عند الحديث عن الإبادة في غزة، يُجادل البعض أن اهتمامنا بالقضية يحثه التنشئة القومية والإسلامية. وكيف لنا أن نتوقع من العالم أن يلتفت، ويتدخل في وقف الحرب بينما نحن بالمقابل لا نشتبك مع القضايا البعيدة الأخرى مثل الصراعات التي تجري في ميانمار اليوم، بل وحتى في السودان.

يعتمد هذا الخطاب على فكرة القرابة الجينية من جهة، والأدلجة من جهة أخرى، ساعيا إلى تتفيه قدرة البشر على النظر بإنصاف واهتمام إلى قضايا العالم، والتأكيد على السلوك الأناني باختيار قرابة الدم والجغرافيا -في كل مرة- على حساب العدالة والإنصاف. فيتبنى فكرة أننا ننتصر لأقربائنا (على مستوى الأفراد والشعوب)، والدور الأساسي للتنشئة والإعلام في تكوين مواقفنا، مُضخما الدور الذي تؤديه البروباغندا (رغم أنه ليس بالصغير)، ومحقرا من التباينات الشخصية في التوجهات. والتربية والإعلام اللذان لا يُشكك عاقل بدورهما الكبير إلا أنهما يُمكن أن يُستثمران لرفع المسؤولية الفردية عن الجناة.

يكمن خطر هذا الخطاب في أنه يكفر بقدرة شعوب العالم حتى في أحسن الأحوال على بناء مؤسسات دولية للرقابة والقضاء؛ لفض الصراعات على نحو سلمي. هذه المؤسسات وإن كانت عاجزة، وخاضعة للضغوطات السياسية، والمصالح المحلية، والفساد، وتأثيرات اللوبيات، إلا أنها من حيث الأساس فكرة لا بديل لها. فكما نُكرر دائما، الإيمان بفكرة طوباوية، والسعي نحو المثل براديكالية، خير من التسليم لواقع ظالم، ومحاولة الانخراط في اللعبة، عبر تقديم التنازلات.

لا أفهم لم يكون لنقاش كهذا أي مكان في وقت تستمر فيه شراسة القتل والتعذيب لأشهر طويلة. مع هذا سأحاول اليوم نقد هذا الخطاب من خلال لفت النظر إلى الآتي:

أولا، الطبيعة الاستعمارية الخاصة للحالة الفلسطينية. فعلى عكس الصراعات الأهلية وحروب الوكالة التي تجعل فض الصراعات عملية معقدة، المطلب الأساسي للغزيين هو وقف إطلاق النار، الانسحاب العسكري، وفض الحصار. أي أن يكفّ الطرف الأقوى أذاه، والأمر بهذه البساطة.

ثانيا، تُساعدنا دراسة المغالطات المنطقية على التعرف ومجابهة أوجه التفكير الأعوج. «الماذا-عنية» (whataboutism الكلمة المنحوتة من عبارة what about). هدف هذا النوع من الاستراتيجيات هو الزجّ بقضايا شبيهة (أو اتهام مُقابل للاتهام المُوجّه)، عوضا عن الاستجابة المباشرة للحجة المقدمة، بهدف أخذ الجدال إلى منطقة أخرى. عدم الاهتمام بقضايا أخرى (رغم إيماني بالمسؤولية الأخلاقية) لا ينال، ولا يُقلل من مشروعية القضية التي أمامنا.

ثالثا، القبول بالقدرات المحدودة للدماغ. لا عيب في أن يهتم المرء بما يهتم به، للأسف، نحن لا نملك الطاقة والقدرات لدراسة والانخراط في كل قضايا العالم، ومحاولة تغيير واقع الجميع. ونأمل فقط أن تكتسب كل القضايا العادلة الزخم الذي يؤدي أخيرا للتغيير. لا يُمكن لأحد أن يُشكك في أن تعاطفك مع جارك واهتمامك برفاهه وخيره، لا يُضاهي تعاطفك مع شريكك أو أبنائك، ولا حزنك عليه يُقارن بحزنك إذا ما خسرت حبيبك أو قريبك. فحتى إن صحّ -مثلا- أن يهتم الواحد منا بقضايا الخليج باعتباره خليجي، أو بقضايا النساء باعتبارها امرأة، فأيا يكن الباعث، فهو لا يعيب المهتم بهذه القضايا في شيء. على العكس، يرجع أن يكون لدى المرء عزيمة أقوى وإصرار في الجهاد لأجل فكرة تمسه/ا شخصيا، أو تمس من يهتم لأمرهم بشكل خاص. هذا ما يُبقي جمرة النشاطوية مشتعلة. ما أحاول قوله، أنه حتى وإن كان باعث المرء عروبيًا قوميًا، أو إسلاميًا، فهذا لا ينتقص من شرعية الموقف. ليس الأمر وكأننا نقف مع إخوتنا ضد أبناء عمومتنا على أي حال، ولكننا نقف معهم لأن قضيتهم عادلة.

رابعا، لا يُمكن رفع المسؤولية عن اللاعبين المباشرين في صراع ما. إذا كانت دولتك تُسلّح وتشارك في إبادة جماعية بشكل مباشر، فلديك المسؤولية الأخلاقية لتعترض، لأنك مُسهم أنت أيضا فيها، ويقع عليك العبء الأخلاقي لمحاولة إيقافها. فبينما لا أتوقع من الإسبان -مثلا- الكثير. يحمل الأمريكان، والألمان، والفرنسيون مسؤولية الاشتباك مع القضية، والضغط على حكوماتهم لأجل وقف الدعم السياسي والمادي.