صادف الخميس الماضي، 20 يونيو، موعد الأمم المتحدة السنوي للاحتفال باليوم العالمي للاجئين، وكعادتها في التعامل مع الكثير من القضايا السياسية الملحة تكتفي الأمم المتحدة بأن تتحول إلى مؤسسة ثقافية تناشد العالم في هذا اليوم بأن يكون أكثر ترحيباً باللاجئين من أجل إدماجهم اجتماعياً واقتصادياً في البلدان المضيفة.
لقد شهد عالمنا المعاصر، ما بعد الحرب العالمية الثانية، حالات لجوء عديدة تسببت بها الحروب والنزاعات باختلاف طبيعتها، سواء كانت غزواً أجنبياً أم صراعاً داخلياً. الأرقام والمخططات البيانية في «تقرير الاتجاهات العامة» تتحدث عن نفسها كاشفةً عن خلل خطير في الاستقرار والأمن العالميين، حيث يشير التقرير الصادر هذا الشهر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن أعداد النازحين قسراً نتيجة الاضطهاد والصراعات والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان والأحداث المخلة بالنظام العام قد اقتربت من 120 مليون إنسان بحلول عام 2024، أي أن واحدا من بين كل 69 شخصاً حول العالم يعيش نزوحاً قسرياً خارج مكانه، وهو ما يعادل 1.5% من سكَّان المعمورة، كما يوضح التقرير، كما تحصي المفوضية في تقريرها 31.6 مليون لاجئ مسجل لديها، من بينهم 6 ملايين لاجئ فلسطيني تحت ولاية الأونروا، يقابلهم عدد قريب من اللاجئين الأوكرانيين.
لطالما تعاملت الولايات المتحدة ودول المنظومة الأوروبية مع مشكلة اللاجئين بوصفها ظاهرةً «عالم ثالثية» في الأساس، على اعتبار أن بلدان إفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط ساحات صراع دائم لا تتوقف عن تصدير اللاجئين، ولعل هذه النظرة هي ما تفسر صدمة العالم الغربي بمشهد اللاجئين الأوكرانيين بعد الحرب في ٢٤ فبراير عام ٢٠٢٢، فكيف لهؤلاء البيض الشُّقر ذوي العيون الزرق «المتحضرين» أن يصبحوا لاجئين بهذه البساطة؟ كانت صدمة كاشفة لما تستَّر خلفها من انحيازات عنصرية عبَّر عنها مراسل شبكة «سي بي أس» الأمريكية، تشارلي داغاتا، في تعليقه الشهير خلال الأسبوع الأول من الحرب حين قال: «لا تتوقع أن ترى في أوكرانيا نوع الصراع العسكري الذي ابتُلي به الشرق الأوسط مع كل الاحترام الواجب، هذا ليس مكاناً كالعراق أو أفغانستان حيث يدور صراع محتدم منذ عقود... كما تعلمون هذه مدينة حضارية نسبياً وأوروبية نسبياً».
إذن فـ«النسبية الحضارية» التي تحدث عنها المراسل الصحفي لا تشمل -لسوء الحظ- كلاً من اللاجئين الأفغان والعراقيين الذي عرَّض بذكر بلدانهم كأمثلة سريعة خطرت له في تلك اللحظة كما لو أنها بدَهية مسلَّم بها، وبالتأكيد فإن النسبية الحضارية بالنسبة له لا تشمل اللاجئين السوريين أو السودانيين وغيرهم، تماماً كما لم تشمل الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً.
وهنا، حين نتحدث عن النكبة الفلسطينية المستمرة بالتزامن مع الحرب المتواصلة منذ أكثر من عامين في أوكرانيا، سنجد أن حكاية اللاجئ الفلسطيني الطويلة تتقاطع في مفترق سياسي صعب، قلما يحدث في التاريخ، مع حكاية نظيره الأوكراني؛ ليس فحسب لأن حامل الجنسية الأوكرانية سيحظى، بصفته «متحضراً»، باعتراف دولي يضمن له كامل حقوق اللاجئ السياسية، الأمر الذي حُرم منه الفلسطيني المحروم أصلاً من هويته، ولكن لأن إسرائيل المتسببة في أكبر وأطول ملحمة لجوء في التاريخ الحديث ستعلن في أول يومٍ من الحرب الروسية الأوكرانية أنها مستعدة لاستقبال آلاف اللاجئين اليهود من أوكرانيا. أجل، اليهود فقط، كانت وزيرة الهجرة والاستيعاب (بنينا تيمانو) واضحةً بهذا الشأن، وهكذا يدخل المشهد برمته في عنصرية مضاعفة، وليست المقارنة هنا مأساةً بمأساة أو لنضاهي ضحية على حساب أخرى، بل لنتأمل قليلاً عبثية هذه اللحظة التاريخية التي تسفر فيها صراعات القوى العظمى عن ضحايا جدد يدوسون بدورهم على أقدام ضحايا سابقين في بلاد بعيدة بحثاً عن النجاة.
المسعى الإسرائيلي لتحويل اللاجئين الأوكرانيين اليهود إلى مستوطنين جدد يذكرني بملاحظة مهمة وضعها الراحل إيليا زريق، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة كوينز في كندا، حول التعريف القانوني للاجئ، فمن الضروري الانتباه إلى أن التعريف السائد لوضع اللاجئ كان قد تشكل في ظروف الحرب الباردة وبقي متأثراً بها، كما يكتب في مقالته البحثية المنشورة عام 1994، في العدد 19 من مجلة الدراسات الفلسطينية: «إن المنحى الذي اتبعه قانون اللاجئين في إثر الحرب العالمية الثانية لم يتجه نحو التعويض بقدر ما اتجه نحو توفير مسكن جديد للإنسان الذي انتُزع من مسكنه، أي نحو إعادة الاستيطان، ونحو الاعتراف بالحاجة إلى حماية مثل أولئك الأشخاص من الاضطهاد، إما في بلد لجوئهم وإما في بلدهم الأصلي في حال أُرغموا على العودة إليه. هذه إذن الأُطُر العامة التي ما زالت تحدد النقاش الدائر حول اللاجئين والمهاجرين في أوروبا الغربية، وقبل ذلك في الحملة الهادفة إلى إرغام الاتحاد السوفييتي السابق على السماح للمواطنين اليهود بالهجرة إلى إسرائيل».
في المقابل يمثل الشتات الفلسطيني الجغرافيا الأكبر من بين الجغرافيات التي تشكل الهوية الفلسطينية، في القدس والضفة والقطاع والداخل المحتل، دون أن ننسى المجتمع الفلسطيني في السجون الإسرائيلية التي أطلق عليها عبدالرحيم الشيخ «الجغرافيا السادسة». وفي المشرق العربي، حيث المخيمات الرسمية للأونروا، في لبنان والأردن وسوريا، يعيش اللاجئون الفلسطينيون أوضاعاً مختلفة باختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية للدولة المضيفة ووفقاً للتغيرات التي تطرأ على علاقتها بمنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية الأخرى، معرَّضين بصورة مستمرة لردات الفعل الناجمة عن تقلبات المزاج المحلي.
كثيراً ما نظرت المجتمعات المستضيفة للاجئين كعبء اقتصادي وكتهديد أمني، والفلسطينيون في مخيماتهم لم يكونوا مستبعدين من هذه النظرة. كتاب «اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان» بتحرير آري كنودسن وساري حنفي، الصادرة ترجمته عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضروري في هذا الصدد، إذ يدرس فيه أكثرُ من باحث، ومن زوايا شتى، مأساة المخيم بعمق وآثار التمزق الديموغرافي والجغرافي للهوية الفلسطينية وشروط العيش والعمل والحقوق المدنية في مخيمات اليرموك ونهر البارد وشاتيلا، كما يفحص النظرة الأمنية التي حاصرت المخيم الفلسطيني باعتباره مصدر تهديد دائم قابل للانفجار أو «مختبراً لشتى أنواع الإسلام السياسي».
على مدى العقود السبعة الماضية، وفي أحسن الأحوال، جرى التعامل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لما يدعوه جابر سليمان في الكتاب بالمقاربة الإنسانية؛ والتي لا ترى في حالة اللاجئ سوى الوجه الإنساني البائس الذي يستحق العطف والإغاثة وتحسين شروط الحياة، في مقابل تهميش المقاربة السياسية - الحقوقية التي تنصُّ على أن القضية الفلسطينية بكاملها، بما فيها قضية اللاجئين، هي قضية حقوق سياسية وقانونية لا يمكن تسديدها إلا بـ«حق العودة» العبارة العريقة التي تنأى وتقترب من المجاز بين جيل وآخر، لكنها لم تزل تمثل أقوى اختزال أدبي للحق الفلسطيني حتى اليوم.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
لقد شهد عالمنا المعاصر، ما بعد الحرب العالمية الثانية، حالات لجوء عديدة تسببت بها الحروب والنزاعات باختلاف طبيعتها، سواء كانت غزواً أجنبياً أم صراعاً داخلياً. الأرقام والمخططات البيانية في «تقرير الاتجاهات العامة» تتحدث عن نفسها كاشفةً عن خلل خطير في الاستقرار والأمن العالميين، حيث يشير التقرير الصادر هذا الشهر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن أعداد النازحين قسراً نتيجة الاضطهاد والصراعات والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان والأحداث المخلة بالنظام العام قد اقتربت من 120 مليون إنسان بحلول عام 2024، أي أن واحدا من بين كل 69 شخصاً حول العالم يعيش نزوحاً قسرياً خارج مكانه، وهو ما يعادل 1.5% من سكَّان المعمورة، كما يوضح التقرير، كما تحصي المفوضية في تقريرها 31.6 مليون لاجئ مسجل لديها، من بينهم 6 ملايين لاجئ فلسطيني تحت ولاية الأونروا، يقابلهم عدد قريب من اللاجئين الأوكرانيين.
لطالما تعاملت الولايات المتحدة ودول المنظومة الأوروبية مع مشكلة اللاجئين بوصفها ظاهرةً «عالم ثالثية» في الأساس، على اعتبار أن بلدان إفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط ساحات صراع دائم لا تتوقف عن تصدير اللاجئين، ولعل هذه النظرة هي ما تفسر صدمة العالم الغربي بمشهد اللاجئين الأوكرانيين بعد الحرب في ٢٤ فبراير عام ٢٠٢٢، فكيف لهؤلاء البيض الشُّقر ذوي العيون الزرق «المتحضرين» أن يصبحوا لاجئين بهذه البساطة؟ كانت صدمة كاشفة لما تستَّر خلفها من انحيازات عنصرية عبَّر عنها مراسل شبكة «سي بي أس» الأمريكية، تشارلي داغاتا، في تعليقه الشهير خلال الأسبوع الأول من الحرب حين قال: «لا تتوقع أن ترى في أوكرانيا نوع الصراع العسكري الذي ابتُلي به الشرق الأوسط مع كل الاحترام الواجب، هذا ليس مكاناً كالعراق أو أفغانستان حيث يدور صراع محتدم منذ عقود... كما تعلمون هذه مدينة حضارية نسبياً وأوروبية نسبياً».
إذن فـ«النسبية الحضارية» التي تحدث عنها المراسل الصحفي لا تشمل -لسوء الحظ- كلاً من اللاجئين الأفغان والعراقيين الذي عرَّض بذكر بلدانهم كأمثلة سريعة خطرت له في تلك اللحظة كما لو أنها بدَهية مسلَّم بها، وبالتأكيد فإن النسبية الحضارية بالنسبة له لا تشمل اللاجئين السوريين أو السودانيين وغيرهم، تماماً كما لم تشمل الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً.
وهنا، حين نتحدث عن النكبة الفلسطينية المستمرة بالتزامن مع الحرب المتواصلة منذ أكثر من عامين في أوكرانيا، سنجد أن حكاية اللاجئ الفلسطيني الطويلة تتقاطع في مفترق سياسي صعب، قلما يحدث في التاريخ، مع حكاية نظيره الأوكراني؛ ليس فحسب لأن حامل الجنسية الأوكرانية سيحظى، بصفته «متحضراً»، باعتراف دولي يضمن له كامل حقوق اللاجئ السياسية، الأمر الذي حُرم منه الفلسطيني المحروم أصلاً من هويته، ولكن لأن إسرائيل المتسببة في أكبر وأطول ملحمة لجوء في التاريخ الحديث ستعلن في أول يومٍ من الحرب الروسية الأوكرانية أنها مستعدة لاستقبال آلاف اللاجئين اليهود من أوكرانيا. أجل، اليهود فقط، كانت وزيرة الهجرة والاستيعاب (بنينا تيمانو) واضحةً بهذا الشأن، وهكذا يدخل المشهد برمته في عنصرية مضاعفة، وليست المقارنة هنا مأساةً بمأساة أو لنضاهي ضحية على حساب أخرى، بل لنتأمل قليلاً عبثية هذه اللحظة التاريخية التي تسفر فيها صراعات القوى العظمى عن ضحايا جدد يدوسون بدورهم على أقدام ضحايا سابقين في بلاد بعيدة بحثاً عن النجاة.
المسعى الإسرائيلي لتحويل اللاجئين الأوكرانيين اليهود إلى مستوطنين جدد يذكرني بملاحظة مهمة وضعها الراحل إيليا زريق، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة كوينز في كندا، حول التعريف القانوني للاجئ، فمن الضروري الانتباه إلى أن التعريف السائد لوضع اللاجئ كان قد تشكل في ظروف الحرب الباردة وبقي متأثراً بها، كما يكتب في مقالته البحثية المنشورة عام 1994، في العدد 19 من مجلة الدراسات الفلسطينية: «إن المنحى الذي اتبعه قانون اللاجئين في إثر الحرب العالمية الثانية لم يتجه نحو التعويض بقدر ما اتجه نحو توفير مسكن جديد للإنسان الذي انتُزع من مسكنه، أي نحو إعادة الاستيطان، ونحو الاعتراف بالحاجة إلى حماية مثل أولئك الأشخاص من الاضطهاد، إما في بلد لجوئهم وإما في بلدهم الأصلي في حال أُرغموا على العودة إليه. هذه إذن الأُطُر العامة التي ما زالت تحدد النقاش الدائر حول اللاجئين والمهاجرين في أوروبا الغربية، وقبل ذلك في الحملة الهادفة إلى إرغام الاتحاد السوفييتي السابق على السماح للمواطنين اليهود بالهجرة إلى إسرائيل».
في المقابل يمثل الشتات الفلسطيني الجغرافيا الأكبر من بين الجغرافيات التي تشكل الهوية الفلسطينية، في القدس والضفة والقطاع والداخل المحتل، دون أن ننسى المجتمع الفلسطيني في السجون الإسرائيلية التي أطلق عليها عبدالرحيم الشيخ «الجغرافيا السادسة». وفي المشرق العربي، حيث المخيمات الرسمية للأونروا، في لبنان والأردن وسوريا، يعيش اللاجئون الفلسطينيون أوضاعاً مختلفة باختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية للدولة المضيفة ووفقاً للتغيرات التي تطرأ على علاقتها بمنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية الأخرى، معرَّضين بصورة مستمرة لردات الفعل الناجمة عن تقلبات المزاج المحلي.
كثيراً ما نظرت المجتمعات المستضيفة للاجئين كعبء اقتصادي وكتهديد أمني، والفلسطينيون في مخيماتهم لم يكونوا مستبعدين من هذه النظرة. كتاب «اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان» بتحرير آري كنودسن وساري حنفي، الصادرة ترجمته عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضروري في هذا الصدد، إذ يدرس فيه أكثرُ من باحث، ومن زوايا شتى، مأساة المخيم بعمق وآثار التمزق الديموغرافي والجغرافي للهوية الفلسطينية وشروط العيش والعمل والحقوق المدنية في مخيمات اليرموك ونهر البارد وشاتيلا، كما يفحص النظرة الأمنية التي حاصرت المخيم الفلسطيني باعتباره مصدر تهديد دائم قابل للانفجار أو «مختبراً لشتى أنواع الإسلام السياسي».
على مدى العقود السبعة الماضية، وفي أحسن الأحوال، جرى التعامل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لما يدعوه جابر سليمان في الكتاب بالمقاربة الإنسانية؛ والتي لا ترى في حالة اللاجئ سوى الوجه الإنساني البائس الذي يستحق العطف والإغاثة وتحسين شروط الحياة، في مقابل تهميش المقاربة السياسية - الحقوقية التي تنصُّ على أن القضية الفلسطينية بكاملها، بما فيها قضية اللاجئين، هي قضية حقوق سياسية وقانونية لا يمكن تسديدها إلا بـ«حق العودة» العبارة العريقة التي تنأى وتقترب من المجاز بين جيل وآخر، لكنها لم تزل تمثل أقوى اختزال أدبي للحق الفلسطيني حتى اليوم.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني