في مقال نشر عام 2016 في مجلة الجمعية الملكية، فإن الكسوف هناك أيضًا هو رمز أكثر من كونه تصويرًا حرفيًا.

على سبيل المثال، يُعتقد أن حادثة الصلب وقعت أثناء كسوف كلي للشمس، لذا فإن (عواجيز ساليرنو) من القرن الحادي عشر أو الثاني عشر يظهرون المسيح المحتضر محاطًا بالشمس والقمر، في إشارة إلى آية من الكتاب المقدس تنص على أن «الظلام سقط على الأرض كلها... لأن الشمس حجبتها». في أناجيل إخترناخ، التي تصور لحظة موت المسيح على الصليب، تأخذ الشمس والقمر شكل شخصيات بشرية يغلف وجوهها الحزن.

وأصبحت صور الكسوف أكثر واقعية خلال عصر النهضة، وهي الفترة المعروفة بتقارب الفن والعلم. ففي حوالي عام 1518، أنشأ رافائيلو في ورشته لوحة جدارية مذهلة بعنوان (إسحاق وريبيكا تجسس عليهما أبيمالك). تقع اللوحة الجدارية في لوجيا في قصر الفاتيكان، وتتميز بنسخة مفصلة من كسوف الشمس، بما في ذلك أشرطة ضوء نارية منبعثة من الشمس. يعتقد بعض الخبراء أن رافائيلو استخدم الكسوف باعتباره استعارة معقدة لخداع إسحاق وريبيكا الخفي، والذي حدث أثناء الكسوف الكلي.

في السنوات الأخيرة، اكتشف العديد من الفنانين ظواهر كونيّة بتفاصيل متزايدة، بدءًا من الرسومات الفلكية الجذابة لـ(إتيان تروفيلو (1878) إلى فن البوب الكوني لـ(روي ليختنشتاين (1975). لكن الأهم بينهم يظل هو الرسام (هوارد راسل بتلر) الذي عاش في أوائل القرن العشرين، والذي تتميز لوحاته عن الكسوف بمزاياها الفنية والعلمية.

اشتهر بتلر بصوره لأندرو كارنيجي، لكنه درس الفيزياء والقانون قبل أن يتجه إلى الفن. عندما كان الرسام يبلغ من العمر 62 عامًا، تمت دعوته للانضمام إلى بعثة المرصد البحري الأمريكي إلى ولاية أوريغون، حيث سجل كسوف الشمس عام 1918. وكتب لاحقًا عن تلك الرحلة الاستكشافية: «لقد طلبت عقد عشر جلسات مدة كل منها ساعتان، لكن الوقت الذي سمحوا لي به في هذه المناسبة كان 112 ثانية وعشر الثانية».

واستمر بتلر في رسم ثلاث لوحات مختلفة للكسوف بعد ملاحظة الظاهرة في أعوام 1918 و1923 و1925. وبحلول ذلك الوقت، كان المصورون قد حاولوا توثيق الكسوف بمستويات متفاوتة من النجاح. ولكن بينما كان المصورون يكافحون من أجل التقاط الفروق الدقيقة والألوان النارية لهالة الشمس، نجح بتلر في تدوين ملاحظات مختصرة دقيقة أثناء الكسوف، ثم أكمل ملاحظاته لاحقا، تمامًا مثل مجموعة الطلاء بالأرقام. (وفقًا لبعض الروايات، أتقن بتلر هذه التقنية أثناء رسم 13 صورة لكارنيجي، الذي قيل إنه لم يكن قادرًا على الجلوس ساكنًا لفترة طويلة.)

اليوم، لم يعد التقاط كسوف الشمس جهدًا شاقًا. يمكن لأي شخص تقريبًا لديه كاميرا رقمية، وفلتر عدسة شمسية، ويتمتع بالصبر لقراءة طريقة التصوير عبر الإنترنت، الحصول على صورة لائقة له. لقد وثق الحدث بكل مجده الزائل، ومن كل زاوية. ومع ذلك، لا يزال الفنانون مفتونين به.

بالنسبة للفنانة التشكيلية زيلينسكي، فإن صنع فن مستوحى من العلم يعني التعامل مع أسئلة وجودية مثل «لماذا نحن هنا؟» و«ماذا هناك؟» تقول زيلينسكي: «لقد ظللنا نطرح هذه الأسئلة منذ أن كنا قادرين على التفكير، لذا فإن الإجابة على هذه الأسئلة كفنانة هي فضول إنساني أساسي».

منذ أكثر من عامين بقليل، تعاونت زيلينسكي مع علماء وكالة ناسا لإنتاج مجموعة من الأعمال الفنية، مثل زوج من القفازات الرخامية على غرار يدي رائد الفضاء المتقاعد في وكالة ناسا مايك ماسيمينو. هذا العام، تقدم منحوتة تسمى الكسوف، التي أنشئت باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، وتتمتع هذه المنحوتة بوظيفة مزدوجة، إذ تعمل عارضا ذا ثقب صغير لمراقبة الكسوف، كما يتميز أيضًا بتمثيل ثلاثي الأبعاد للحدث. تقول زيلينسكي إنّ «[كسوف الشمس] هو شيء عليك أن تراه بنفسك. لا يمكنك وصفه لشخص ما. ولهذا السبب اخترت أن أصنع صورة ثلاثية الأبعاد له. يرى الناس الصورة المجسمة التي أصنعها ويلتقطون صورًا لها، لكنها لا تبدو ثلاثية الأبعاد للناس؛ بالفعل لا يمكنك معرفة أنها ثلاثية الأبعاد، وهذه هي الوسيلة المثالية.»

وتضيف زيلينسكي: «يجب أن تكون هناك شخصيا بجسدك من أجل مشاهدته».

ومن أجل منحوتتها «الكسوف»، حاولت زيلينسكي نقل الشعور الغريب الذي ينتابك أثناء كسوف الشمس. وتقول: «تشعر الطيور بالفزع، وتخرج الصراصير، وتعتقد الحيوانات أن الليل قد حل، وهناك حالة إضاءة غريبة». صممت زيلينسكي قمرها باستخدام بيانات من مركبة الاستطلاع القمرية التابعة لناسا، والتي كانت ترسم خرائط لسطح القمر منذ 15 عامًا. ثم قامت بتغليف الكرة بطبقة سوداء داكنة، وقامت بطباعة مشاعل ثلاثية الأبعاد لتمثيل الإكليل.

النحت الناتج يوحي بالشر إلى حد ما، ويعود بنا إلى بداية ظهور فن الكسوف. تقول زيلينسكي: «لدى كل ثقافة أعمال فنية عن الكسوف، لكنهم دائمًا يقولون: «الله يعاقبنا بهذا الكسوف. لم أجد مثالًا واحدًا على قولهم بدهشة: ما هذا! إنه كسوف!. أعتقد أن هذه هي الطريقة التي تفسرها البشرية، لذلك سأبقى صادقةً مع هذا العذاب والكآبة».

وفي الوقت نفسه، كان فنان الفيديو (فريدج) مفتونًا منذ فترة طويلة بالضوء والمادة ومرور الوقت، ولكن سلسلته الفنية (فيو فايندَرْ) هي المرة الأولى التي يصنع فيها عملاً فنيًّا مستوحى من الكسوف. يشتهر فريدج بصوره وأفلامه التجريدية التي تصور العمليات الطبيعية التي يسجلها في منزله، مثل السحب الملقّحة التي أنشأها في ثلاجته، أو مصابيح سطح المكتب التي تمثل الشمس، كما هو الحال هنا. قال لي في مكالمة فيديو أجريت مؤخرًا من منزله، وهو أيضًا الاستوديو الخاص به: «أنا لا أغادر المنزل أبدًا، ولا أسجل أي شيء خارج المنزل في الطبيعة، كل ما أفعله هو أنني أجد الأشياء على المستوى المحلي، ثم أحاول إضفاء نوع من المعنى عليها.»

ولإنشاء (فيو فايندَرْ)، استخدم فريدج جهازًا صغيرًا يتّصل بجهاز آيفون لالتقاط التوقيع الحراري لأي كائن معين وإنشاء ما يعرف بالتصوير الحراري. لقد أنشأ فيلمًا مدته ست دقائق يتتبع تطور الكسوف المؤقت، والتقط لقطات من مراحل مختلفة من الكسوف، وقام بتكبيرها لعرضها على خمس لوحات إعلانية في دالاس والمناطق المحيطة بها.

كانت النتيجة شبه حقيقيّة لدرجة أنه عندما عرض الفيلم، الذي يحمل أيضًا عنوان (فيو فايندَرْ)، لأول مرة في دالاس كونتمراري في 10 مارس، شعر فريدج بالحاجة إلى توضيح أن هذه لم تكن لقطات «حقيقية» كما افترض بعض المشاهدين. لقد كان تفسيرًا فنيًا ووهمًا أنشئ عمدًا باستخدام أدوات عادية تستعمل يوميا. يقول: «أنا أحب المعنى الذي يمكن أن ينشأ من شيء محدود، وأنت تشعر بهذا المحدود»، في إشارة إلى التصورات الواقعية للغاية التي يمكن للمرء تحقيقها باستخدام الكمبيوتر أو الذكاء الاصطناعي اليوم.

باستخدام (فيو فايندَرْ)، يقول فريدج إنه أراد استكشاف الطرق المختلفة التي يرى بها البشر الأشياء. يمكنك ارتداء زوج من نظارات السلامة والنظر إلى كسوف الشمس، أو يمكنك القيادة بجوار لوحة إعلانية على جانب الطريق السريع والعثور على المعنى في صورة ثابتة.

ويقول: «فليحقق ما يحققه الفن بطبيعته، والذي، من وجهة نظري، هو تعزيز روح الإعجاب والدهشة، مما يؤدي إلى تصور أوسع وأكثر ثراء للعالم».

إليسافيتا إم براندون كاتبة مستقلة مقيمة في بروكلين. ظهرت أعمالها في مجلة كيربد ومجلة ميتروبوليس ومجلة أركيتيكتشرل ديجسيت وغيرها. تكتب عن الهندسة المعمارية والمدن والحياة.

عن مجلة سميث سونيان ماج.