(1)

لعل في الكتابة متعة، لا يعرفها إلا من مارسها، واعتاد عليها، وتمرّس فيها، فصارت كدمٍ يجري في شريانه، يتنفس بها، ويعيش لها، حتى أضحت عكازه في ظلمات الحياة، ومتاهاتها، ولم تغرهِ «وسائل التواصل» الحديثة، بكل مغرياتها، وملذاتها، وغواياتها، ولذلك يظل كثير من الصحفيين مخلصين للكتابة الورقية التقليدية، يكتبون بقلوبهم، ويزدادون عنادا كلما كانت الكتابة صلبة، وحقيقية، وواقعية، فذلك هو قدر الكاتب أينما كان، وحيثما كان.

(2)

أذكر في زمن ما، كانت الأعمدة في الصحف المحلية غير مرحب بها، ولذلك كان الصحفي يكتفي بنقل الأخبار المحلية الرسمية، دون أن يكون له فرصة التعليق عليها، ولم يكن لديه فضاء كتابي يختلف فيه عن غيره، ولا مكان يمارس فيه إبداعه، ويعرض فيه وجهة نظره، فلكل وقت ظروفه التي تحتم على الكاتب أن يتكيف معها، ويستسلم لها، وينسى ـ في خضم نقل الأخبار ـ ذاته المبدعة، وأناهُ المبتكرة.

(3)

كانت صفحة «رسائل القراء» في جريدة عمان في الثمانينيات، والتسعينيات هي النافذة الوحيدة التي يطل فيها القارئ على الآخرين، وكانت معظم تلك الرسائل عبارة عن مطالبات للجهات الحكومية بتنفيذ مشروع ما، أو رصف طريق معين، أو شكوى من مشكلة بسيطة، أو معقدة أحيانا، وكانت الجهات الحكومية ـ في تلك الفترة ـ أكثر تجاوبا، وتفاعلا، وكانت الردود الرسمية كثيرة، وفاعلة في امتصاص حماس أو شكوى المواطن، فكان صدى رسائل الناس أكثر انفتاحا، وتفاعلا منه الآن.

(4)

كنتُ في تلك الفترة مشرفا على صفحة «رسائل القراء»، ولأن الصحفيين هم في الأساس «قراء» بشكل أو بآخر، فقد تم اقتراح عمل عمود بعنوان «نوافذ» ضمن الصفحة، يكتب فيه كتاب جريدة عمان نتاجاتهم الأدبية، والفكرية، وينفسّون فيه عن إبداعاتهم، وعطاءاتهم الكتابية، فكتب في ذلك العمود المستحدث كتاب كثيرون منهم: حمود بن سالم السيابي «مدير التحرير» آنذاك، ومحمد اليحيائي، والمرحوم علي حاردان، ومحاد المعشني، وسعيد النعماني، وعوض باقوير، وسالم الناعبي، وعبدالله شامريد، وحيدر عبد الرضا، وأحمد بن سالم الفلاحي وغيرهم، إضافة إلى الزملاء العرب المشتغلين في الجريدة في ذلك الوقت، وكان لكل كاتب يوم محدد يكتب فيه مقاله، فكان الجميع حريصا على التواجد، والحضور.

(5)

وظل عمود «نوافذ» بعد تلك «الحقبة الذهبية»، متواجدا، ومتواصلا في جريدة عمان، وانتقل من صفحة «رسائل القراء» إلى الصفحة الأخيرة، ليحكي فصلا من أهم فصول الكتابة الصحفية في الصحافة المحلية، ويوثّق لمسيرة مهمة من نتاج المقالات.. وها هو يواصل تقديم رسالته بأقلام صحفية واعية، وناضجة.

(6)

هكذا هي الكتابة، شغف لا ينتهي، ومضامين لا تعترف بالحدود، يمارس فيها الكاتب هوايته الأثيرة في تكوين الرأي العام، وتشكيل التوجه المعرفي والكتابي الذي لا ينضب.

فتحية لكل كاتب يحاول أن يمارس متعة الإبداع، ويعيد كتابة ذاته، ويعمل لبناء وطنه العظيم، دون أن يفقد حلمه، وأمله في التغيير نحو الأفضل، والأجمل.