أنماط الغناء الوظيفي أي التي كانت تؤدى أثناء أداء الأعمال المختلفة في البر والبحر هي الأكثر عرضة لعملية الانقراض، والواقع أن المجتمع والطبيعة يشهدان معًا الكثير من المتغيرات والتحولات. فمنذ سنوات مثلا، والنباتات المحلية غير الشوكية التي تنبت في موسم الأمطار بريف صلالة لا يسمح الرعي لها أن تنمو وتعوض موت الأشجار الكبيرة، فينتهي بها الأمر مبكرًا في بطون الماشية، وهذه ملاحظة شخصية شاهدتها على مدى سنوات. لهذا زاد نمو الشوكيات من الأشجار وقل المسالم منها غير الشوكية التي لا تستطيع حماية نفسها من التهام الحيوانات. ولكن النشاط الزراعي لأنواع المحاصيل والأشجار الاستوائية المثمرة يبدو خيارًا مناسبًا لسكان الريف هنا، بسبب القدرة على حمايتها من جهة وفائدتها الاقتصادية والبيئية من جهة أخرى. وهكذا يبدو أن التهديد بالانقراض ليس محصورا بالموروثات الثقافية الموسيقية فحسب بل وكذلك أصاب أنواعا أخرى من الموروثات الطبيعية النباتية.
إن علاقة الإنسان العُماني بالأرض تبدلت، وأنواع الأعمال القديمة تغيرت، مما أدى إلى اختفاء أغاني العمل وتوارثها، وفي هذا السياق سجل الدكتور يوسف شوقي في معجم موسيقى عُمان التقليدية واحدة من أغاني العمل المنقرضة منذ الثمانينيات وهو غناء «التصييف»، الذي يصاحب حصاد الحنطة والشعير. فمثل هذا النشاط كان يقوم به المواطنون، أما اليوم هو دور العمال الوافدين. من هنا أعتقد أن أغاني أو شلات المزارعين في كل البلاد من شمالها إلى جنوبها ممكن عدها من المنقرضات أو شبه المنقرضات، ويستطيع المهتم بهذا الأمر متابعته في الواقع ومقارنته بما ورد في معجم موسيقى عُمان التقليدية الذي هو المرجع الأساسي لهذا القراءة المتواضعة. ورغم أن جزءا كبيرا من هذا الموروث لا يزال محفوظًا مع بعض الناس حملة هذا الموروث الغنائي، إلا أنه مهدد بالانقراض بسبب الانقطاع في حلقات التوارث وفقدان الدور الوظيفي والأنشطة الاجتماعية والثقافية المساندة من عادات احتفالية بالمواسم المختلفة.
موضوع المنقرضات من فنون الغناء معقّد ولا يستطيع هذا المقال أو المقالات السابقة ذات الصلة إعطاء إجابة شاملة وافية أو اقتراح الحلول بشأنها ولكنه قد يساعد على ذلك. ومن الواضح أن أنماط عديدة من أغاني المجتمع القديم قد أصابها الانقراض، ولنأخذ مثلا أغاني الرعي التي كانت يؤديها الرعاة في مختلف المحافظات، أو غناء جمع الحطب (التعاويب) التي تحولت ألحانها ونصوصها إلى ذكريات لكبار السن، ذلك أن مطبخ اليوم لا حاجة له للحطب، وطالب غاز الطبخ لا يسلي نفسه بغناء التعاويب، وصانع الحلوى العُمانية الذي يضع سعرا أعلى لتلك التي يصنعها على نار الحطب، يوكل تنفيذ المهمة للعامل الوافد الذي قد يقضي يوم عمله بالاستماع بواسطة جهاز الهاتف إلى أفضل الأغاني من بلاده البعيدة بصوت مطربيها المحترفين.
وهكذا من المهم ذكره في هذه المناسبة أن أغاني عمال السفن التجارية هي الأخرى من المنقرضات أو أنها لم تعد تخدم مناسباتها الأصلية وأصابها الاستبدال الوظيفي ومنها الشوباني والمديما أو المديمة، فلا سفن شراعية تبحر اليوم من الموانئ العُمانية للتجارة مع موانئ البحار البعيدة أو القريبة، وإنما هي السفن المحملة بالنفط والغاز والحاويات المحملة بأنواع البضائع من المصانع العُمانية أو المستوردة والتي يعمل فيها عمال من جنسيات مختلفة، ليسوا بحاجة إلى رفع شراع ولا باورة، وكل أمورهم تسير بالتكنولوجيا.
يظهر هذا المقال المتواضع جانبًا من عمق التحولات الاجتماعية والثقافية التي جرت خلال السنوات الماضية والمحصلة التي نحن عليها اليوم من تغير وتبدل في أنماط الحياة والذوق الفني. ولكن ما العمل في ظل هذا الواقع؟ وما معنى المحافظة على التراث الموسيقي؟ وما أدوات هذه المحافظة؟. وهل التراث الموسيقي أنماط فنية وألحان وضروب إيقاعية وأداء حركي فقط أم كذلك الثقافة ذاتها التي صنعت هذه الأنماط؟.
من وجهة نظري على الأقل، الناس تميل اليوم نحو الاستمتاع الفني والجمالي بالأعمال الفنية الموسيقية وغير الموسيقية، ذلك أن الساحة الثقافية المعاصرة لم تعد مقتصرة على أنماط الغناء الوظيفي القديم كما كان الواقع قبل خمسين سنة على الأقل، فالواقع الثقافي والفني يعج اليوم بالفنانين الموسيقيين والشعراء والكتاب والتشكيليين والمصورين والسينمائيين والمسرحيين، ومشاريعهم الثقافية متنوعة تتطلع إلى أن تلعب دورًا فاعلًا في صياغة التوجهات الثقافية والفنية للمجتمع المعاصر والتشابك مع جيل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وموسيقى الإنترنت.
مسلم الكثيري موسيقي وباحث
إن علاقة الإنسان العُماني بالأرض تبدلت، وأنواع الأعمال القديمة تغيرت، مما أدى إلى اختفاء أغاني العمل وتوارثها، وفي هذا السياق سجل الدكتور يوسف شوقي في معجم موسيقى عُمان التقليدية واحدة من أغاني العمل المنقرضة منذ الثمانينيات وهو غناء «التصييف»، الذي يصاحب حصاد الحنطة والشعير. فمثل هذا النشاط كان يقوم به المواطنون، أما اليوم هو دور العمال الوافدين. من هنا أعتقد أن أغاني أو شلات المزارعين في كل البلاد من شمالها إلى جنوبها ممكن عدها من المنقرضات أو شبه المنقرضات، ويستطيع المهتم بهذا الأمر متابعته في الواقع ومقارنته بما ورد في معجم موسيقى عُمان التقليدية الذي هو المرجع الأساسي لهذا القراءة المتواضعة. ورغم أن جزءا كبيرا من هذا الموروث لا يزال محفوظًا مع بعض الناس حملة هذا الموروث الغنائي، إلا أنه مهدد بالانقراض بسبب الانقطاع في حلقات التوارث وفقدان الدور الوظيفي والأنشطة الاجتماعية والثقافية المساندة من عادات احتفالية بالمواسم المختلفة.
موضوع المنقرضات من فنون الغناء معقّد ولا يستطيع هذا المقال أو المقالات السابقة ذات الصلة إعطاء إجابة شاملة وافية أو اقتراح الحلول بشأنها ولكنه قد يساعد على ذلك. ومن الواضح أن أنماط عديدة من أغاني المجتمع القديم قد أصابها الانقراض، ولنأخذ مثلا أغاني الرعي التي كانت يؤديها الرعاة في مختلف المحافظات، أو غناء جمع الحطب (التعاويب) التي تحولت ألحانها ونصوصها إلى ذكريات لكبار السن، ذلك أن مطبخ اليوم لا حاجة له للحطب، وطالب غاز الطبخ لا يسلي نفسه بغناء التعاويب، وصانع الحلوى العُمانية الذي يضع سعرا أعلى لتلك التي يصنعها على نار الحطب، يوكل تنفيذ المهمة للعامل الوافد الذي قد يقضي يوم عمله بالاستماع بواسطة جهاز الهاتف إلى أفضل الأغاني من بلاده البعيدة بصوت مطربيها المحترفين.
وهكذا من المهم ذكره في هذه المناسبة أن أغاني عمال السفن التجارية هي الأخرى من المنقرضات أو أنها لم تعد تخدم مناسباتها الأصلية وأصابها الاستبدال الوظيفي ومنها الشوباني والمديما أو المديمة، فلا سفن شراعية تبحر اليوم من الموانئ العُمانية للتجارة مع موانئ البحار البعيدة أو القريبة، وإنما هي السفن المحملة بالنفط والغاز والحاويات المحملة بأنواع البضائع من المصانع العُمانية أو المستوردة والتي يعمل فيها عمال من جنسيات مختلفة، ليسوا بحاجة إلى رفع شراع ولا باورة، وكل أمورهم تسير بالتكنولوجيا.
يظهر هذا المقال المتواضع جانبًا من عمق التحولات الاجتماعية والثقافية التي جرت خلال السنوات الماضية والمحصلة التي نحن عليها اليوم من تغير وتبدل في أنماط الحياة والذوق الفني. ولكن ما العمل في ظل هذا الواقع؟ وما معنى المحافظة على التراث الموسيقي؟ وما أدوات هذه المحافظة؟. وهل التراث الموسيقي أنماط فنية وألحان وضروب إيقاعية وأداء حركي فقط أم كذلك الثقافة ذاتها التي صنعت هذه الأنماط؟.
من وجهة نظري على الأقل، الناس تميل اليوم نحو الاستمتاع الفني والجمالي بالأعمال الفنية الموسيقية وغير الموسيقية، ذلك أن الساحة الثقافية المعاصرة لم تعد مقتصرة على أنماط الغناء الوظيفي القديم كما كان الواقع قبل خمسين سنة على الأقل، فالواقع الثقافي والفني يعج اليوم بالفنانين الموسيقيين والشعراء والكتاب والتشكيليين والمصورين والسينمائيين والمسرحيين، ومشاريعهم الثقافية متنوعة تتطلع إلى أن تلعب دورًا فاعلًا في صياغة التوجهات الثقافية والفنية للمجتمع المعاصر والتشابك مع جيل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وموسيقى الإنترنت.
مسلم الكثيري موسيقي وباحث