يشكل الزمن ارتباطًا عضويًا بكل مكونات الحياة وتفاعلاتها المختلفة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هناك مسار تفاعلي دون أن يكون للزمن مساحته المستحقة؛ سواء في تشكيل هذا المسار، أو في مجموعة التفاعلات التى تؤول إلى إنجازه أو فشله على حد سواء، فالطفل الذي في الحظة الآنية تلده أمه يتلقفه الزمن عبر مساحة ممتدة، بقدر ما كتب له من عمر من لدن خالقه ذي العزة والجلال الله سبحانه وتعالى، وليتخيل أحدنا كيف يتوغل الزمن في كل مجريات حياته اليومية، بدءًا من صرخته الأولى، وحتى صرخته الأخيرة، حيث نزعة الروح من الجسد، فهل يمكن قبول فكرة أن مرحلة من مراحل هذا المخلوق تجاوزت لحظة زمنية معينة دون أن ينغمس فيها وتنغمس فيه؟ لا يمكن إطلاقًا، ولذلك يأتي تقسيم مراحل التكون لدى الإنسان (الطفولة، الصبا، الشباب، الشيبة، الكهولة) وفق المساحة الزمنية لكل مرحلة، ولا يمكن أن تتداخل المراحل الزمنية في هذا الترقي الجسدي، والفكري، على حد سواء لأي إنسان في هذه الحياة الدنيا.

وكما تنطبق الصورة أعلاه على الإنسان، هي ذاتها على أي كائن حي، فالحياة مرتبطة بالزمن، بخلاف مرحلة الموت «البرزخ» فهذه تبقى من علم الغيب عند الله، أما الزمن الحاضر في حياتنا اليومية، فنوهم أنفسنا في كثير من الخيال أننا نستقطع منه المساحة التي نريد؛ لتسهيل مجريات حياتنا اليومية، مع أن الحقيقة غير ذلك تماما، فهو الذي يأخذ منا عمرنا، وصحتنا، ومساحة الرزق، ومساحة الخير، ومساحة الشر، ومساحة الرضى والغضب، والحب والكره، ويبقى في المستحيل المطلق أن نتجاوز أي لحظة زمنية دون تأخذ منا استحقاقاتها الملزمة تنفيذها، ولعل في العبارة المشهورة: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» تظل بالغة الدلالة في هذا الأمر، ومن هنا فإن لم يتم استغلال الزمن بكل حيثياته الدقيقة، فإن التفريط فيه خسارة كبيرة لا تتعوض بأي شكل من الأشكال، ولذلك فالذين حاولوا التلاعب بالزمن خسروا خسارة كبيرة، سواء في أعمارهم، أو في أرزاقهم، أو في علاقاتهم مع من حوله، وبالتالي فأي خسارة في مساحة الزمن لن تعوض مطلقا، ولذلك هناك من يخطئ خطأ فادحًا من خسر شيئًا ما، عندما يقول: «سأعوض ذلك في المستقبل» فمستقبل الشيء هو حاضره، وليس غده، فالغد مرهون بزمن مختلف، وبأشخاص مختلفين، وبظروف مختلفة، وأي فرد لن يعيش عصرين متتاليين؛ لأن العمر المتاح له مرة واحدة فقط، فإما أن يكون فيه، أو أن يسقط نفسه منه، ومتى أسقط الإنسان نفسه من زمنه، فلن يجد زمنا يعوضه. يحب كثير من الناس ترديد عبارة: «العمر مجرد رقم» وهذه -في تقديري- مقولة حق يراد بها باطل، فالحق يقال إنَّ كل منا له رقم زمني، هذا عمره عشرة أعوام أو أقل، وآخر عمره خمسون عامًا أو أكثر؛ فهذا حق لا يمكن إنكاره، أما الباطل المبطن في المقولة، وهو أن لك أن تعيش على فوضويتك المعتادة، وتغتال قيمك، وتناصر شهواتك، وتغض الطرف عن أخطائك، وتوهم نفسك أنك ما زلت شابًا من حقه أن يستمتع بكل ما تصل إليه يده، دون أن يكون لثقل العمر دور في تحييدك عن السقوط في براثن الضياع، فالسقوط في العمر المتأخر مصيبة كبيرة، ومن يتعمده يرتكب جريمة مزدوجة في حق نفسه، وليس يسيرًا غفرانها.

ومع كل ما ورد أعلاه، يظل الزمن فرصة ذهبية لأي مخلوق -وفي مقدمتها الإنسان- أن يستثمره في كل تفاصيل حياته اليومية، ومتى حقق أحد من الناس ذلك، يمكن أن يكون غنيًا، عالمًا، حكيمًا، مصلحًا، قائدًا، موجهًا، وغير ذلك كثيرًا.