الشِّعر في الثقافة العربية، غير الشعر في الثقافات الأخرى، ليس فقط مِن حيث التاريخ والقيمة والأثر، ولا مِن حيث اتفاق النقاد -قدامى ومعاصرين- على أنه ديوان العرب، ولكن بسبب ارتباطه لغةً وبيانًا بالمقدّس الذي هو هنا القرآن الكريم الذي شكّل الثقافة العربية قديمًا وحديثًا، وهو الذي أشار إلى الشعر أكثر من مرة، بل إنه أطلق على سورةٍ من سورِه اسم سورة «الشعراء»، وأظن أن علماء وباحثين كثيرين أشاروا من قبل في بحوثٍ ودراسات لا حصر لها إلى علاقة القرآن بالشعر أو إلى موقفِه منه، وإلى أن القرآن تحدى العرب على أن يأتوا بسورةٍ أو آيةٍ أو حرفٍ من مثلِه، وأن هذا التحدي ما كان ليقع لولا فصاحة العرب وبيانها وبلاغتها وهو ما تَمثل وتجلّى في أبهى وأكمل صورةٍ عندهم.. في الشعر.

ولقد استقر في الأذهان -بسبب تحدي القرآن العرب وبيانهم- أن أكثر النماذج الشعرية جمالًا وبيانًا هو ذلك النموذج العربي القديم ذو الشطرين وذو الإيقاع العروضي الذي أطلِق عليه فيما بعد (الخليلي) وهو النموذج الذي ساد ثقافتنا أزمانًا طويلة حتى جرت في نهر الثقافة العربية مياه كثيرة، وظهرت أشكال شعرية جديدة منها ما يسمّى بالشعر التفعيلي، ثم ما يسمّى بقصيدة النثر التي أحدثت صخبًا ودويًا كبيرين.

وليس الغرض من هذه القراءة تتبع رحلة القصيدة العربية وما طرأ عليها من تجديد أو تغيرات، ولا حتى تتبع مراحل الصراع بين الأشكال الشعرية، فقد سبقنا الكثيرون إلى ذلك، لكن الغرض الإشارة إلى المضمر والمسكوت عنه في هذا الصراع، ذلك المتعلق بمفاهيم الهوية واللغة، وهو ما يبدو ممكنًا الآن بعد أن هدأت حِدة الملاسنات بين الأطراف جميعها.

منذ ما يقرب من عشرين عامًا، وفي حوارٍ معه بمجلة عمّان، (العدد 129 سنة 2006م) قال الناقد الدكتور يوسف بكّار:

«حان الوقت لإغلاق السجال حول قصيدة النثر؛ لأن قصيدة النثر أصبحت مثل بحر الرجز، يمتطيه كثيرون، وبعد أن قلَّ مناوئوها من الشعراء والنقاد، وغيَّر بعضهم، أو تخففوا من مواقفهم حيالها».

لكن السجال لم يغلَق حتى يومنا هذا ونحن نقترب من نهاية عام 2024م، وما يزال هناك مَن يتساءل عن شرعية وجود قصيدة النثر، وهل أثبتت جدارتها أم لم تثبت بعد؟!

لكن مِن المهم الالتفات إلى التشبيه الرائع الذي وردَ في عبارة الدكتور بكّار عندما شَبّه قصيدة النثر ببحر الرجز الذي يمتطيه الكثيرون؛ لأن هذه الالتفات سيضعنا أمام سؤال إذا كانت كذلك منذ عشرين عامًا فكيف هي الآن؟!

وقبل محاولة الإجابة عن كيف هي الآن أظن أنه يمكننا القول إن الصراع الذي كان محتدمًا بين أنصار قصيدة الإيقاع، خليلية كانت أو تفعيلية، وأنصار قصيدة النثر قد هدأت وطأته قليلا، وألقت ميلشيات كل طرف أسلحتَها الثقيلة. ولا يمكن الزعم أن السبب في ذلك هو اعتراف كل طرف بحق الآخر، لكن الذي نظنه هو قبول الطرفين مبدأ التعايش السلمي أو قبول الأمر الواقع، لا سيما بعد أن استطاعت قصيدة النثر أن تحقق وجودًا طبيعيًا وحقيقيًا، وأن تحتل مساحاتٍ كبيرة من المشهد الإبداعي، بعد أن استطاعت كثير من نماذجها أن تعبّر عن حاجاتٍ وأشواقٍ إنسانية معاصرة، كما استطاع أنصارها وممثلوها أن يشغلوا وظائف ومناصب مهمة تتعلق بالكتابة والإدارة والتحرير في عدد من الصحف والمجلات والدوريات المرتبطة بالنشر، وهو ما منح الفرصة لهم أن يستثمروا هذه المساحات لنشر نماذجَ ونصوصٍ كثيرة أثّرت بمرور الوقت على عمليات التلقي والذائقة، ثم ظهرت أجيال جديدة وجدت في هذه النماذج نفسَها.

وإذا كنا بحاجة إلى فهْم إشكالية ما دار-وما يزال يدور- حول هذا الصراع الذي هدأ ولم ينتهِ في زعمنا، فنحن بحاجة -في هذه القراءة- إلى ألا نكون إيقاعيين ولا نثريين في نظرتنا إلى هؤلاء وإلى أولئك، بمعنى اعترافنا وتقديرنا للنموذجين معًا، والوقوف أمام جماليات كل نوع، والأهم من ذلك طرح الأسئلة ومواجهة علامات الاستفهام الكبرى هنا أو هناك.

من ذلك مثلًا ضرورة الاعتراف أن الأفق الفلسفي والثقافي والجمالي لقصيدة النثر المعاصرة يبدو أكثر حيوية وإغراء؛ لارتباطه بمفاهيم الحداثة والعقلانية والمعاصرة، تنظيرًا على الأقل، كما أن قدراته النقدية على البحث عن بنية جديدة للوعي العربي أكبر من قدرة قصيدة الإيقاع، المتهَمة دائمًا أنها تعيد إنتاج نفسها، ومن ثم تنتج الوعي القديم نفسه. فضلًا عن أن إيقاع عصرنا الراهن السريع لا يتناسب والقصيدة الإيقاعية النمطية التي تعترف هي نفسها وممثلوها بأنها تعيش أزمة ما بسبب سيادة مفهوم «النظم»-بمعنى الكتابة غير الشعرية وليس بمعنى نظرية عبد القاهر الجرجاني- على أكثر نماذجها، وبسبب انصراف الأجيال الجديدة عن القصيدة لتغيّر الذائقة، كما لا يمكن إيجاد تفسير لهذه المسابقات والجوائز المليونية الضخمة والحاشدة لقصيدة الإيقاع (قصيدة الخليل تحديدًا) إلا بسبب هذه الأزمة التي تعيشها القصيدة، فمِثل هذه الجوائز والمسابقات محاولة إثبات وجود، أكثر من كونها تعبيرًا صادقًا وحقيقيًا عن تميّز القصيدة أو قدرتها على التعبير عن العالم ورؤيته.

وإذا كان كذلك فيما يخص قصيدة الإيقاع، فهناك ما يخص قصيدة النثر أيضًا، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن هو سؤال لماذا لا يستطيع أي مواطن عادي أن يكتب- ولو نَظمًا- قصيدةَ الخليل أو قصيدة التفعيلة، إلا إذا كان يمتلك حظًا- ولو ضئيلاً- من بعض العلوم والمعارف، كالنحو والصرف والعروض، بينما يستطيع أي مواطن عادي أن يكتب ما يتصور أنه قصيدة النثر، دون أن يُشترط عِلمه أو معرفته بأي شيء له علاقة باللغة التي يتفضل ويكتب بها؟!

لماذا يمكن لنا، بسهولةٍ وبساطة، أن نتبين الغثّ من الرديء في قصيدة الخليل وقصيدة التفعيلة، ولا يمكننا الشيء نفسه في قصيدة النثر؟ لماذا تبدو علاقة الشاعر الإيقاعي باللغة التي يكتبها وينطقها جيدة، بينما لا تبدو العلاقة كذلك عند كثيرين من شعراء قصيدة النثر الذين يخطئون في النحو نطقًا أو كتابة رغم أنهم يكتبون بالفصحى؟!

ما أسهلَ أن يقال ردًا على هذا إنّ كشْف النماذج الرديئة من قصيدة النثر، سهل وميسور، أو أن يقال إنّ شروط قصيدة النثر وضوابطها أكثر صعوبةً من غيرها.. وهو كلام مرسَل ومجاني؛ لأن الواقع الذي يرسِل ويستقبل ويتفاعل مع قصيدة النثر ونماذجها كلها دون استثناء، يقول غير ذلك تمامًا!

على جانبٍ آخر، يمكننا أن نتساءل عن تأثير الأموال المليونية التي يتم إنفاقها على مسابقات قصيدة الخليل وقصيدة التفعيلة، وكيف يعمل الشعراء على صناعة قصائدهم في ظل إغراءات مالية ضخمة؟! وما دور الشاعر ووظيفته ومهمته هنا، هل يظل هذا الدور ثقافيًا وجماليًا؟ أم هو مجرد لهاث وراء تلك الأموال الضخمة التي يسيل لها لعاب القصيدة؟!

هل الشاعر هنا متهَمٌ أم معذور؟

هل الأمر كما يبدو في ظاهره اهتمام باذخ بفن العربية الأول، ودلال تستحقه القصيدة العربية؟

حسنًا، لماذا لم تَحظَ قصيدة النثر، رغم ما تَحقق لها الآن من ذيوعٍ وانتشار وحضور، بشيء من هذا الدلال الذي تحظى به قصيدة الخليل؟ ولماذا لا نرى مؤسساتٍ ومنظماتٍ تقوم بدعم منابرها وممثليها؟

ربما كانت هناك إجابات كثيرة ومتعددة عن هذا السؤال، لكن أهم هذه الإجابات سيكمن في طبيعة الذائقة العربية التي تربّت ونشأت على النموذج الشعري الأول، وهي نشأة وتربية تؤثران في عمليات التلقي ومستوياته عند معظم المتعلمين والمثقفين العرب.

صحيح أن قصيدة النثر حققت أغراضَها الجمالية والثقافية، كما أنها الآن ليست موضع اتهام بأنها أداةً لتحقيق مآربَ أو أهداف أيديولوجية، بل أصبحت جزءًا من الثقافة الإنسانية والعالمية، بما تمثله من قيم التحرر والانفتاح على الآخَر وقبولِه، فضلاً عن أن أنصارها والمؤمنين بها يحملون على عاتقهم، وحدَهم، مهمة الترويج لها مِن خلال كتاباتهم، ومطبوعاتهم، وندواتهم ومؤتمراتهم التي يقيمونها وينفِقون عليها. ورغم ذلك كله لا توجد مسابقة ولا جائزة مليونية كبرى في الوطن العربي تهتم بقصيدة النثر، في الوقت الذي نجحت فيه المسابقات والجوائز المليونية لقصيدة الإيقاع في استقطاب الكثيرين، وتَدافع ملايين الشعراء وراء إغراءات المال. إلا أنه وبإنصافٍ وموضوعية، نقول إنّ هناك نفرًا من الشعراء استطاعوا وهم يلبّون نداء الجوائز المليونية أن يقدموا نماذج شعرية تحمل روحًا جديدة مختلفة، لكن هذه النماذج قليلة واستثنائية، ولا أظنها تشكّل ظاهرة في حركة الشعر الخليلي كمثال. ويمكننا الزعم أن هذه النماذج والمسابقات المليونية تَرَتب عليها بعض نتائجَ وتداعياتٍ سيئة، كانت وما تزال تشكل خطرًا، ليس فقط على مستوى الكتابة، ولكن أيضًا على مستوى الخلُق الثقافي والاجتماعي بسبب تنافس الشعراء فيما بينهم، لا من أجل القصيدة بل من أجل الجائزة، وهي نتائج ربما يمتد أثرها– لو استمرت الحال على ما هي عليه– إلى مستقبل أجيالٍ شعريةٍ قادمة!

وربما كان البعد الثقافي واحدًا من أهم مستويات الصراع بين قصيدة الإيقاع وقصيدة النثر، فالصراع منذ بدأ وحتى لحظتنا هذه ليس صراعًا جماليًا، ولا هو صراع ذائقة، كما قد يتصور البعض. لكن مستوى منه يتعلق بالثقافي وفكرة الوعي، إذ لا يمكن إغفال أن قطاعًا عريضًا ممن يتعاطون الشعر العربي كتابةً وتلقيًا، ينظرون إلى القصيدة العربية، بشكلها الكلاسيكي القديم، بقافيتها وأوزانها، باعتبارها صورة من صورة الحفاظ على الهوية، فضلاً عن أنها تلبّي احتياجات الذائقة التي تَربّت عليها، كما أنها – وهذا أهمّ وأخطر– متصلةٌ في وعيهم وتصوراتهم بالمقدس الذي أشرنا إليه.. وهو الوعي والتصور الذي تجاوز فكرة ارتباط القصيدة العربية بالمقدس إلى فكرة وجود مؤامرة ضد اللغة، والدين، والثقافة، والهوية التي تمثلها القصيدة العربية الإيقاعية، لا سيما إذا أدركنا أن الاختلاف بين القصيدتين ليس اختلافًا في الشكل، لكنه في الروح التي تسري في اللغة والتشكيل؛ بسبب الأنساق الفكرية، والمعطيات الجمالية التي يمنحها الشكل نفسه.

وعلى الناحية الأخرى تمثل قصيدة النثر عند أنصارها وممثليها ثورة ليس فقط على الشكل الشعري، ولكن ثورة على النسق المعرفي نفسِه الذي هو في التصور نسقٌ ثابت جامد ضد التغيير، لا يحمل روح المغامرة والتجريب، نسق يتفق مع مبدأ بقاء الحال على ما هي عليه، وهو مبدأ ضد مفهوم السيرورة والصيرورة معًا، وإذا كان العربي المعاصر قد ترك ناقة أجداده واستقل الطائرة، فما الذي يمنعه أن يترك الشكلَ الشعري القديم ويستخدم الشكل الشعري المعاصر، خاصة وأنه يعلم أن تركه للناقة ليس لعيبٍ فيها، ولكن لأن الطائرة تناسب العصر الذي يعيشه.

يرى أنصار قصيدة النثر أيضًا أن الإصرار على وجود علاقة بين المقدس وبين الشعر وما يمثله من قيمة عند العرب، يمكن فهمهم واستيعابه على أنه قائم في اللغة والبيان، وليس في الشكل الشعري، وإنما أشار القرآن وقت نزولِه إلى الشعر لأنه كان الشكل الوحيد المسيطر وقتها على المشهد الإبداعي.

ومن ثم يظل التحدي القرآني قائمًا حتى يومنا هذا، وموجهًا للبيان بكل أشكاله وأنواعه، وليس لشكل واحدٍ فقط مثّلته القصيدة العربية القديمة.

أشرف البولاقي شاعر وكاتب مصري