بعد أكثر من أربعين ساعة متواصلة غادر آخر القتلة أزقةَ صبرا وشاتيلا، المكانَ الذي صار اسمُه من بعدهم عنوانا لواحدةٍ من أبشع المجازر في تاريخ القرن العشرين. أيدٍ مرتجفة سرَّبتْ لنا المشهد من المسرح المغلق على ضحاياه. لكن مشاهد الفيديو المتذبذبة لن تُذيع فينا حرارة الدم الطازج في وهج الظهيرة ولا رائحة الموت في المكان حين تختلط برائحة النجاسة. من الواضح أن عدسات التصوير قد أصبحت اليوم أكثر دقةً مقارنةً بما كانت عليه في ثمانينيات القرن الماضي، مع ذلك، فإنها إلى اليوم لم تتطور بعدُ بما يكفي لتقول للمتفرجين شيئا عن الرائحة والحرارة، وإلا ماذا؟ ماذا لو أفصحت الكاميرات عن الرائحة والحرارة؟ سيصبح التصوير حينها سلاحا آخر كفيلا بالقضاء على الجنس البشري وسائر الكائنات الحية بفعل إشعاع صور القتلى وتلوث الهواء برائحة اللحم البشري الفاسد. فهل ستقتلنا آلات التصوير؟! ربما، ولكن ليس الآن.

الصحفي النرويجي أود كارستن تفايت، المتخصص في تغطية أحداث الشرق الأوسط لصالح هيئة الإذاعة النرويجية، كان في بيروت. يَذكر أنه شاهد القنابل الضوئية وهي تنير سماء المخيمات بعد غروب شمس الخميس، 16 سبتمبر 1982، فظن أن خطبا ما خطيرا يدور هناك. في اليوم التالي للمجزرة دخل تفايت إلى مخيم شاتيلا حاملا آلة تصويره المرتعشة، وكان من أوائل الصحفيين الغربيين الذين غطوا الحدث. صُعق بحجم الكارثة ولم يصدِّق ما رأته عيناه. أحس بالغثيان في البداية، ثم شرَع يعد الضحايا وهو يتقيأ على جانبي الأزقة بينما كانت الكاميرا مفتوحة على جثث متورِّمة لرجال وأطفال ونساء كان قد مضى على ذبحهم أكثر من يومين حتى الظهر من يوم السبت، 18 سبتمبر 1982.

قُبيلَ ظهر السبت كان قد وصل إلى شاتيلا أحد أبرز الصحفيين الغربيين الذين عرفوا لبنان والمنطقة لسنوات طويلة. تلقى روبرت فيسك، مراسل التايمز آنذاك، أخبارا عن جريمة تحدث في مخيمات الفلسطينيين ببيروت الغربية تحت إشراف الجيش الإسرائيلي. وعند وصوله كان طنين الذباب الأزرق الكبير هو أول ما لفت انتباهه إلى أن المخيَّم قد شهد خلال الساعات الماضية مجزرةً أكثر بشاعة مما كان يتخيل. وفي كتابه «ويلات وطن: صراعات الشرق الأوسط وحرب لبنان» سجَّل فيسك في شهادته قائلا: «في البدء لم نستخدم كلمة «مجزرة» ولم نتكلم كثيرا لكي لا يجد الذباب طريقه مباشرةً إلى أفواهنا وفي حين أن رائحة الموتى في صيدا سببت لنا الغثيان، فإن رائحتهم في شاتيلا جعلتنا نتقيأ».

وكما يخطر لأي صحفي سيُسأل لاحقا عن الأرقام بدأ فيسك وزميلاه بإحصاء الجثث، ولكن «بعد أن أحصينا مائة جثة، توقفنا عن العد»! كانت هذه عبارة فارقة في شهادة فيسك، الشهادة التي كان من الأسهل كتابتها «بلغة الفحص الطبي الذي لا يرحم» كما يقول، حين بدا أن الصُور تستعصي على لغة الوصف العادي. فيسك، الذي بقي حتى وفاته (30 أكتوبر 2020) واحد من أكثر المدافعين الأوفياء عن ضحايا المجزرة، ترك شهادةً هي من أهم الوثائق التي تكشف حقيقة ما دار بين غروب الخميس إلى ظهر السبت، ووصف بدقة بالغة مشاهداته التي يصعب إعادة وصفها دون أن تُقتبس منه حرفيا، كوصفه المروع لاثنتي عشرة جثة لشبان صغار كانت مكوَّمة فوق بعضها قرب مدخل المخيم: «كانوا يرتدون الجينز والقمصان الملونة التي ضاقت عليهم بعد أن انتفخت أجسادهم بسبب الحرارة».

ظهيرة يوم الجمعة، وفي الوقت الذي كان فيه أرئيل شارون يراقب العمليات بمنظاره من على سطح إحدى البنايات المطلة على المخيم، كان أربعة جنود إسرائيلين يفتشون بيت بيان نويهض بحثا عن زوجها شفيق الحوت، مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، الذي كان في طريقه إلى نيويورك لمناقشة القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة. وقبل أن ينصرف الجنود كانت صدمة بيان نويهض حين سألها قائدهم، روبرتو براك، واحدا من أصعب الأسئلة التي مرَّت عليها طيلة حياتها: «أتشهدين على أننا كنا متحضرين معك؟» لكن صدمتها الكبرى كانت بانتظارها ظهيرة اليوم التالي حين تلقت صوت مذيع مونت كارلو الدولية وهو يعلن عن المجزرة ويسرد أحداثها بصوت مختنق بالبكاء.

بعد عشرين عاما تستعيد المناضلة والمؤرخة الفلسطينية، بيان نويهض الحوت، هذه الحادثة وهي تكتب مقدمة كتابها «صبرا وشاتيلا أيلول 1982» الصادر عام 2003 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. يأكلها شعور بالذنب كلما تذكرت إجابتها المترددة على سؤال الضابط الإسرائيلي، قائلةً له: «لقد كُنتم معي أكثر تمدنا مما تصورتُ، لكنني لم أكن معكم في بيوت أخرى لأعرف كيف تتصرَّفون». هذا الكتاب هو رد بيان نويهض الحقيقي، بل هو رد الضحايا الناجين أنفسهم على المجزرة. فهو مشروع للتاريخ الشفهي حيث يروي الشهود وذوو الضحايا رواياتهم كما عاشوها. وإلى الآن ما زال هذا الكتاب هو المرجع الأشمل والأكثر تفصيلا عن ساعات صبرا وشاتيلا بين غروب الخميس إلى ظهر السبت. ولم يفت المؤلفة أن تشير إلى أن رواية صبرا وشاتيلا لن تكتمل بصوت الضحية وحدها، محورِ هذا الكتاب، دون أن تُكتب وتقرأ شهادات واعترافات من الجانب الإسرائيلي ومن جانب الميليشيات المسيحية: «لا تكتمل الصورة إلا حين يكبر بما فيه الكفاية هؤلاء الشهود من الضباط والجنود الإسرائيليين، أو من المهاجمين؛ فهؤلاء الذين كانوا بالمئات، هؤلاء الذي راقبوا المجزرة أو شاركوا فيها، وهم في سن العشرينيات أو الثلاثينيات، هؤلاء لا بدَّ من أن يتحدث بعضهم عن ذكرياته بعد أن يتقاعد».

وبالرغم مما كُشف وكُتب عن مجزرة صبرا وشاتيلا على مدى العقود الأربعة الماضية، لا بدَّ أن صوتا غائبا أو روايةً مفقودةً أو مشهدا مهددا بالنسيان يستحق منا- نحن ورثة الحكاية- أن نبحث عنه، وأن نحجز له مساحةً من النص كي نعيده للتداول. إنني أكتب عن صبرا وشاتيلا اليوم، بعد اثنين وأربعين عاما، لأنها -ببساطة- حدث لم ينته؛ لأن القتلة لم يحاسبهم أحد، ولأن الضحايا لم يعوضهم أحد، ولأن صبرا وشاتيلا قد أصبحت كما يقول روبرت فيسك: «نُصبا تذكاريا لمجرمين أفلتوا من المسؤولية كما أفلتوا من العقاب». بل ردوا عليها ببجاحة عنصرية تذكر بمناحيم بيجن حين علَّق على المجزرة أمام الكنسيت: «أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصا غير يهود، ففي أيّ شيء يعنينا ذلك؟».

لم تزل صبرا وشاتيلا صدمةً مروعةً في وعي الهوية الفلسطينية بنفسها. وهي اليوم شُرفة الأمس التي نطلَّ من خلالها على المجزرة المتجددة يوميا أمام عيوننا في غزة. فإن كان فلسطينيو صبرا وشاتيلا قد ذبحو سرا في الصمت والظلام، فها هم فلسطينيو غزة، يذبحون في عري العراء وفي البث المباشر فماذا عسانا نقول لضمائرنا؟!