غالبا ما يلاحظ المشتغل في حقـل الفلسفة - والفلسفة السـياسيـة على وجـه خـاص - تلك الفـجـوة الهائلـة التي تـفـصل المفـاهـيمَ السـياسيـةَ، في صيـغـتها النـظـريـة المجـردة، ومـوضوعـاتـها - بعضَها عن بعض - على نحـو ما تتجلـى في الواقـع التاريـخي. ينبغي أن لا يُـنْـظَـر إلى تلك الفجـوة بوصفـها عوارا أو قرينـة على طـوبـويـةِ الفـلسفة أو بـرانـيـةِ التـفكيـر الفلسفـي عن الواقـع الموضـوعي؛ لأن هـذه طبيعة أيِ معرفة: أكانت نظـريـة - من نوع المعـرفة الفلسفـيـة - أو عمليـة تجريبيـة، من نوع علـوم الطبيعة. هـذه جميعُها، وعلى تفاوُت، معـارف مفارِقـة للموضـوع المحسوس ومجـرَدةٌ التجـريدَ الذي لا نُـدْحـةَ عنه لبنـاء معرفة بذلك الموضوع، لذلك تبدو الفجـوةُ - دائـما - قائـمـة بين الظـاهـرة، كما هـي في العالم الخارجـي، والمعرفـة (معـرفـتِـها) التي تجـري في الذهـن أو في المخـتَـبر، فتحمل على ظـن خاطـئ بعدم مطابـقـةِ المعرفة لموضوعاتها أو بنقـص ما يشوبُـها ويمنعها من أن تكـون معرفـة موضوعـيـة.

لا تُـشـبه صورةُ الدولـة، كما رسـمتْـها فلسفـةُ أرسطـو في كتابـه السياسيـات، صورةَ أي دولـة واقعـيـة قامت في الفضاء اليوناني. ومع ذلك، نعجـز عن فهـم عمـل الدول - في ذلك العهـد - إنْ لم نَـعُـد إلى كتاب أرسطـو ذاك؛ إذ فيـه - وحـده - مفاتيـحُ ذلك الفهـم. أما السبب فيَـكـمَـن في أن أرسطـو - الذي حلـل عشـرات الدساتيـر في كتابـه - اشْـتَـقَ مفهـوما مجـردا للدولـة ممـا بين الدولِ التي دَرَسَـها مـن مشتَـرَكـات. لذلك هـو لا يطابـِق الدولَ القائمـةَ بأعيانها وهـو - في الوقـت عـيـنِـه - يُـطْـلِعـنا على السـمات العامـة للدولـة التي نعـثُـر عليها في هـذه الدولـة أو تلك. ويصْـدُق هـذا على مفاهيم سياسيـة أخـرى مثـل: الدسـتور، والمواطـن، ونظام الحكـم، والحـق، والواجـب... وسواها مما عَـرَض له أرسطـو في ذلك السِـفْـر المرجـعي. ويعني هـذا أن التـجـريد - وهـو تجـاوُزُ المحسوسِ والعيانـيِ - ليس انصـرافـا عن الواقـع أو مبـارَحـة له أو ابتعـادا عـنه، بـل هـو وسيلةٌ معرفـيـة للعودة إليه بوصـفـه - هـذه المـرة - مُـدْرَكـا عـقـلـيـا.

حين نستخدم المفهـوم، لا نلـتفـت إلى الصُـور العـيانـيـة المحسوسة التي يُحْـتـمـل أن يكـون عليها، كمـا لا يكـفيـنا ما ينطبـع على ذهـننا من صُـوَر واقعيـة مباشرة لإدراك معنى ذلك المفهـوم. نتحـدث، مثـلا، عن الدولـة الحديثة أو عن الدستـور. هـذا حديث مفهـومي يجـري بعيـدا عن عالم المحسوسات، عالـم الواقـع، أما في الواقـع فلا يـوجـد هناك شيءٌ اسمُـه دولة أو اسمُـه دستور، وإنـما تـوجد دولٌ متعـددة ودساتـيرٌ شتـى تختلف بينها. في هـذه الدول تقـوم أنظمـة حكم متعـددة: ملكيـة، جمهوريـة؛ وفي الحالين تختلف باختلاف نمـط توزيع السلطة فيها؛ فقد تكون رئاسيـة أو برلمانيـة أو تكـون السلطـة فيها متـقَاسَـمة بين الرئاسـة والبرلمان... إلخ، وقُـلِ الشيء نفسَـه عن دساتـير الدول واختلافاتـها. لكـن هـذه الفسيـفسـاء من عناصـر التـعدُد والاختـلاف فـي كـل ظاهـرة سياسيـة لا تمنع من تجريدها بغية بناء نموذج ذهـني ومفهـوم عـام لا بديل عنه من أجـل تـناوُل الظـاهـرة.

قـد يقال: هـذا شأن ظـواهـر السياسـة كما تـبدو في الفلسـفة، أمـا إذا مـا انتـقـلنا إلى العلـوم الاجتماعيـة والإنسانيـة فيخـتلف الأمـر؛ حيث يبـدو خطاب هذه العلوم (علم السياسة، مثلا، أو علم الاجتماع السياسي) أدنى إلى الاتصال بموضوعه من خطاب الفلسفة وأَدْعـى إلى استـكـناهـه في تجلـياته الماديـة المباشرة. ومع أن هـذا صحيحٌ، جزئـيـا، من حيث إن العلوم هـذه تتناول ظـواهـر السـياسة في واقـعها المباشـر وفي نظـام اشتغالها المادي، إلا أنـه ليس صحيحـا، أَلـبَـتـةَ، إنْ نحن قصدْنا بحُـكْمنا ذاك المعرفـةَ المتحقـقةَ من موقـع هـذه العـلوم؛ إذْ هـي - في وضعها الاعـتـباري - تشبـه المعرفـةَ الفلسفيـة في كونها تتوسَـل المفاهيم في الدرس والتحلـيل؛ وهـي (المفاهيـم) نتاج تـصوُرات نظريـة ناهيك بما تنطـوي عليه من تجريد. لا بـد، إذن، من الاعتـراف بتلك الحالة من عـدم المطابَـقة بين نظام المعرفـة وموضوعات العالم الخارجـي (السياسيـة في حالتـنا) بوصفها حالـة مفهـومة، تمـاما، مـن وجهـة نظـر المعرفـيـات (نظريـة المعرفة، فلسفة العلـوم، الإيـپـستيمولوجيا)، وبوصفها حالـة لا تطعـن في حُـجـيةِ المعرفة أو تشهد عليها بل من حيث هـي - عـكـس ذلك - تقـيـم الدَليل على وجـاهـة تلك المعـرفـة وتشهد لها. وهـل من شهادة لها أغنـى من أن يقال إنها ليست معرفـة حسـية مباشرة؛ حيث الحـس أدنـى المراتب جميـعا وأعلاها مظـنونـيـة؟

وكما أن المسافـةَ كبيـرةٌ بين النمـوذج الذهـني المجـرَد، الذي يعـبِـر عنه المفهـوم، والظاهرةِ كما هي في الواقع، في مباشـرِيَـتها العيانـيـة، كذلك هـي كبيـرةٌ - أيضـا - المسافـةُ بين ظـواهـر السياسة في مجتمعات بعينها وفي أخـرى. إذا كان مبْـنَـى الفجـوة الأولى على مبـدإ الاختلاف بين الفكـر والواقـع، المفهـوم والظاهـرة، فإن مبْـنى هـذه الفجـوة الثـانـيـة على مبدإ التـفاوُت في التـطور بين المجتمعات والدول، ومـدى ما حقـقـتهُ كـلُ واحـدة منها من تراكـم في مضمـار البناء والتـنميـة السياسيـيـن. لا تخضـع الدول والمجتمعات لوتيـرةِ تطـوُر واحـدة و، بالتـالي، لا تَـقْبـل النظـرَ إليها جميعِها من الزاويـة عـينِها، ولا إطـلاقَ الأحكـام نفسِها عليها. قـد يقـال إن هناك حـدا معلـوما لتعريف الأشياء والظـواهـر لا يُخـتَـلَـف عليه هـو حدُهـا الأدنى المشتَـرك، أي الحـد الذي تجـوز فيه تسميةُ كيـان بأنه دولة، وهيئـة بأنـها سلطـة، وعلاقـة بأنها مواطَـنة...إلخ؛ وهـذا صحيح لا مِـرْيـةَ فيه، ولكن مَـن قـال إن هـذا الحـد المشترك يُطْـلِعنا على تلك الظاهـرة التي نُدخـلها تحته في كيانيـتها الخاصـة أو في اختـلافـها عن غيرها الذي يُشـبهـها في المشـتَـرَك العـام من السمـات من غير أن يتشابها في شروط التـطـور؟ لا بـد، إذن، من التسليـم بصلة أي ظاهـرة سياسيـة بشروطها الخاصـة المجتمعيـة من أجل إحسان معرفـتها.