تعتبر المدن أهم مؤشرات التنمية المستدامة الدالة على الازدهار والقدرة على النمو، وتحقيق التوازن في التنمية الحضرية القائمة على البيئة والعمران والتطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ولهذا فإن برامج التنمية تستهدف المدن باعتبارها أساسا حضاريا يمثِّل الهُوية والشمول الاجتماعي، لتصبح أكثر كفاءة وقدرة على إدارة إيراداتها وخدماتها وتمكين المؤسسات بما يضمن تعزيز تلك الكفاءة والقدرات.

ولأن المدن واجهة الدول فإنها تأخذ على عاتقها مسؤولية الظهور ضمن هذه الواجهة، لتمثِّل قوة تنموية قائمة على المشاركة المجتمعية والشراكات المحلية، والمرونة، والقدرة على القيادة والابتكار، فالمدن لكي تكون ضمن الواجهة الحضارية عليها اتخاذ تدابير ذات أبعاد تنموية قائمة على التخطيط والبناء وإمكانات التطوير والبناء الحيوي المستدام.

ولكي تصل الدول إلى جعل مدنها في صدارة الواجهة الحضارية فإنها تتخذ مجموعة من التدابير، من بينها (النظافة) التي تدل على النظافة العامة للأحياء والطرقات وغيرها، إضافة إلى نظافة الهواء أي (قلة التلوُّث) وتلك البرامج والسياسات التي تقدمها الدولة في سبيل التقليل من أخطار التلوُّث في المدن، ولهذا فإن ثقافة المدن الحضرية تقوم على النظافة بوصفها القوة الكامنة خلف التطوُّر والتنمية بل وتهيئة البيئة الجاذبة للازدهار المجتمعي؛ ذلك لأن البيئة النظيفة تنعكس على المستويات التنموية جميعها.

يشير تقرير (مؤشر الأداء البيئي 2024)، الصادر عن مركز السياسات والقوانين البيئية في جامعة ييل الأمريكية، إلى تلك التحديات التي يواجهها الكوكب؛ فالاقتصاد العالمي ما زال يعتمد على الوقود الأحفوري الذي يسهم بتلوث الهواء والمياه، وارتفاع تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، الأمر الذي يفاقم من تلك التحديات ويجعل الحياة أكثر خطورة خاصة في تلك المدن أو الدول الصناعية أو التي لا توفِّر إمكانات فعلية للتخفيف من ذلك التلُّوث والحفاظ على الحد الأدنى من ملوثات البيئة.

لذا فإن الأداء البيئي يرتبط بثروة الدولة وتنميتها الاقتصادية؛ ذلك لأن (الاستثمارات في التنمية البشرية، وسيادة القانون، والجودة التنظيمية، تعد تنبؤات أقوى بالأداء البيئي) – حسب التقرير –، فالثروات تسمح للدول بالاستثمار في البُنى التحتية التي ستوفِّر توسعة للطاقة المتجددة بطريقة آمنة وسريعة، إضافة إلى إمكانات توفير المياه النظيفة، والقدرة على إدارة النفايات بشكل آمن، بالرغم من أن الثروات أيضا لها انعكاسات قد تكون سلبية على البيئة إذا لم يتم اتخاذ تدابير الحماية اللازمة.

إن التحديات التي تواجه البيئة تنعكس على الحياة البشرية، والزراعية والحياة البحرية، وبالتالي التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية، ولهذا فإن تلوث البيئة يضر بالحياة عموما والقدرة على الصمود في وجه المتغيرات، ولهذا فإن الحفاظ على البيئة والتقليل من التلوث يُعد مهمة مجتمعية تقود المدن نحو تحقيق مؤشرات متقدمة في مستوى النظافة وقلة التلوُّث؛ ذلك لأن هذه المهمة تحتاج إلى التشاركية للوصول إلى أفضل النتائج، وبالتالي تعزيز القدرة على الصمود من ناحية، وتطوير آفاق الحماية البيئية من ناحية أخرى.

لقد اجتهدت الدول في العالم للمشاركة في الحفاظ على حيوية النظام الإيكولوجي وقدرتها على قياس جودة إدارة الموارد الطبيعية والتنوُّع البيولوجي والصحة البيئية، ولأن عُمان من الدول التي تكرِّس جهودا كبيرة في مجال الحفاظ على البيئة، إيمانا بأهميتها وانعكاسها على القطاعات التنموية عموما، والصحة الإنسانية بشكل خاص فإنها أحرزت خلال السنوات الأخيرة تقدما لافتا في مجال التقليل من خطر التلوث من خلال العديد من البرامج والمبادرات التي تبنتها الجهات سواء أكانت حكومية أو خاصة أو مدنية وأهلية.

إن هذه البرامج والخطط والمبادرات المؤسسية والمجتمعية دعمت تقدُّم عُمان في مؤشر الأداء البيئي العالمي للعام 2024؛ إذ قفزت 99 مركزا، لتكون من بين الخمسين دولة الأولى على مستوى العالم في الحفاظ على البيئة والتخفيف من التلوُّث، الأمر الذي يُظهر الرعاية الشاملة والاهتمام المتزايد بهذا القطاع الذي ينعكس أثره على القطاعات التنموية خاصة الاقتصادية، فالحفاظ على (حيوية النظام البيئي) يعد من بين أهم المقومات للتنمية الاقتصادية ونظم الاستدامة، وهو ركيزة احتلت عُمان فيها المرتبة الأولى في المؤشر على مستوى الشرق الأوسط.

لقد قفزت عُمان في هذا المؤشر نتيجة عوامل كثيرة، كلها قائمة على الوعي بأهمية الحفاظ على البيئة باعتبارها قوة قادرة على الدفع بعجلة التنمية وتحقيق الأهداف الوطنية، فالبيئة الصحية النظيفة تسهِّل مناحي الحياة وتجعلها أكثر قدرة على الصمود أمام المتغيرات، ولهذا فإن ما تقوم به الدولة من مبادرات في دعم التوجهات الوطنية للحد من التلوث والتقليل من خطره على الحياة يأتي نتيجة لذلك الوعي المتزايد بأهمية الحفاظ على البيئة نظيفة لنا وللأجيال ومن أجل تحقيق الازدهار الذي نصبو إليه.

إن الحفاظ على نظافة البيئة والتقليل من خطر التلوُّث يرسِّخ مفاهيم التنمية المستدامة في الدولة؛ ذلك لأن أسس الاستدامة قائمة على قوة المدن وقدرتها على الحفاظ على نظافتها سواء أكانت نظافة عامة أم نظافة بيئية، فكلها تقوم على التخطيط و الإدارة التنموية المستدامة والمتكاملة مع كافة القطاعات التنموية، وهذا ما يظهر لنا جليا في تقدُّم عمان إلى المرتبة 25 عالميا في مؤشر التلوث في العالم للعام 2024 الذي أصدرته قاعدة البيانات العالمية (نامبيو)، لتكون بذلك أقل الدول العربية تلوثا.

إضافة إلى ذلك فإن مدينة مسقط تتصدَّر مؤشر مستوى النظافة وقلة التلوث للعام 2024، الصادر عن (نامبيو)، لتكون في المرتبة الأولى خليجيا والثانية على مستوى آسيا، الأمر الذي يكشف ذلك الاهتمام المتزايد بالتخفيف من آثار التلوث والسعي المستمر للوصول إلى الحياد الصفري وفق الخطة الوطنية التي تتطلَّع إلى تحقيقه عام 2050. إن هذه الجهود وتلك المبادرات المستمرة كفيلة بالمضي قدما نحو الصدارة لبلوغ تلك الأهداف.

فالاهتمام بالنظافة البيئية يتطلَّب جهودا مؤسسية ومجتمعية عدة، كما يتطلَّب الوعي المشترك بأهمية البيئة وقدرتنا على الحفاظ عليها، ونحن إذ نستقبل الصيف والإجازات والرحلات والتنقلات بين الأماكن السياحية والخدمية، فإن علينا واجبا وطنيا يُحتم الحفاظ على الواحات الخضراء والابتعاد عن تلويثها والوعي بخطر البلاستيك على الحياة البرية والبحرية والزراعية، إضافة إلى أهمية الالتزام بالأماكن المخصصة للتخييم والطهي وغير ذلك.

إن هذا الوعي يعتمد على إمعاننا النظر في ما يمكن أن تقدمه البيئة الصحية لنا من إمكانات على مستوى القطاعات جميعا، إذ لا يمكن تحقيق تنمية في ظل بيئة ملوَّثة وغير قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للحياة الحيوية سواء أكانت للإنسان أو لغيره من المخلوقات التي تعيش معنا على هذه الأرض، فوعينا بقيمة البيئة هو وعي كوني بأهميتها في تحقيق الرفاه المجتمعي القائم قبل كل شيء على الصحة.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة