**media[2701773]**

يوم الاثنين 13 مايو، رحلت الكاتبة الكندية الشهيرة أليس مونرو، عن اثنين وتسعين عامًا، في بورت هوب، أونتاريو، شرق تورنتو. توفيت عن بناتها، شيلا، وجيني، وأندريا. شيلا مونرو مؤلفة كتاب المذكرات الصادر في 2001: «حياة الأمهات والبنات: أن تنشأ مع أليس مونرو».

شرعت مونرو في كتابة القصص القصيرة لأنها اعتقدت أنها لا تملك الوقت أو الموهبة اللازمين لإتقان فن الرواية، ثم كرّست في عِناد مسيرَتها الأدبية الطويلة للخروج بخُلاصاتٍ مُكثَّفة نَفسيًا في قصصها التي أصابت العالم الأدبي بالدوار والذهول، حتَّى تتويجها بجائزة نوبل للأدب في 2013.

أكَّدَ المتحدثُ الرسمي باسم ناشرها، وهي دار بنجوين راندوم هاوس كندا، نبأَ رحيلها في إحدى دور الرعاية، وكانت الحالة الصحية لمونرو آخذة في التدهور منذ عام 2009 على الأقل، حين صرَّحت بخضوعها لجراحة دقيقة في القلب ثم تلقيها علاجًا للسَرطان، ومع ذلك فقد واصلت الكتابة.

كانت واحدة من أبناء سُلالة نادرة من الكُتّاب، على غرار كاثرين آن بورتر وريموند كارفر، ممَّن بَنوا شُهرتهم في المضمار الأدبي المعروف بصعوبته للقصة القصيرة، وقد حققت هذا بنجاحٍ عظيم. ركَّزت كثيرٌ مِن حكاياتها على نساء في مراحل مختلفة من حياتهنّ يحاولن التعايش مع رغبات معقّدة، ولطالما جرى استقبال قصصها بلهفة وقُرِئت بامتنان بحيث جذبت إليها جيلًا جديدًا مِن القرّاء.

عُدَّت قِصص مونرو بلا نظير لها وذلك على نطاقٍ واسع، وهي مزيج من أشخاصٍ عاديين وثيمات غير عادية. كانت ترسم أبناء المدن والبلدات الصغيرة، وغالبًا ما تجري قصصها في المناطق الريفية جنوب غرب أونتاريو، عن أناس يواجهون مواقف تجعل المفارِق والغريب يبدو حدثًا من أحداث الحياة اليومية. ارتسم بعضٌ مِن شخصياتها بتفاصيل مكتملة وواضحة، كأنهم من لحم ودم، عابرين بصورهم أجيالًا وقاراتٍ إلى حد إحساس القراء نحوهم بألفة لا تتحقق عادة إلّا بالروايات المطوَّلة.

صرَّحت ذات مرة أنَّها وقعت في كتابة القصص القصيرة، الشكل الذي صنع شُهرتها، بالمصادفة على نحوٍ ما. قالت للنيو يوركر سنة 2012: «لسنواتٍ وسنوات، اعتقدت أنَّ القصص مجرد تمارين، حتَّى أجد الوقت اللازم لأكتب رواية، ثم اكتشفت أنها كل ما أستطيع عمله، فواجهت الأمر. أفترضُ أنَّ محاولتي وضع الكثير للغاية في القصص كان نوعًا مِن التعويض».

حققت مونرو هذه الكثافةَ والتماسُك عبرَ صَنعة مُتقنة ودرجة من الدقّة لا تهدر الكلمات بلا طائل. أعلنَ كتَّابٌ آخرون بأنَّ قصصها تقارب الكَمال – وهو عبء ثقيل على كاتبة ذات طبيعة تميل للتواضع، كاتبة كافحت مِن قبل لكي تتجاوز ضعف ثقتها بنفسها في مستهل مسيرتها الأدبية، عندما غادرت الطوق الحامي المتمثل في سَكينة بلدتها الأصلية وغامرت بالخروج إلى المشهد الأدبي التنافُسيّ.

غير أنَّ شعورها بانعدام الأمان هذا، ومهما كان قويًا في داخله، لم يلحظه بالمرة رفاقها من الكتّاب، ممَّن احتفوا بحِرفيتها ولم يبخلوا على أعمالها بأسمى آيات المديح. الروائية الأيرلندية إدنا أو براين، وضعت مونرو جنبًا إلى جنب مع وليام فوكنر وجيمس جويس، من بين الكتّاب الذين تأثّرت بهم في عملها. أمَّا الكاتبة جويس كارول أوتس فقالت: إنَّ قصص مونرو «لها من الكثافة – الأخلاقية، والعاطفية، وأحيانًا التاريخية – ما لدى روايات كتّاب آخرين». وذات مرة أعلن الروائي ريتشارد فورد أنَّ التشكيك في مهارة مونرو وإتقانها التام لفن القصة القصيرة سيكون مشابهًا للتشكيك في صلابة ماسة أو العبير الزكيّ لدراقة ناضجة.

*

عندَ فوزها بجائزة نوبل في 2013، حين كانت في الثانية والثمانين من عمرها، أشارت الأكاديمية السويدية إلى مجموعاتها القصصية، وَدَعَتها «بسيدة القصة القصيرة المعاصرة»، [كلمة master تتضمن معاني الإتقان والسيطرة الحرفية فكأنها مُعلّمة أو أُسطى]، وامتدحت قدرتها على أن تستوعبَ في بضع صفحاتٍ قِصار التعقُّد والثراء الملحمي التام لروايةٍ كاملة». بعد مرور بعض الوقت، أدركت مونرو أخيرًا أنها تُوّجَت بنوبل، بينما كانت تزور ابنتها المقيمة في كولومبيا البريطانية، حيث أيقظتها الابنة في الرابعة صباحًا لتنقل إليها النبأ. حينَ تحدثت إلى هيئة الإذاعة الكندية هاتفيًا بعد ذلك بدقائق، عكسَ صوتها شيئًا من الذهول، وفي بعض اللحظات العاطفة الجيَّاشة. قالت: «يبدو مستحيلًا ببساطة، يبدو أنَّ شيئًا رائعًا قد حدث، لا يسعني وصفه. إنه أكبر مِن أن يُسعفني القول». ثم أضافت في ما بعد: «أتمنى حقًا أن يدفع هذا الناس إلى النظر إلى القصة القصيرة كفنٍ له أهميته، وليس مجرد شيء يتسلَّى به الكاتب حتَّى يكتب الرواية».

حينما استيقظ قرّاؤها ومعجبوها على خبر فوزها عمَّهم السرور، لا سيما في كندا. وقد استُقبِلَ اختيار مونرو باحتفاءٍ وحماسة عارمة في العالَم المُتحدّث بالإنجليزية، لأنه بدا هُدنة مؤقَّتة من اختيارات الأكاديمية السويدية خلال السنوات القليلة السابقة على ذلك، فإمَّا أنَّ الاختيارات كانت مغمورة أو عسيرة الفَهم أو سياسية بدرجة فاضحة.

كما اشتهرت مونرو بغزارة نثرها المُشذَّب المحكم، فقد عُرفَت أيضًا بحياة شخصية بسيطة متواضعة، لذلك فقد أعرضت عن السفر إلى السويد لاستلام جائزتها، قائلة: إنها أوهن وأكثر هشاشة من أن تسافر. وبدلًا من المحاضرة الرسمية التي يقدمها الفائزون تقليديًا، سجَّلت مقابلة طويلة في فيكتوريا، كولومبيا البريطانية، حيث كانت عند إعلان الجائزة. عند سؤالها هل كانت عملية كتابة قصصها تستهلك قواها تمامًا؟ أجابت بأنَّ هذا صحيح، ثم أضافت: «لكن كما تعلم، كنت حريصة دائمًا على تحضير الغَداء لأطفالي».

*

لم تكن جائزة نوبل إلَّا ذروة سلسلة طويلة من النجاحات والتكريمات والجوائز التي تلقتها مونرو. بدأت نجاحاتها المُبكّرة في كندا حين نالت مجموعتها القصصية الأولى «رقصة الظلال السعيدة-1968»، الجائزة الأدبية العامة للحاكِم، وهي المُعادِل الكَندي لجائزة بوليتزر في القصة والرواية، وقد امتدَّ نجاحها هذا إلى الولايات المتحدة بعد أن بدأت نشر قصصها في النيو يوركر سنة 1977. وأضحت عضوًا مهمًا في جيل من الكتّاب الكنديين امتدَّ صيتهم ونجاحهم لما وراء حدود بلادهم، مثل مارجريت أتوود ومايكل أونداتجي.

توالت جوائز مونرو، ففازت بجائزة الحاكم نفسها مرتين بعد ذلك، جنبًا إلى جنب جائزة جيللر مرتين، وهي جائزة كندية محلية أخرى ذات شأن، والعديد من الجوائز والتكريمات الأخرى. سنة 2009 سحبت مجموعتها «سعادة مُفرِطة» من تصفيات دورة أخرى لجائزة جيللر، ذلك لأنها آمنت بضرورة أن تتاح الفرصة أمام كُتّاب أصغر سنًا. لكنها في السنة ذاتها حصدت جائزة المان بوكر العالمية، عن مجمل أعمالها، وقد علَّقت لجنة الجائزة بأنَّه على الرغم من أنّها عُرفت بكونها كاتبة قصة قصيرة بالأساس» فإنها تضع في كل قصة من العُمق، والحكمة، والدِقّة، ما يقاربُ منجز أغلب الروائيين على مدار حياتهم». وأضافت اللجنة: «إنَّ قراءة أليس مونرو تعني تعلَّم شيء جديد في كل مرة، شيء لم يخطر ببالك مِن قبل قَط».

الامتداد النسبي لقصصها القصيرة منح مونرو الفرصة والمساحة لاستكشاف الجوانب السيكولوجية لشخصياتها على نحوٍ أتم، ما أنتج أعمالًا محبوكة النسيج وعالية التوتر، ذات صدى مستديم في النَفس، واتساع مذهل يتألّف مِن الدَفْعة العاطفية لرواية وقوة التَسديد الدقيق لقصيدةٍ مُحكمة.

*

وُلِدَت أليس آن ليدلو في العاشر مِن يوليو سنة 1931، في قرية وينجهام، أونتاريو، قابَ قوسين مِن ضفة بحيرة هَرون. هي الابنة الأولى مِن ثلاثة لكلٍ مِن الأب روبرت إيريك ليدلو والأم آن كلارك (أو تشيمني) ليدلو. جرَّب أبوها حظَّه في بعض المشاريع الغريبة نوعًا ما من قبيل تربية الثعالب الفضية وثعالب المِنك، لكن عندما فشلت مشاريعه خاضَ غمارَ عدد من الوظائف والمِهن، بعضها بسيط ويدوي من قبيل حارس في مسبكة معادن أو عامل في مزرعة ديوك رومية.

عندما أصيبت الأم بمرض باركنسون [شَلل ارتعاشي]، وقعَ عبءُ رعايتها على الابنة الكبرى أليس، ولم تكن قد ناهزت المراهقة بعد، وهي تجربة استطاعت أن تجد لها موضعًا داخل نسيج بعض قصصها. أصبحَ بمقدورها أن تحضر صفوفًا جامعية بعد فوزها بمنحة دراسية لمدة عامين، في جامعة وسترن أونتاريو، والتي تبعد مسافة 65 ميلًا جنوبَ بلدتها وينجهام.

تخصصت في اللغة الإنجليزية ولكنها طوت صدرها على طموحها الشخصي في كتابة القصة والرواية. تركت الجامعة قبل نيل شهادتها وتزوجت من طالب زميل، هو جيمس مونرو. باعت أولى قصصها القصيرة، إلى راديو هيئة الإذاعة الكندية.

استقر الزوجان مونرو في فانكوفر ورزقا بطفلتين؛ وقد توفي لهما طفل ثالث. قالت مونرو إنَّ أعباء الحياة المنزلية في تلك السنوات – الموازنة بين الأمومة وبين حُلمها بالكتابة، «إعداد عصير التفاح، الرد على الهاتف، إدخال القطة» – لم تترك لها وقتًا أو طاقة لمشروعات طَموحة مثل كتابة الروايات. بدلًا من ذلك، كرست نفسها لإتقان فن القصة القصيرة، وهو شكل أدبي شَعرَت أنَّ بوسعها إنجازه ما بين تربية العيال ورعاية منزلها.

سنة 1963، انتقلت مونرو وزوجها إلى فكتوريا، حيث ساعدته في تأسيس متجرَ بيع كتب، مكتبة مونرو، وأنجبت ابنة أخرى. انتهى الزواج في 1973، وانتقلت هي إلى أونتاريو.

في ذلك الحين، كان صيتُها الأدبي راسخًا في كندا. بحلول 1968 ظهر كتابها الأول، «رقصة الظلال السعيدة»، وهو قصص تجمَّعت وتراكمت على مدار سنوات طويلة، مقدّمة للقراء ما سيُعرَف تاليًا على نطاقٍ واسع باسم «ريف أليس مونرو» – وهو المنظر الطبيعي المنغلقُ على نفسه في صرامة وعِناد للطرقات الريفية المنعزلة والمنازل البليدة من الطوب الأصفر، تلك التي تأوي بداخلها حيواتٍ حَيية حيث تتكشَّف أسرارٌ مَهيبة.

كتبت مونرو في مقالٍ لها سنة 1982: «يعرف الجميع ما يعنيه المنزل، وكيف أنه يطوّق مساحةً ما ويعزلها وينشئ الروابط بين المساحات المطوّقة والمعزولة بداخله، ويقدّم ما هو بالخارج في صورة جديدة. ذلك هو أقرب تشبيه أستطيع الوصول إليه لما تعنيه القصة القصيرة عندي».

قصصها مُبطَّنة بعددٍ لا حصر له مِن ملاحظاتٍ صغيرة حادة، هي ما ينعش ريف مونرو. على سبيل المثال، في قصتها «أسرار مكشوفة (1994)»، تتبادل الشخصية الرئيسية، وهي في حالة سُكْر بيَّن المغازلات مع صديق لحبيبها، فتتلقَّى مِنه إساءة بالغة. في اليوم التالي، تدعوه إلى الرواق الأمامي لمنزلها وتواجهه بما فعل بينما تستخدم الألياف السِلكية [سِلك المواعين] لتنظيف البيض الذي وضعته الدجاجات حديثًا.

مِثل تلك التفاصيل تستحضر إحساسًا بمناطق شِبه ريفية في كندا، مناطق معزولة ويصعب الوصول إليها، أراضي هادئة لا يتعمَّد أهلها جذب الانتباه إليهم بالمرة، لكنَّ الحياة العادية الرتيبة فيها يمكن أن تتبدد وتضطرب بفعل الحوادث، وحالات الرحيل أو الوصول غير المتوقَّعة.

لطالما جرى وصفُ مونرو كاتبةً كندية، وبالرغم مِن ذلك فإنَّ قصصها لا تستدعي كندا في حد ذاتها بل ذلك المزيج المُر والحُلو للانتصارات والنوائب والمهانات، التي قد تتجمَّع في حياة المدن والبلدات الصغيرة. وعلى أي حال، لعبَ كل منظر طبيعي دورَ خلفية مسرحية مناسبة لثيماتها المركزية، التي تدور حول مفاجآت الحياة وخيانات تعانيها النساء أو تقترفها – مشاهد تفوح منها رائحة السيرة الذاتية.

قصةً مذهلة بعد أخرى، استطاعت أليس مونرو، بحسب جورجي كاولز، كبير محرري نيو يورك تايمز بوك ريفيو، أن تثبت لنا أنَّ الحقائق المتواضعة لتجربة شخصٍ واحد فقط، بعد تحويلها عبرَ كيمياء اللغة والخيال والبصيرة السيكولوجية، يمكنها أن تزودنا بالمواد الخام للأدب العظيم. ولكن ليس أي شخص والسلام، بل فتاة من المناطق الريفية البسيطة النائية، هذا كان انشغال مونرو، التي جرت أغلب قصصها في تلك المناطق وفي البلدات الصغيرة في محيط بحيرة هَرون، حيث نرى طموحات فتاةٍ ذكية تتوق للرحيل بعيدًا، وليس لديها ما تخسره.

في قصتها «صبيان وبنات»، تحكي الراوية لنفسها حكايات قبل النوم، عن عالَمٍ «يوفر فرصًا لاكتساب الشجاعة والجرأة والتضحية بالنفس، أي ما لم يقدّمه لي عالمي قَط». وهناك أيضًا روز، من قصة «المُتسولة» التي تفوز بمنحة دراسية وترحل تاركة خلفها عائلتها المنتمية للطبقة العاملة. وهناك شخصية ديل جوردون، من كتاب «حياة الفتيات والنساء» - وهو أقرب نَص كتبته إلى فن الرواية من حيث الطول والشكل - التي تُوجّه نظرةً تقطر سخطًا ومرارة نحو العادات والتقاليد المحلية لبلدتها الصغيرة بينما تتخذ أولى خطواتها المصيرية صوب تحوُّلها لكاتبة.

في قصتها «العذراء الألبانية»، جنبًا إلى جانب المنظر الطبيعي الكندي المألوف نرى مكانًا غرائبيًا نادرًا، البطلة تدير متجرًا لبيع الكتب في فيكتوريا تهيم في أحلام يقظتها، متأمّلة الاتجاهات الضالة والانحرافات المفاجئة التي اتخذتها رحلة حياتها: «لكني لم أجفل ولم أحزن. لقد غيّرت حياتي، باستماتة ويأس، وبالرغم من الندم الذي يخامرني في كل يوم، فإنني فخورة بذلك. شعرتُ بأنني أخيرًا خرجتُ إلى العالَم في إهابٍ جديد وحقيقي».

*

لطالما تجنَّبت مونرو الظهور على الملأ والمناسبات المرتبطة عادة بنجاحاتها الأدبية واقتصرت على الحد الأدنى من رحلات الترويج وحفلات التوقيع والقراءة. وغالبًا ما تُشير إلى نفسها بشيء من الاستخفاف؛ قائلة إنها «لم تخرج من الخزانة» بوصفها كاتبة محترفة حتَّى بلغت الأربعين، وتسمّي نفسها «مثابرة»، لأنها تعمل ببطء وتروٍ، وعادة تجلس للكتابة بثياب النوم لساعاتٍ عدة في الصباح ومن ثم تراجع وتحرر كل قصة مطوَّلًا، قبل أن ترسلها للنشر.

لكنَّ الأمر مختلف بالنسبة إلى النقاد، فلا شيء في قصصها يوحي بتلك المثابرة والجهد المبذول، فهي تجتمعُ معًا كأنها وِحدة عضوية بلا أثرٍ لغُرَز الصَنعة، بالرغم من الكثير مِن لحظات الاسترجاع أو الاستباق، والنقلات الحادة في الزمن والمكان التي توظفها كثيرًا، فكلها تحدث من غير أن تُلحَظ. كثيرًا ما تبدأ قصصها عند نقطة قد يختار كتّاب آخرون إنهاء قصصهم عندها، وتستكملها بقدر لا بأس به بعد الوصول للذروة أو الخاتمة التي قد تُرضي آخرون أقلّ انقيادًا وراء تصاريف القدر ومُنعطفاته. لا شك أنَّ هذا قد يترك القراء يخمنون مَن بالضبط الذي يروي القصة، وما طبيعة الصِلة بين إحدى الشخصيات وأخرى.

ومع ذلك، فعند النهاية، تتضح كل قَطعة صغيرة في مكانها الملائم تمامًا. أو كما ذكرت الروائية آن تايلر ذات مرة عن عمل مونرو: «مثل لُعبة بازل لطفل، في أنجح القصص لها تكون النتيجة النهائية صورة متوافقة ومُرضية كما لو أنَّ كل شيء قد وجد موضعه الصحيح بدقة لا مزيد عليها».

بعد الاضطرابات والانتقالات المكانية التي مرَّت بها مونرو في حياتها قبل بلوغها الأربعين، بدا أنَّ كل شيء، في حياتها الشخصية ومسيرتها المهنية، قد وجد موضعه الصحيح بدقة لا مزيد عليها، بعد أن رجعت إلى جنوب أونتاريو. فقد بدأت تواعد جيرالد فرِملين، وهو جغرافيّ، وما لبثا أن تزوجا بعد قصة حب قصيرة وانتقلا إلى منزل في كلينتون، أونتاريو، حيث نشأ.

كان في مقدور مونرو أن تعيش حياة تتسم بقدر عالٍ مِن الاستقرار والرتابة، وامتلأت أيامها، شأنها شأن شخصياتها، بنظام ثابت للأمور العادية المكرورة، يقطعه من وقتٍ إلى آخر اللغز المتفجّر للمصادفات والحوادث العارضة.

باستثناء عِقدٍ واحد عاشته على الشاطئ الغربي لكندا أثناء زيجتها الأولى، فقد عاشت بقدر كبير من الرِضا والاستغناء في داخل محيط أونتاريو التي احتفت بها في قصصها، قصصٍ تَجمَّعت فقراتها بهدوء في منزل نشأة زوجها الثاني، وغير بعيدٍ للغاية من موضع مَولدها هي نفسها فيه.

لعلَّ السؤال الذي طاردها أكثر مِن سواه، خلال مسيرتها المِهنية الطويلة، هو لماذا اقتصرت، برغم مواهبها الغزيرة ونظرتها الثاقبة، على ما يُنظَر إليه عمومًا باعتباره العالَم المحدود للقصة القصيرة بدلًا من أن تنطلق نحو الكون البرّاق للرواية؟

في حوارها مع ميرفِن روثستاين، المنشور في التايمز سنة 1986، أجابت عن هذا السؤال معترفة: «أنا فِعلًا لا أفهم الرواية، لا أفهم مِن أين مفترض أن تنبع الإثارة والحماسة في روايةٍ ما، أمَّا في قصةٍ فإني أفهم. هناك نوع من التوتر إن أحسنت الإمساك بالقصة يمكنني الشعور به فورًا».

في بعض الأحيان آلت على نفسها ألَّا تكتب رواية أبدًا – تكاد تصرف هذا التحدي بعيدًا لكونه أضخم من أن تجربه حتَّى، لكنها في أحيان أخرى بدت وكأنها تتساءل بشيءٍ مِن أسى، تمامًا كما قد تفعل إحدى شخصياتها، إلى أي حد قد تختلف حياتها لو أنها قد كتبت رواية من روايات النجاح الكاسح.

في مقابلة معها سنة 1998، مباشرة بعد نشر مجموعتها التي لقيت استحسانًا واسع النطاق «حب امرأة طيبة»، قالت: «أفكّر في شيء ما الآن، شيء قد يكون رواية، لكني أراهنك أنه لن يكون كذلك». اعترفت أنه خامرها في بعض اللحظات حافزٌ نحو مط قصصها لتكون روايات، لكنها قالت إنَّ القصص كانت «تبدأ في الارتخاء» بمجرد أن تفعل، كما لو أنها خُطفَت وراء حدودها الطبيعية. ومع ذلك فإنَّ هذه الغواية لم تتبخَّر تمامًا قط. قالت أيضًا، في حوار 1998 نفسه: «طموحي هو أن أكتب رواية واحدة قبل أن أموت». لم تفعل ذلك قط.

* الجزء الأكبر من هذا الموضوع مُترَجم عن نعي النيو يورك تايمز للكاتبة، حرره أنتوني دي بالما بمشاركة ليزا. دي. أنوا، وصوفيا بوزنانسكي.